وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 28 يونيو 2013

سورية في ناظر "قديس" معاصر: إشفاق أم إخراس ضمير؟

بول فالليلي (الصحافي، رئيس التحرير المشارك في الـ"إندبندنت" البريطانية، وليس الجنرال الأمريكي المتقاعد)، ناشط بارز على الأصعدة الإنسانية والإغاثية، وصديق للثقافات غير الغربية، ومناصر للمجتمعات النامية؛ وهو صحافي شجاع، سبق له أن غطّى مناطق عديدة ساخنة في أفريقيا بصفة خاصة، وكشف سلسلة من الفضائح المرتبطة بالمجاعات والحروب الأهلية. إنه، أيضاً، صاحب عدد من المؤلفات المتميّزة في شؤون الدنيا والدين، بينها "السامريون الفاسدون: أخلاق العالم الأول ودَيْن العالم الثالث"، 1990؛ "أرض الميعاد: أقاصيص السلطة والفقر في العالم الثالث"، 1992؛ "السياسة الجديدة: التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية للقرن الواحد والعشرين"، 1999؛ "مكان للخلاص: مقاربة مسيحية للعقاب والسجن"ن 2004؛ واشتهر بمقالة لامعة حملت العنوان الجسور: "الحملة الصليبية الخامسة: جورج بوش ومَسْيَحة الحرب في العراق".

لكنه، بسبب من هذه الاعتبارات المهنية والسلوكية، ولأنه يُلقّب بـ"القدّيس المقيم" في صحيفة الـ"إندبندنت"، يصلح نموذجاً معيارياً في تلمّس شريحة من المواقف تجاه الملفّ السوري، التي صدرت وتصدر عن نمط خاصّ من الكتّاب والناشطين في الغرب. وهؤلاء تجمعهم المسيحية، بوصفها مرجعية أخلاقية عريضة بصدد مختلف الجوانب الإنسانية في الحياة المعاصرة (بينها شؤون الإجهاض والعلاقات الجنسية المثلية ورعاية الطفولة والأمومة وعواقب الحروب الأهلية والكوارث الطبيعية عموماً)؛ كما تتلاقى مشاربهم، وبعض خلافاتهم العقائدية، تحت مظلة واحدة، عريضة بدورها، هي تنظيم حملات التبرّع والإغاثة. ولعلّ امتياز فالليلي أنّ مواقفه لم تتخذ صفة السكون والثبات على خطّ واحد متماثل، بل تحركت وتبدلت وتقلبت؛ ولها، في هذه السمة تحديداً، فضيلة إذكاء السجال واقتياده إلى مستويات أكثر ديناميكية.

ففي موقف أوّل، يعود إلى مطلع العام 2012، كتب فالليلي مقالة بعنوان "انتزع السوريون الخوف من قلوبهم. هل آن أوان منطقة حظر جوي؟"؛ امتدح فيها اتساع نطاق التظاهرات الشعبية، وامتدادها للمرّة الأولى إلى دمشق، فازدادت أعداد المتظاهرين في عموم سورية من عشرات الآلاف إلى مئات الآلاف. كذلك انتقد سلوك نظام بشار الأسد، وراعه أنّ عدد القتلى تجاوز الخمسة آلاف، وأنّ تعهدات السلطة بتطبيق بنود مبادرة الجامعة العربية ذهبت أدراج الرياح. ولقد توقف عند عدد من التطورات الإيجابية، مثل سقوط حاجز الخوف، والشجاعة الجلية التي أخذ يتحلى بها المواطن السوري العادي، والتململ في صفوف النخبة من الضباط أبناء الطائفة العلوية تحديداً (أشار إلى أنهم يشكلون نسبة 80 في المئة من مجموع ضباط الجيش السوري)، وارتفاع أعداد المنشقين عن الجيش...

لكن فالليلي شدّد على أنّ مصير النظام مرتبط بثلاثة عوامل: انقلاب مواقف النُخَب المدينية، ورجال الأعمال والمال تحديداً، من تأييد النظام إلى مناهضته، أو التوقف عن تمويله على الأقلّ؛ وانهيار الاقتصاد السوري، نتيجة الركود، وتراجع الصادرات، وانحسار الموارد، وآثار العقوبات الاقتصادية؛ وأخيراً، تحوّل الموقف الروسي من مساندة النظام بقوّة، إلى الضغط عليه. وكان لافتاً أن ذلك الموقف، المبكّر نسبياً في تفكير فالليلي حول الشأن السوري، لم يأتِ نهائياً على ذكر إيران، أو "حزب الله"؛ كما لم ينطو على أية إشارة، أو حتى تلميح، إلى طابع طائفي أو مذهبي داخل مشهدية الانتفاضة السورية، ممّا يرجح الافتراض بأنّ فالليلي لم يكن يحتسب هذا كلّه في عناصر الصراع، وبالتالي كان يستبعده عملياً.

إلا أنّ فالليلي يدرج هذه العناصر كلها، ويستزيد أيضاً، في مقال كتبه بعد ستة أشهر فقط، وسار عنوانه هكذا: "ثمة خطر في أن تتحوّل سورية إلى حرب طائفية شاملة". صحيح أنه يبدأ بسرد الكوارث الإنسانية التي أخذ الشعب السوري يعاني منها، وفظاعات المجازر الجماعية والقتل وبتر الأعضاء، خاصة في صفوف الأطفال؛ وأنه يعتبر سخط العالم تجاه تلك الأهوال محض ردّ فعل "عقيم"، خاصة بعد اتضاح أدلة دامغة على تورّط النظام في الغالبية الساحقة من تلك الجرائم، وفي 23 مجزرة على الأقلّ؛ إلا أنّ فالليلي، وبعد الركون إلى مزيج من مشاعر الإشفاق والإدانة، يجنح إلى الجزم بأنّ المشكلة طائفية ومذهبية، تضرب بجذورها في "هذا البساط القياميّ المُحاك من أكثر خيوط عصرنا إشكالية"!

خيط أوّل، هو رغبة الولايات المتحدة في شرق أوسط مستقرّ، يضمن تدفق النفط الذي يظلّ عماد الصناعة المعاصرة؛ وخيط ثانٍ هو روسيا والصين وإيران (التي تدخل إلى مشهد فالليلي، للمرّة الأولى بعد 15 شهراً على انطلاق الانتفاضة السورية!)، وما يشكله ائتلاف هذه الدول من "محور مقاومة" في وجه القوّة الكونية العظمى الباقية؛ وخيط ثالث هو إسرائيل، التي يتوجب على كلّ رئيس أمريكي أن يعاملها بحرص فائق، بالنظر إلى سطوة الناخب اليهودي. فما ذنب الشعب السوري إذا كانت هذه الخيوط تواصل حياكة البساط، وهل يتوجب التسليم بأقدارها، والتوقف استطراداً عن المضيّ بالانتفاضة حتى إسقاط النظام ونيل الحرية والكرامة؟ لا يبدو فالليلي مكترثاً بالإجابة على سؤال كهذا، قدر اكتراثه بربط الخيوط الثلاثة السالفة بآخر رابع، هو الذي صار عنده جوهرياً وحاسماً: النزاع بين السنّة والشيعة!

يتكيء فالليلي على معطيات إحصائية، بادىء ذي بدء: "معظم الـ 22 مليون سوري هم من السنّة، تحكمهم أقلية شيعية، من العلويين، تنتمي إليها عائلة الأسد. ومعظم المجازر نُفّذت استناداً إلى هذا الانقسام الطائفي"؛ منتقلاً إلى طور جديد في تفكيره، يُدخل منظمة "القاعدة" إلى المشهد السوري، ويتيح له الحديث عن مسؤولية عناصرها في استهداف المراقد الشيعية، وضريح السيدة زينب تحديداً. هنا ينتقل مزاج الإشفاق إلى ما يشبه إخراس الضمير حول طبائع أهوال حرب النظام ضدّ الشعب السوري، وفالليلي، الذي تفطر قلبه على ضحايا مجزرة الحولة مثلاً، صار الآن يرى طرازاً من المحاصصة السنّية ـ الشيعية في تنفيذ تلك المجازر؛ بما يُخرج النظام ذاته ـ أي منظومة الاستبداد والفساد والتوريث، العابر للأديان والمذاهب والطوائف والإثنيات ـ من معادلة الصراع... السنّي ـ الشيعي، حصرياً!

ها أنّ "قدّيس" صحيفة الـ"إندبندنت" يعود إلى مسألة الإسلام السياسي، وإلى أسئلة قديمة سبق أن أقضت مضجعه، قبل زمن طويل من اندلاع انتفاضات العرب، وما حملته في باطن قواها من صعود للتيارات الإسلامية، معتدلة كانت أم متشددة. ولعلّ من الحكمة الاكتفاء، هنا، بسؤال واحد طرحه قبل سبع سنوات، غير عجاف البتة في ما يخصّ السجال حول الإسلام السياسي تحديداً: هل تمكّن الإسلام، في السنوات والعقود الأخيرة، من إخراس الغرب؟ هكذا سار عنوان مقالته التي تفادت تقديم إجابة قطعية، ومالت في المقابل إلى وضع حيثيات السؤال (ولكن ليس وقائع السؤال ذاتها) في خلفيات عريضة عامة أبعدت المعنى عن روحية الجزم حول ما إذا كان الإسلام قد أفلح فعلاً في إخراس الغرب، خاصة بصدد حرّية التعبير، بوصفها واحدة من القِيَم الكبرى في الغرب.

هنا الوقائع التي سردها فالليلي: بابا الفاتيكان، السابق بالطبع، فشل للمرّة الرابعة على التوالي في إقناع المسلمين بأنه اعتذر بما يكفي عن اقتباسه (سيء التقدير، في نظر فالليلي) عبارة الإمبراطور البيزنطي الذي اعتبر الاسلام "شريراً وغير إنساني"؛ وفي إسبانيا، أقلع القرويون عن عادة قديمة توارثوها عن أسلافهم، هي حرق دمية تمثّل النبيّ محمّد، احتفالاً بانتصار المسيحيين على المسلمين في الأندلس؛ وفي فرنسا تلقى أستاذ للفلسفة تهديدات بالموت، ووُضع تحت حراسة أمنية مشددة، لانه كتب مقالاً ينتقد الاسلام (وهنا لا يرى فالليلي أنّ النقد ذاك كان مفرطاً أو مغالياً أو سيء التقدير)؛ وأخيراً، في برلين ألغى المسؤولون عن دار الأوبرا عرض "إيدومينو"، عمل موتزارت الشهير، مخافة إثارة غضب المسلمين، حيث أنّ أحدث إنتاج لهذه الأوبرا يتضمن مشهداً لم يكن موجوداً في الأصل، يجري فيه قطع رؤوس إله البحر بوسيدون، ويسوع، وبوذا، ومحمّد (ونعرف، طبعاً، لماذا لم يتجاسر المخرج هانز نيونفيلس،الذي اقترح المشهد سنة 2003، على إضافة شخصية يهودية مقدّسة إلى المجموعة!).

ولا ريب في أنّ الواقعة الأخيرة تمثّل حالة صريحة في الرقابة، ويستوي بالنتيجة أن تكون ذاتية مباشرة أم خارجية ناجمة عن ضغوط غير مباشرة، ومثلها موقف القرويين الإسبان من احتفالات الانتصار. ولا ريب، كذلك، في أنّ تهديد الفرنسي روبير ريديكر بالقتل جرّاء مقالته الناقدة للاسلام شكّل مصادرة عنيفة وغير متمدّنة، بل لعلّها غير اسلامية كذلك، لحقّه في التعبير عن رأيه (حتى إذا كانت أحكامه سطحية على نحو مذهل، ركيكة، تعسفية، استعراضية، وانتهازية بصفة خاصة في اتهامه النبيّ بأنه قاتل اليهود...). وغنيّ عن القول إنّ سلسلة تصريحات الأسف التي صدرت عن البابا السابق، ورغم أنّ أياً منها لم يرقَ بالفعل إلى مستوى الاعتذار الصريح الواضح البسيط، تدخل بدورها في نسق الرقابة الذاتية اللاحقة إذا جاز التعبير، خصوصاً وأنّ أقوال الحبر الأعظم لا يمكن أن تندرج في سياق حرّية الرأي والتعبير.

جوهر ما غاب عن مقالة فالليلي، وعن قسط كبير مما يدور السجال حوله هذه الأيام في ملفّ العلاقة بين الإسلام والعنف، لكي لا نتحدّث عن العلاقة بين الإسلام والإرهاب، هو الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنّ من السخف اعتبارها محض ظاهرة واحدة، متماثلة متطابقة) معقدة وشائكة ومتباينة، ليس من الحكمة أبداً ردّها إلى باعث عقائدي أو عقيدي واحد، أو حتى سلسلة أسباب ذات صلة بما يُسمى صراع الحضارات وحروب الثقافات. في عبارة أخرى أشدّ اختزالاً للمشهد: ثمة السياسة أوّلاً، وقبل العقائد، في علاقات الشعوب مع أنظمتها، الاستبدادية منها بصفة خاصة؛ وثمة ميزان القوّة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية، ثانياً؛ وثمة، ثالثاً، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على الجانبين.

وليس ارتداد مواقف فالليلي ـ من التعاطف مع الشعب السوري، وإدانة النظام بوصفه مرتكب المجازر؛ ومن الارتياع لمقتل خمسة آلاف سوري، إلى اعتبار مئة ألف قتيل منهم مجرّد ضحايا حرب مذهبية؛ إلى توزيع المسؤولية عن المجازر على الطرفين، وفق خطوط طائفية ومذهبية صرفة؛ وصولاً إلى الاكتفاء بإشفاق القلب، دون إعمال العقل النقدي الكفيل بإبصار عناصر المشهد كاملة، متداخلة ومتراكبة وجدلية، والانحياز على قضايا الشعوب بدل التنميطات الاستشراقية العتيقة ـ سوى ارتداد نحو منطقة صارت شائعة لدى فئات من المفكّرين والكتّاب والصحافيين، في الغرب خصوصاً؛ لا تذكّر بإسكات حرّية التعبير، بقدر ما تكشف ذلك الطراز المتخفي، والخفيّ، من إخراس الضمير!

الأحد، 23 يونيو 2013

أردواز الانتفاضة السورية

صدر في نيويورك، قبل أيام، كتاب جديد للأكاديمي الأمريكي، من أصل فلسطيني، شبلي تلحمي؛ بعنوان "العالم في أعين عربية: الرأي العام العربي وإعادة صياغة الشرق الأوسط"، عن دار النشر الأمريكية. والمؤلف يشغل كرسيّ أنور السادات للسلام والتنمية في جامعة ميريلاند، وهو زميل غير مقيم في مركز حاييم صبّان ـ معهد بروكنغز، وعضو في "مجلس العلاقات الخارجية"؛ كما يُعرّف، في الولايات المتحدة خصوصاً، كأحد أبرز الخبراء حول استطلاعات الرأي في العالم العربي. إنه، إلى هذا، صاحب كتاب شهير بعنوان "الرهانات: أمريكا في الشرق الأوسط"، صدر سنة 2003، وتناول المواقف العربية والإسلامية من حرب الولايات المتحدة ضدّ منظمة "القاعدة".

كتاب تلحمي الجديد يغطي موضوعات شتى، بينها هذه: الهويات العربية، ثورة المعلومات والرأي العام، "الجزيرة" بوصفها الفضائية التي يحبّ الأمريكيون أن يكرهوها، نظرة العرب إلى انتفاضاتهم، اتجاهات المواقف العربية من الولايات المتحدة وإيران ومسائل مثل الديمقراطية والمرأة والدين، فضلاً عن فصل خاصّ بعنوان "من 9/11 إلى ميدان التحرير: العرب في أعين أمريكية". مدهش، في المقابل، أنّ سورية، أو بالأحرى الانتفاضة السورية ("الانتفاضات السورية"، كما يفضّل تلحمي تسميتها بصيغة الجمع)، ليس لها إلا مقدار عابر وهامشي من الذكر، لا يتجوز ثماني مرّات، في إحصائي الشخصيّ، على مدى كتاب يقع في 232 صفحة! ومصدر الدهشة مزدوج، في أقلّ تقدير: أنّ هذه الانتفاضة ليست هاجس العرب، وحدهم، بل هاجس الأمريكيين أيضاً، من جهة؛ وأنها، من جهة ثانية، حاضنة يومية لتسعة أعشار الأسئلة التي يرجح تلحمي أنها محور انشغالات الرأي العامّ العربي.

ثمة مبرر أوّل، تقني وميداني على نحو ما، سبق للمؤلف أن أقرّ به، في التوطئة لاستطلاعات جامعة ميريلاند خلال الأعوام الماضية، مفاده أنّ فريق العمل الذي يتعاون معه استبعد الوقوف على آراء الناس في "بلد بوليسي" مثل سورية (وكذلك في العراق، وليبيا، لأسباب أمنية قد تكون مفهومة، جزئياً؛ ثمّ الجزائر وتونس واليمن والسودان وفلسطين وقطر والكويت والبحرين، لأسباب يصعب أن تكون مقنعة)؛ فاكتفى باستبيانات شملت مواطني ستة بلدان عربية فقط، هي مصر والأردن ولبنان والمغرب والسعودية والإمارات العربية. وثمة مبرر ثانٍ، بعيد تماماً عن الشجون التقنية والميدانية والأمنية والبوليسية، هو آراء تلحمي نفسه حول الانتفاضة السورية؛ هذه التي نفتقدها في كتابه الجديد، لكننا لا نفتقر إليها في أحاديثه عبر وسائل الإعلام المختلفة. 

إنه، في عيّنة أولى من آرائه، يرى أنّ سورية مسألة لا تحظى بإجماع الرأي العام العربي؛ أو هي "تقسيمية"، بمعنى أنّ العرب منقسمون حول الرأي فيها، وليسوا موحّدين بنسبة عالية، كما هي حالهم في ملفات أخرى. فكيف استقامت عنده نتيجة كهذه، إذا كان آخر استطلاع رأي، أجراه فريق تلحمي نفسه، يشير إلى اتفاق 86 بالمئة من العرب على تأييد الانتفاضة السورية، ضدّ النظام؟ وكيف، إذا كان الاستطلاع إياه يُظهر أنّ فضائية "الجزيرة" تحظى بإقبال لدى المشاهدين العرب يبلغ 43 بالمئة، تليها "العربية" بنسبة 14 بالمئة، والـMBC بنسبة 12 بالمئة، والمحطات الثلاث تغطّي الحدث السوري بتعاطف شديد مع الانتفاضة، وخصومة بيّنة مع النظام؟

عيّنة أخرى من آراء تلحمي حول سورية، هي الجزم بأنّ بشار الأسد ما يزال يحظى بـ"مخزون" من التأييد الشعبي، يظلّ تحديد حجمه غير ممكن، بالنظر إلى صعوبة تلمّس الرأي العام السوري في الظروف الراهنة. ما مصدر الجزم، إذاً؟ الجواب، الوحيد عملياً، هو التالي: أنّ الأسد استطاع الحفاظ على تماسك جيش ضخم، عديده يتجاوز 700 ألف مقاتل! هنا يغادر تلحمي موقع الأخصائي في استطلاعات الرأي، ليتربّع على سدّة محلل سوسيو ـ عسكري، لكنه يتعامى عن تحوّلات هذا الجيش على مدى 27 شهراً من عمر الانتفاضة، وكيف فقد صفة الجيش النظامي ذي التسلسل القيادي الهرمي، وتشرذم إلى قطعات موالية وميليشيات طائفية التركيب، أو أخرى غازية قوامها وحدات من مقاتلي "حزب الله"، و"الحرس الثوري" الإيراني، و"لواء أبو الفضل العباس" العراقي، والحوثيين...

تلحمي حرّ في آرائه، غنيّ عن القول، ولكن إذا كان تكوين تلك الآراء لا يستأنس بالمعطيات التي يجمعها هو نفسه، الخبير في استطلاعات الرأي؛ فعلى أيّ معطيات أخرى اتكأ، إذاً، فاستخلص انقسام العرب حول سورية، رغم أنّ مؤيدي النظام لم يتجاوزوا 14 بالمئة؟ وكيف جزم بأنّ الأسد يتمتع بتأييد شعبي... يصعب تحديد مقداره، مع ذلك؟ ألا يدرك تلحمي أنّ ما يستخلصه، وفريقه، إنما يرتدي أهمية بالغة في تكييف الرأي العام في الولايات المتحدة تحديداً، قبل العالم العربي، وقبل صانعي القرار هنا وهناك؛ ليس حول مسائل خلافية وإشكالية، مثل التدخل العسكري الخارجي، أو تسليح المعارضة السورية، بل أساساً حول قضايا إغاثية وإنسانية وأخلاقية صرفة، تتحكم بمصائر ملايين السوريين؟

"ثمة إغراء في الاستنتاج بأنّ الانتفاضات العربية قد وضعت المنطقة على لوح إردواز ممسوح"، يستخلص تلحمي في كتابه الجديد؛ ما خلا أنّ بعض قارئي مدوّنات الشارع العربي، على اللوح ذاته، يصرّون على النبش في سواد الكلام القديم، بحثاً عن سطور مُسحت واندثرت، أو تكاد!

الجمعة، 21 يونيو 2013

لأنّ بوتين ليس خروتشوف: سورية ليست دار حرب باردة

 يقرأ المرء تصريحاً لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يسير هكذا حرفياً: "القيادة السورية أكدت لنا موافقتها على ما توصلت إليه قمة الثماني، كما أكدت مشاركتها في "جنيف ـ 2". ثمّ يقرأ تقريراً نشرته وكالة "أنباء موسكو"، وهي روسية بدورها، رسمية مثل لافروف، يقول: "دمشق تقلل من أهمية بيان قمة الثماني"، يستند على تصريحات عمران الزعبي، وزير إعلام النظام السوري. وقبل هذا وذاك، وحتى قبيل انعقاد قمة الثماني، كانت تكشيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مثل ابتساماته، خلال المؤتمر الصحفي مع رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون، كفيلة بإضفاء المزيد من "اللخبطة"، على جرعات... "الغموض البنّاء"!

ليس هنا المقام المناسب لاستعراض بواطن العلاقات بين دول الـG-7، أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكند؛ والاتحاد الروسي، خاصة في حاله السياسية الراهنة القائمة على صيغة "ديمقراطية التبادل" الدورية، بين بوتين رئيساً ودميتري مدفيديف رئيساً للوزراء، ثمّ العكس. غير أنّ أبرز الباطن، المخفيّ عن عمد وليس المسكوت عنه في الواقع، هو منح روسيا، في شخص بوتين أو مدفيديف، حقّ التفاخر أمام الشارع الروسي بمناطحة الغرب، من موقع الندّ للندّ، بما لا يعزف على وتر الحنين النوستالجي إلى أزمنة الحرب الباردة، فحسب؛ بل ينفخ أوداج الزعماء الروس أكثر ممّا كان يفعل نيكيتا خروتشوف نفسه!

أمّا حين يتوجب أن يحصل الغرب من الاتحاد الروسي على موقف لازم، حاسم وضروري، تقتضيه أيضاً ألاعيب الإيحاء بالتعاون التامّ بين "المجتمع الدولي" وروسيا؛ فإنّ الكرملين لا يمتلك فسحة تردد واسعة، وتضيق هوامش المناورة والمداورة، مثل حجوم التكشيرات والابتسامات، ويصدر القرار المطلوب، تماماً كما كان مطلوباً. المثال الاحدث هو ضجيج موسكو وعجيجها، قبل الموافقة على التدخل العسكري في ليبيا؛ وقبله كان المثال الأبرز هو الموقف الروسي من غزو العراق، سنة 2003، و1990. امّا في الأمثلة النظيرة، أي حين يكون الطرف الروسي هو "المتعنت"، فإنّ المواقف من المأساة السورية الراهنة، والمماطلة في الضغط على نظام بشار الأسد، هو المثال الذي أتاح عودة بوتين من منتجع لوخ إيرن، إرلندا الشمالية، "ضاحكاً" و"سعيداً" و"منتصراً" على نظرائه في قمّة الثماني. 

في عبارة أخرى، سوف يغيب عن ذهن الكثيرين أنّ روسيا هذه الأيام ليست الاتحاد السوفييتي تلك الأيام، وأنّ بوتين/ مدفيديف ليسا خروتشوف/ بريجنيف، أياً كان طراز الحروب الباردة التي يخوضها الكرملين مع الغرب، وبصرف النظر عن محتوى الملفات موضوع الصراع. وطبيعيّ، استطراداً، أنّ هذا الغياب سوف يفسح المجال أمام "حضور" النظير الروسي على الساحة الدولية، بما ينطوي عليه من استيهامات كسر القطبية الكونية الأحادية (أمريكا)، لصالح قطبية ثنائية وليدة (يكاد البعض يشبهها بثنائيات مثل المعسكر الرأسمالي/ المعكسر الاشتراكي، أو الحلف الأطلسي/ حلف وارسو!). ولن يعدم المرء عبقرياً لوذعياً، لبنانياً أو إيرانياً أو عراقياً، يبشّر بانضمام روسيا إلى... "محور الممانعة"!

فلنعد قليلاً إلى الوراء، أواخر العام 2004؛ وإلى العراق تحديداً، ليس بعيداً عن الجوار السوري. أنظار العالم كانت منشدّة إلى أكثر من موقع صانع للأخبار الساخنة: تدمير الفلوجة وذبح مئات الأبرياء من أهلها بذريعة محاربة الإرهاب (الذي بدا وكأنه غادر كلّ أوكاره العالمية واستقرّ هناك فقط!)، وانكشاف أولى العلائم حول طبيعة المصائر التي سيلاقيها العالم إذْ يوضع مجدداً في عهدة الرئيس الأمريكي جورج بوش لسنوات أربع قادمة، واستقالة وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول، في غمرة خطاب ينبّهنا إلى أنّ الجنرال المتقاعد كان آخر "الحمائم" في إدارة بوش الإبن، وتوطيد صفوف "الصقور" في الإدارة ذاتها بعد ترشيح كوندوليزا رايس لقيادة الدبلوماسية الأمريكية، واحتمالات المستقبل الفلسطيني المفتوحة على مجاهيل عديدة...

في تلك الغضون، دخل على الخطّ رجل لم يكن أحد ينتظر اقتحامه للمشهد الإخباري، وما كان له أصلاً أن يُدعى إلى صناعة أية واقعة ذات دلالة: بوتين! لقد بشّر العالم، ضمن اجتماع مع أركان القيادة العسكرية الروسية، أنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوى النووية الأخرى. وتابع يقول، في تصريحات نُقلت مباشرة على شاشات التلفزة الرئيسية، إنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: "أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب"...

هل كان يمزح، رئيس القوّة النووية الكونية الثانية؟ وما مناسبة ذلك التفاخر؟ وهل كان يمهّد لصفقة جديدة مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي؟ قبل يوم واحد فقط كان رودريغو راتو، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي آنذاك، قد قام بزيارة خاطفة إلى روسيا للبحث في ضرورة سداد موسكو ديون الصندوق (بوصفه الدائن الأكبر)، اعتماداً على الوفر الخاصّ الذي نجم مؤخراً حينها عن ارتفاع أسعار برميل النفط. وكان على روسيا أن تسدّد مبلغ 2.7 مليار دولار أمريكي في 1 كانون الثاني (يناير) السنة القادمة. فهل كان بوتين يخاطب راتو، إذاً، ولكن من خلال ميكروفون نووي؟

الثابت، في كلّ حال، أنّ إدارة بوش لم تأخذ تصريحات بوتين على محمل الجدّ، إذا قرأنا ما بدا مبطّناً في أقوال الناطق باسم البيت الأبيض، سكوت ماكليلان، الذي أعلن أنّ الخبر ليس جديداً على الإدارة: "نحن على إطلاع تامّ حول جهودهم الثابتة لتحديث آلتهم العسكرية. ونحن اليوم حلفاء في المعركة العالمية ضدّ الإرهاب". من جانبه كان المعلّق العسكري الروسي ألكساندر بيكاييف قد أوضح أنّ بوتين يقصد صاروخ "بولافا" العابر للقارّات، والذي كان قد اختُبر للمرّة الأولى قبل أسابيع، ولهذا فالأمر لا يعدو التفاخر أمام العسكريين والرأي العام الروسي. ما أشبه اليوم بالبارحة، إذاً، حين يتباهى بوتين باختلافه مع الغرب حول الملفّ السوري (فيوبّخ كاميرون على تسليح آكلي القلوب في صفوف المعارضة السورية!)؛ وأمّا من بوّابة براندنبورغ، في برلين، فإنّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان هو الذي أعلن البشارة الحقة: الاتفاق مع روسيا حول محاربة الإرهاب، والدعوة إلى خفض الترسانة الصاروخية النووية بمقدار الثلث!

ولأنّ التفاخر بالتفاخر يُذكر، بصدد روسيا بوتين تحديداً، كان الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، جورج روبرتسون، قد تباهى بأنّ الـ"ناتو" بات يضمّ دولاً تمتدّ مساحتها من فانكوفر في كندا إلى فلاديفوستوك شرق روسيا. واستكمل بوش الابن نطاق المباهاة الغربية هذه، فأعلن أنّ الحرب الباردة لم تنته عملياً إلا حين صدر إعلان روما، وتضمّن تشكيل المنتدى الأمني الجديد بعضوية دول حلف شمال الأطلسي التسع عشرة، بالإضافة إلى روسيا. في عبارة أخرى، لم تنتهِ الحرب الباردة على يد جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف، ولا على يد بيل كلنتون وبوريس يلتسين، بل على يد بوش الابن وبوتين. وآنذاك، كما اليوم، أصبح انضمام روسيا إلى المنتدي الجديد محض إجراء وقائي ـ تجميلي، يستهدف التطويق أكثر من الإشراك، خاصة وأنّ قوانين المجلس الجديد هذا تنصّ على أنّ كلّ دولة عضو أصيل في الحلف تملك حقّ استبعاد روسيا من مناقشة أيّة قضية أمنية ذات حساسية خاصة ولا تحظى بإجماع الدول الأعضاء!

لكنّ سلسلة مآزق روسيا لا يختزلها أيّ طراز من التباهي حول رفعة البلد نووياً، أو أي ذرّ للرماد في العيون حول "انتصار" بوتين في الملفّ السوري ضدّ سبعة من قادة الاقتصادات الكونية الأغنى؛ وذلك حين تكون رفعة روسيا الجيو ـ سياسية، ومثلها المكانة الاقتصادية، أكثر تواضعاً وانحطاطاً. وفي روسيا، وليس في طاجكستان أو تركستان أو جورجيا أو أوكرانيا، يلجأ الملايين إلى سلاح الإضراب المفتوح، لا من أجل زيادة الأجور أو تحسين شروط العمل أو تحقيق مطالب مهنية، بل ببساطة من أجل استلام الأجور ذاتها، ليس أكثر! وفي روسيا انحدار متواصل لمستوى المعيشة، وتآكل ثابت في القدرة الشرائية، وفشل متواصل في الخطط الاقتصادية، وتضخّم وعجز وبطالة وعصابات مافيا.

أليس ثابتاً أنّ أحداث روسيا تراجعت وتتراجع إلى مراتب دنيا في لوائح اهتمام العالم بما يجري في بقاع ومناطق ومراكز هذا العالم؟ أليس مقلقاً أنّ هذا التراجع يطال دولة ما تزال القوّة العظمى الثانية، نووياً على الأقل، وما تزال مرشحة للعب دور القطب الثاني الموازي للقطب الأمريكي الأول، أياً كان معني القطبية هنا؟ ألا يرتاب المرء في أنّ بوتين يعاند في مساندة نظام الأسد سياسياً وعسكرياً، ويواصل تأثيم المعارضة السورية على نحو لا يليق برئيس دولة عظمى لا يرى من انتفاضة شعب إلا مشهد مختلّ يلوك قبل خصمه... لا لأيّ اعتبار آخر سوى انّ روسيا لم تعد حاضرة في عناوين الأخبار إلا عبر الملفّ السوري؟

وإذ تنكمش روسيا هذه الأيام إلى ملفات زائفة، توحي بمناخات زائفة، حول حروب باردة زائفة؛ فذلك لأنّ القوّة الكونية النووية الثانية تعود أيضاً من بوابة واحدة وحيدة هي كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صوره الأكثر بشاعة وهزالاً وابتذالاً. ولأنها، كذلك، مخلوق عاجز عن مجاراة أعدائه الرأسماليين القدماء، تماماً مثل عجزه عن مجاراة حلفائه الشيوعيين القدماء (الصين بصفة خاصة)؛ فإنّ روسيا هذه الأيام لن تفلح في استرداد موقع الاتحاد السوفييتي تلك الأيام؛ وهيهات لأمثال بوتين ومدفيديف أن يلبسوا لبوس أمثال خروتشوف وبريجنيف. وأياً كانت طبائع اللعب بين الغرب وبوتين، كما تكشف الكثير منها في قمة الثماني الأخيرة؛ وأياً كانت أصناف الحروب التي يخوضها الشعب السوري، ضدّ النظام أو إيران أو "حزب الله" أو روسيا أو أمريكا، من أجل حرّيته وكرامته؛ فإنّ سورية ليست دار حرب باردة كما يريد بوتين تصويرها، وليست مناطحة بين الـG-7  ضدّ الـ G-1، أو بين واشنطن وموسكو.

وكما للّعب حدوده، مثل تقاسم أدوار التفرّج على عذابات السوريين، فإنّ تجاوز الحدود يفضي غالباً إلى انفراط عقد اللعب، وانقلاب السحر على السحرة، أنفسهم... ربما بأشدّ ممّا أذاقوا ضحاياهم!

الأحد، 16 يونيو 2013

نصر الله والأسد: الحجر والخابية

 في خطابه الأخير اقتبس الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، المثل الشعبي الشهير: "حجر يسند خابية"؛ وكان سياق كلامه يفيد بأنّ الحزب (وهو الحجر هنا، الذي اجتاح بلدة القصير السورية) قدّم مساعدة لجيش النظام السوري (الخابية، التي عجزت عن دخول القصير طيلة حصار استغرق شهوراً)؛ لأنّ ذلك الجيش "يقاتل على مختلف الأراضي السورية"، مواجهاً "الهجمة العالمية الكونية". ورغم أنّ زلات اللسان ليست ضمن عادات نصر الله الخطابية، ومهاراته البلاغية لا يُشقّ لها غبار، فإنّ أحد تأويلات الاقتباس يمكن أن يفضي إلى التالي: الخابية تتداعى، على نحو أو آخر، حتى أنها باتت بحاجة إلى حجر يسندها... إلى حين، كما قد يقود المنطق البسيط.

تأويل آخر قد يرى العكس، فيذهب ببساطة إلى أنّ الخابية ثابتة مكينة، ودور الحجر لا يتجاوز ترسيخ ما هو ثابت أصلاً، بدلالة تأكيد نصر الله أنّ "حزب الله" هو آخر المتدخلين في سورية؛ فيردّ تأويل ثالث بمساجلة على هذا النحو مثلاً: حتى إذا صحّ أنه آخر المتدخلين، فهل التأخر يلغي الضرورات التي أدّت إلى التدخل، أخيراً، من حيث حاجة الخابية إلى حجر؟ وأمّا تأويل رابع، فقد يذهب إلى أنّ لجوء نصر الله إلى استخدام مفردة الحجر (وليس "البحصة" أو "الحصوة"، كما في التنويعات الأخرى الأكثر أمانة للمثل الشعبي)، مقصود تماماً، لأنّ دور مقاتلي "حزب الله" في اجتياح القصير كان أوسع نطاقاً، وأشدّ فعالية، من أن يُختزل إلى محض حصاة، تقبع في ظلّ خابية!

وجهة أخرى للتأويل، هي العودة بالذاكرة إلى آخر مناسبة شهدت سيرورة معاكسة: أنّ الخابية (جيش النظام السوري) سندت الحجر (مقاتلي "حزب الله")، سواء ضدّ إسرائيل (العدوّ المشترك، لفظياً على الأقلّ، لكلّ من النظام والحزب)، أو ضدّ معارضي الحجر، وهم كثر، وتكاثروا منذ 1982؛ فلم تقتصر المنازعات معهم على أبناء المذاهب أو الأديان الأخرى، إذْ ضمّت الشيعة أيضاً، ومنظمة "أمل" في المقام الأشهر. وتلك مناسبة ليست نادرة فقط، بل لعلها غائبة تماماً بأيّ معنى يشبه الخدمة العسكرية الكبرى التي أسداها الحزب للنظام في القصير، ويواصل استكمالها هنا وهناك في العمق السوري.

غياب المناسبة لا يحول دون استذكار بعض مفارقاتها، ليس إحقاقاً لحقوق الذاكرة الجَمْعية للشعبين السوري واللبناني، والتي انتُهكت مراراً، وابتُذلت وقُزّمت، فحسب؛ بل كذلك لأنّ صاحب "الوعد الصادق" يفترض، كما بات جلياً في أقواله ما بعد القصير، أنّ تلك الذاكرة قصيرة حسيرة، أو هي اندثرت تماماً. وهكذا، يُستذكَر ذلك اليوم من شهر آب (أغسطس) 2006، في أوج العدوان الإسرائيلي على لبنان، حين وصل وليد المعلّم، وزير خارجية النظام، إلى بيروت (عن طريق حمص ـ طرابلس، لأنّ الطيران الإسرائيلي كان قد دكّ طريق دمشق ـ بيروت). آنذاك صرّح المعلّم بأنّ النظام "يقول أهلاً وسهلاً" للحرب الإقليمية، خصوصاً وأنّ "سورية بدأت تستعدّ، ولا نخفي استعدادنا، وسنردّ على أي اعتداء اسرائيلي فوراً"؛ وأنه، شخصياً، مستعدّ أن يكون "جندياً عند السيد حسن نصر الله".

الأرجح أنّ الأخير لم يكن سعيداً بتجنيد هذا المتطوّع بالذات، في رخاء السلم كما آنذاك في شدّة الحرب، لأسباب تتجاوز بكثير تلك الاعتبارات المبدئية التي تخصّ اللياقة البدنية للمقاتل. والأرجح كذلك، بل المنطقيّ البسيط، أنّ نصر الله كان سيسعد، أكثر، لو أنّ وحدات الهندسة في جيش النظام السوري بادرت (لكي لا نقول: تحدّت آلة العدوان الإسرائيلية!) فأصلحت طريق بيروت ـ دمشق عند نقطة المصنع؛ لا لكي يدلف منها المعلّم إلى لبنان، بل لكي تُستأنف من جديد حركة العبور الطبيعية بين البلدين، ويُتاح للمهجّرين خصوصاً أن يجدوا بعض الملاذ الآمن لدى أشقائهم السوريين.

وبالطبع، مَن يصغي إلى المعلّم وهو ينذر بأنّ ردّ النظام العسكري (الخابية إياها، للتذكير) سوف يكون فورياً، يخال أنّ إسرائيل لم تكن حتى تلك الساعة قد اعتدت على السيادة السورية، أو حلّقت فوق القصور الرئاسية، أو قصفت داخل العمق السوري، أو مارست الاغتيال الفردي لبعض القيادات الفلسطينية الإسلامية اللاجئة في دمشق ( لم تكن إسرائيل، يومذاك، قد اغتالت عماد مغنية في قلب دمشق، ودمّرت مجمع "الكبر" في ظاهر دير الزور)... ولعلّ المرء ذاته سوف يخال أنّ جيش النظام قادر، بالفعل، على الردّ الفوري وإنزال أفدح الخسائر بالعدوّ، وما امتناعه عن ذلك إلا لأنّ العدوّ لم يتجاسر على الاعتداء؛ أو، حسب الحكمة الرسمية الشائعة، لأنّ "القيادة السورية" لا تقع في فخّ الاستفزاز، وهي التي تحدد مكان وزمان الردّ!

والحال أنّ الفخّ هو ذاك الذي انساق إليه "حزب الله"، حين كفّت أحجاره عن مساندة الخوابي المواجهة للعدوّ الإسرائيلي، فانخرطت في حرب بشار الأسد ضدّ الشعب السوري، في القصير وحمص والغوطة وحلب وإدلب ودير الزور. هي، إلى هذا، وضمن أنساق المقاومة التي سيبتدعها السوريون في وجه ذلك الانخراط، وخاصة على مستوى المجتمع المدني قبل ذاك العسكري، أحجار غازية لن تلقى طيب العيش على غرار حجر تميم بن مقبل: تنبو الحوادث عنه، وهو ملموم!

الاثنين، 10 يونيو 2013

القصيدة والبربرية: من الضاحية إلى القصير

في أواخر تموز (يوليو) 2006، وتعقيباً على آثار العدوان الإسرائيلي البربري على لبنان عموماً، والضاحية الجنوبية بصفة خاصة، طرح الصديق الشاعر اللبناني عباس بيضون سؤالاً لافتاً حقاً: هل من الممكن كتابة قصيدة عن الضاحية الجنوبية؟ وبالطبع، كانت بعض تفريعات السؤال ذاته تفيد التالي: هل من الممكن لأية قصيدة أن تلتقط مشهدية الدمار في الضاحية؟ وكيف للشاعر أن يفتش هناك "عن عشبة في الشقوق، عن منديل وسجادة مهدبة، عن مسبحة وعصا مكسورة"، كما كتب بيضون؛ خصوصاً وأنّ "حساب الزلازل والانفجارات الكوكبية وهيجانات الطبيعة أمور لا مفردات لها"؟ و"هل يمكن لشاعر أن يقول شيئا عن مساحات مهدمة تحتاج إلى توبوغرافي، إلى فلكي، إلى مخطط مدن، إلى سينمائي، إلى كومبيوتر أكثر منها إلى شاعر"؟

أجدني، اليوم، أستعيد السؤال ذاته، وكامل تفريعاته، بصدد مشاهد الدمار التي حاقت ببلدة القصير السورية، بعد حصار طويل وقصف بربري بدوره، أعقبه غزو خارجي واحتلال عسكري نفّذه مقاتلو "حزب الله"؛ ثمّ استباحة البلدة، وتلك المشاهد الفاضحة لجنود النظام السوري وهم يحملون ما خفّ وزنه أو ثقل، من أثاث منزلي ومعدّات كهربائية وبضائع مختلفة منهوبة. وكان محتماً، إلى هذا، أن يهيمن سؤال جديد، وليد واقعة فريدة حقاً: كيف أمكن لبعض أهل الضاحية الجنوبية، ضحايا البربرية الإسرائيلية، أن يوزّعوا الحلوى على المارّة، احتفاء بـ"سقوط" المدينة ذاتها التي لجأوا إليها، ذات يوم غير بعيد، جرّاء الوحشية الإسرائيلية؟ وماذا تفعل القصيدة إزاء هذا التفصيل، الذي لا يحضّ على واحد من إغواءات الشعر الأقدم في التاريخ، أي حسّ المفارقة، فحسب؛ بل يحضّ على واحد من أقصى، وأقسى، التمثيلات المأساوية لتناقضات النفس البشرية؟

المرء، هنا، يستعيد أيضاً ذلك السجال الكبير، والخطير، الذي دشّنه الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور أدورنو ذات يوم، حين أطلق عبارته الرهيبة: "كتابة الشعر بعد أوشفتز أمر بربري"؛ حول ما إذا كان الشرّ المطلق يفرض قيوداً على الفنّ المسلّح بالوجدان، أو المتكيء على الضمير. صحيح أنّ أدورنو لم يقصد ذلك المعنى الحرفي، والاختزالي تماماً، الذي رسّخته التأويلات التبسيطية للعبارة؛ إلا أنّ جوهر الفكرة، كما طوّرته فقرة قصيرة من مقال شاقّ حول النقد الثقافي، لم يكن يتعارض جوهرياً مع "الحكمة" التي استمدها الفهم الشعبي العريض من عبارة ذهبت مذهب القول المأثور: أنّ الشعر الذي أنتجته ثقافة ما قبل أوشفتز، لا يجوز (وذاك أمر بربري) أن تعيد إنتاجه ثقافة ما بعد أوشفتز. ولهذا فإنّ عمل ريشارد شتراوس "أربع أغنيات أخيرة" هو الذي كان في ذهن أدورنو حين أطلق تلك العبارة الصاعقة، قبل أيّ شعر أو فنون كتابية أخرى.

لكنّ روح السؤال تبقى قائمة، بل تكتسب سلسلة أبعاد تخصّ اللحظة العربية الراهنة، في زمن الانتفاضات الشعبية، وربما السياقات الأخصّ للعلاقات السورية ـ اللبنانية: هل يمكن للمثقف (والشاعر بالذات، في المضمار المخصصّ الذي تتناوله هذه السطور) أن يفرز ـ وفق أيّ أسس سياسية أو عقائدية، أو في ضوء انحيازاته الشخصية على اختلافها ـ مشاهد خراب الضاحية الجنوبية سنة 2006، عن مشاهد القصير 2013؟ وكيف لأيّ فرز، إذا تحقق، أن يُكتب شعراً، أو ينتج إبداعاً ما، بالمعنى الأوسع الذي قصده أدورنو، دون أن يقع في مظانّ أخلاقية ذات صلات صارخة بالفارق بين مساندة الحقّ أو الاصطفاف خلف الباطل؟ وباستثناء رثاء الممالك، والوقوف على الأطلال، كيف للحساسية الشعرية المعاصرة أن تتفادى ما هو سياسيّ مباشر، وفاجع إنسانياً، وشاخص بعنف بصري رهيب؛ أو أن تتحاشى اعتباره "غرضاً" و"موضوعة" شعرية بامتياز؟

هذه حال تتجاوز، بكثير، ما قصده أمير الشعراء أحمد شوقي (في قصيدة عن سورية، ودمشق، أيضاً!)، حين اعتذر من اليراعة والقوافي، لأنّ "جلال الرزء عن وصف يدقّ"؛ وإنْ كان عسر التعبير هو أحد تجليات الحال ذاتها، عن قصيدة هيهات لها أن تبحث، وسط ركام الضاحية، "عن عشبة بين الشقوق، عن دمية، عن مسبحة، عن عباءة، عن مكحلة، عن أدوات زينة"، كما كتب بيضون. ذلك لأنّ "السياسيّ" قد يدفع بشاعر ما إلى التعاطف مع "حزب الله" عقائدياً، أو ربما مباركة غزوته في القصير؛ فهل يتيح له "الشعريّ" خيارات مماثلة، تجبّ ما بعد الضاحية الجنوبية من دمار، وتكتفي بما بعد القصير من "انتصار"؟ صحيح أنّ منحازاً من هذا الطراز قد يكون جديراً بلقب "البوق" أكثر من "الشاعر"، إلا أنه قد يكون معلّماً في البلاغة، قابضاً على أسرار الكيمياء المباشرة بين الشعر والخطابة، قادراً على كتابة قصيدة حماسية لاهبة، تحوّل الدمار إلى انتصار، في الضاحية أسوة بالقصير!

يبقى، مع ذلك، أنّ ثقافة مقاومة الطغيان، ومثلها مواجهة البربريات المعاصرة أياً كانت أنماطها، هي إحدى أبرز محرّضات ارتقاء الفنون. وإذا لم تكن هذه الروحية ـ التي تمسّ معيش البشر اليوميّ، وتكبّف آمالهم وآلامهم، وتحيلها إلى أقانيم إنسانية كونية ـ قادرة على تخليق قصيدة فذّة، حول قصف الضاحية مثل اجتياح القصير؛ فكيف، سوى هذا، يولد أيّ شعر عظيم؟

الخميس، 6 يونيو 2013

معركة القصير: سقوط الهالة.. بعد إماطة اللثام

 إذا لم يكن امرؤ ما ديماغوجياً بالفطرة، يخلط حابل الغد بنابل اليوم والأمس، خبط عشواء؛ وهو ليس موالياً أعمى للنظام السوري، أو لأيّ من حلفائه، وخاصة "حزب الله" وإيران، دون استثناء روسيا بالطبع؛ وليس "يسراوياً" بالمعنى الأشدّ ابتذالاً للمفردة، ما يزال يرى الانتفاضة السورية "صناعة صهيو ـ أمريكية"، تشارك في تنفيذها قطر والسعودية و"القاعدة"، فضلاً عن دول الاستعمارَين القديم والجديد في الغرب، وما تبقى من قوى سايكس ـ بيكو... فإنّ أيّ امرىء لا يتحلى بواحد من هذه الميول، أو بها جميعها متشابكة متراكبة، ويمتلك من حسّ الضمير والعقل مقدار الحدّ الأدنى، سوف يحتفظ من تغطيات دخول "حزب الله" إلى بلدة القصير السورية، بتلك المشاهد التي تصوّر الدمار التامّ، المذكّر بذلك الخراب العميم الذي حاق بمدينة مثل "غرنيكا" الإسبانية، سنة 1937؛ أو مدينة هوي، ثالث مدن فييتنام، سنة 1968.

فإذا كان المرء سورياً، وليس بالضرورة ابن أيّ من بقاع الجولان المحتلّ، فإنّ من العسير عليه استبعاد مشاهد تقويض بلدة القصير، بسبب عمليات القصف الجوي (أكثر من 80 غارة مباشرة)، والصاروخي (حيث لم يتردد النظام في استخدام الـ"سكود")، والمدفعي (بالدبابات والمدفعية الثقيلة والراجمات)، طيلة ثلاثة أسابيع متعاقبة؛ بالمقارنة مع مشاهد تدمير مدينة القنيطرة، على يد الاحتلال الإسرائيلي، خلال حرب 1973. ثمة فارقان، هنا، مع ذلك: أنّ إسرائيل كانت عدوّ السوريين، والعرب، التاريخي، ومخفر الولايات المتحدة والإمبريالية العالمية المدلل المدعوم بالسلاح والمال، أوّلاً؛ وأنها دمّرت المدينة بعد الانسحاب منها، وليس على رؤوس ساكنيها المدنيين العزّل، ثانياً.

وقد يرفع "ممانع" عقيرته بالشكوى من أنّ المقارنة مع إسرائيل غير واردة، أو هي ليست "وطنية"، أو "غير لائقة"، حتى إذا جاز القول إنّ قوّات النظام الموالية صارت عدوّة الشعب السوري منذ أن قابلت احتجاجاته السلمية بالذخيرة الحية، قبل الانتقال إلى استخدام صنوف الأسلحة كافة. بيد أنّ ذلك كله لا يلغي وجاهة المقارنة، بالمعاني المادّية المحسوسة والملموسة والمرئية، بين خراب وخراب؛ أياً كانت وجاهة السجال في "وطنية" استذكار العدوّ الإسرائيلي إزاء ممارسات النظام السوري الوحشية، أو في "أخلاقية" وضعهما على مصافّ متوازية من حيث استهداف البشر والحجر والزرع والضرع، وعدم التعفف عن تسخير أيّ سلاح ناري، وأية طاقة تدميرية، بما في ذلك الغازات السامة والأسلحة الكيماوية، لإلحاق أقصى الأذى بـ"العدوّ"... كما تقول لغة إعلام النظام في وصف المعارضة، المدنية منها أو المسلحة.

أمّا إذا كان المرء في عداد 40 ألفاً من أبناء القصير، وغالبيتهم الساحقة من النساء والشيوخ والأطفال، ممّن حوصروا في البلدة على امتداد ثلاثة أشهر، وشهدوا من الأهوال والأرزاء ما يتوجب أن يندى له أيّ جبين ذي ضمير؛ فما الذي يتبقى في نفس ذلك المرء من "وطنية"، إذْ يشهد بعض مقاتلي "حزب الله"، ممّن سبق له أن ألجأهم في بيته إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، وهم يستبيحون البيت ذاته، ويعيثون فيه ذبحاً وتدميراً؟ وماذا يقول في بعض أهل الضاحية الجنوبية، في بيروت، ممّن فتحت لهم القصير صدور أبنائها قبل أبوابها وبيوتها، مراراً وتكراراً منذ الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، وهم يوزّعون الحلوى احتفاءً باجتياح... القصير؟

وهنا، أيضاً، هل ألحق العدوان الإسرائيلي خراباً بالضاحية الجنوبية يماثل (وقد يقول البعض: يفوق) الخراب الذي حاق ببلدة القصير، ويوزّع أنصار "حزب الله" الحلوى احتفاءً به؟ وإذا كانت المعركة بين إسرائيل والعرب، سوريين ولبنانيين خاصة، تضرب بجذورها عميقاً في تاريخية القضية الفلسطينية، وفي كفاح الوجود ـ أو حتى الحدود، لم يشاء! ـ مع الكيان الصهيوني الاستيطاني والعدواني، وظهيرته الإمبريالية العالمية، وما إلى هذه وسواها من عناصر الصراع؛ ثمّ إذا كانت المعركة بين الشعب السوري وسلطة "الحركة التصحيحية"، الأمنية والعسكرية والمالية، قد اتضحت طبيعتها، فانتفى منها أي لبس حول المدى الذي يمكن أن يذهب إليه النظام على قاعدة "الأسد، أو نحرق البلد"؛ فما المعركة التي ينتشي لها "حزب الله"، إلى هذه الدرجة الهستيرية، في هذه البلدة تحديداً: القصير، ملاذ شيعة الجنوب اللبناني، وبعلبك، والضاحية الجنوبية؟

وهيهات لامرىء عربي، في المقابل، أن يمتلك من طاقات التسامي على جذور العقيدة والمذهب والشعور والعصبية، أو مخلّفاتها المترسبة عميقاً في التربية العائلية والذاكرة الفردية والجَمْعية؛ فلا يرى في إسقاط القصير على هذا النحو، وتخريبها بهذه الوحشية، جولة جديدة للنزاع السنّي ـ الشيعي، وتداعيات متجددة لثارات عمرها يرتدّ إلى 1400 سنة خلت. لا يكفي أن يوظّف حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، كامل طاقاته في البلاغة والخطابة حول تنزيه أنصاره عن حميّة النوازع الشيعية في قتالهم داخل سورية؛ ولا يكفي أن يتحذلق أمثال نعيم قاسم، نائب الأمين العام، بالقول مثلاً: "نحن نواجه التيار التكفيري لأنه لا يمثّل السنة بل الإرهاب، ونحن مستعدون لأوسع العلاقات بين السنّة والشيعة وجميع المسلمين، وسنحافظ عليها بوجه التيار التكفيري الغاصب".

يكفي، في المقابل، أن ينصت المرء إلى ما يردده جمهور "حزب الله"، أثناء مراسم تشييع أحد قتلاه، من عبارات تفتقر بالضرورة إلى مهارات نصر الله اللفظية وحذلقة قاسم التجهيلية، ولكنها توفّر التعبير الأصدق عن الباطن المذهبي المشحون الذي اكتنف ذهاب ذلك القتيل إلى القصير (وليس إلى السيدة زينب، للتذكير!). وأمّا إذا أراد مستزيد أن يستزيد، فله أن يتابع شريط العميد محمد خضور، الضابط في جيش النظام الموالي، وهو يخطب في بعض أبناء قريتَي "نبّل" و"الزهراء"، من أعمال ريف حلب، فيهتف: "سنقاتل تحت راية الحسين!"؛ وذلك على مرأى ومسمع من ممثّلي الدولة، محافظ حلب وأمين فرع حزب البعث هناك (وكلاهما "علماني" من حيث المبدأ البعثي، لكي لا يذكّر المرء بأنهما من السنّة أيضاً).

بيد أنّ القصير ليست الفصل الأحدث في الهاوية السياسية، وكذلك الأخلاقية والإنسانية، التي ينحدر إليها "حزب الله" حثيثاً، لأسباب باتت جلية ولا تحتاج إلى فذلكة تحليلة، فحسب؛ بل هي، أيضاً، موقعة فاصلة أتاحت تجريد تلك الهالة المقدّسة التي ظلّ البعض يصرّ على اعتبارها سمة، لازمة مطلقة وأزلية، لصيقة بهذه "المقاومة" العجيبة التي استدارت ببنادقها من مواجهة العدوّ الإسرائيلي إلى القتال ضد "عدوّ" جديد اسمه الشعب السوري. ولهذا فإنّ معركة القصير لا تُصنّف في باب "الانتصار" إلا عند امرىء من الطراز الذي استعرضته الفقرة الأولى في هذا المقال، ولا حاجة لسرد الاعتبارات التي تجعل "انتصار" الحزب في القصير، بمثابة هزيمة له على كلّ جبهة أخرى، عسكرية كانت أم سياسية وأخلاقية، في المواجهة مع إسرائيل أم في مواجهة الضمير العربي والإسلامي السنّي الذي عاضد "حزب الله" طويلاً، حتى آن أوان إماطة اللثام.

وموقعة القصير ليست تلك المعركة التي تتيح للنظام السوري أن يبتسم، كما توقّع البعض، أو أن ينتقل إلى الهجوم المضادّ؛ لسبب أوّل يقول، ببساطة، إنها كانت أشبه بمعركة العين ضدّ المخرز، خاصة بعد أن وضع "حزب الله" كامل أثقاله في القتال، وقامر بخسران الكثير مقابل اجتياح مدينة أطلال. هنا يخون التعبير لسان الشيخ نعيم قاسم، فيكشف النقاب عن أنّ اتضاح "الخطر الداهم" على النظام السوري، وليس البتة على "حزب الله"، هو العامل الذي حتّم الدخول في المعركة، على هذا النحو المكشوف الفاضح: "نحن لا ندافع عن نظام سورية، وهو المسؤول بالدفاع عن نفسه، إنما ندافع عن مشروع المقاومة الذي تمثّله سورية، وقد دخلنا متأخرين وصبرنا لنرى النتائج، وعندما وجدنا الخطر داهماً، رأينا أنّ من واجبنا التدخل عندما شعرنا أن الخطر داهم على المستوى الستراتيجي".     

سبب ثان، معروف بدوره، هو أنّ القصير اكتسبت بُعداً رمزياً، وأيقونياً في الواقع، أعلى بكثير ممّا تردّد عن مكانتها الديموغرافية، أو مكانها الجيو ـ ستراتيجي، في رقعة الصراع العسكري بين فصائل "الجيش السوري الحرّ" من جهة، وقوّات النظام الموالية، ومقاتلي "حزب الله" من جهة ثانية. ولقد انجرّت المعارضة السورية إلى سيرورة الترقية الرمزية والأيقونية تلك، عن حماس خاطىء كما يتوجب القول، بحيث استسهل البعض الحديث عن "معركة فاصلة" تحسم مسارات مصير الانتفاضة السورية بأسرها، وكأنّ القصير تعادل تحرير حلب أو حمص أو اللاذقية، أو حتى دمشق ذاتها. ولا ريب في أنّ صمود أهل القصير الملحمي، والقتال البطولي الذي خاضته كتائب المقاومة في داخل البلدة وعلى تخومها، لم يسهم في تظهير صورة واقعية للقتال، بل ارتقى به إلى المستويات الأسطورية العالية وحدها.   

وكما كانت ابتسامة بشار الأسد باهتة، حين زار حيّ بابا عمرو الحمصي، الذي اجتاحته قوّاته بعد تطبيل وتزمير (اقتضى من نصر الله أن يدلي بدلوه فيه، فيقول ما معناه: لا شيء يحدث في حمص)، وكانت ابتسامة مؤقتة تماماً، لأنّ الحيّ حُرّر مجدداً؛ كذلك فإنّ أية ابتسامة مماثلة سوف تلقى المآل ذاته، أغلب الظنّ، مع فارق أنها هذه المرّة سوف تكون أدنى إلى تظهير المزيد من مكوّنات تأزّم حلفاء النظام، وليس قوّاته الموالية وأجهزته وميليشياته فقط. وكما كان "حسم" النظام في بابا عمرو يتوسّل التلويح بالقبضة العسكرية الثقيلة أمام مداولات مجلس الأمن الدولي، بصدد أوّل مشروع قرار حول سورية آنذاك؛ فإنّ "حسم" القصير كان يستهدف الدخول الصاخب على خطّ الاجتماع التمهيدي الأوّل لـ"جنيف ـ 2"، من جهة؛ وتذكير الناخب الإيراني المحافظ، عشية المناظرات الأولى بين مرشحي الرئاسة هناك، في طهران، بأنّ "حزب الله" هم الغالبون... هنا في القصير!

.. وهنا، في القصير، كانت العين السورية تواجه مخارز شتى: النظام، في أشرس توظيف لآلته العسكرية الإيرانية والروسية، وميليشياته الطائفية، وقطعان الشبيحة والمرتزقة؛ و"حزب الله"، في ذروة قصوى من انفضاح "سلاح المقاومة" الذي قيل إنه لن يستدير إلى الداخل في أيّ يوم، فأعطى تمريناً تمهيدياً على بطلان ذلك الوعد حين استدار لتوّه على الشعب السوري، الشقيق الذي ألجأ أهله ومقاتليه؛ وشراذم المأجورين، الطائفيين، زاعمي حماية المقامات الروحية، و"اللّطامين" من المهووسين بالقتال "تحت راية الحسين"...

العبرة في المآلات، مع ذلك، لأنّ المعادلة ليست مقتصرة على مقاومة العين للمخرز، حين تقتضي الحال على غرار ما شهدت القصير، بل هي في عين تواصل الشخوص إلى أمام، إذْ تبصر الحقّ والمستقبل؛ وفي مخرز يعتريه صدأ محتوم، إذْ يهبط إلى حمأة الباطل والماضي.

الأحد، 2 يونيو 2013

سمير قصير: ذكرى شهيد سوري

 منذ 2/6/2005، تاريخ اغتيال سمير قصير، المؤرخ والكاتب والصحافي اللبناني (الفلسطيني الأصل، لأمّ سورية)، لا تمرّ هذه الذكرى المشؤومة إلا وتضيف جديداً، أو لعلّها تشدّد على قديم يُعاد إنتاجه، أو ترتبط على نحو أوثق، بالسياقات التي اقترنت بتلك الجريمة؛ ليس لبنانياً، فحسب، بل عربياً أيضاً، وفلسطينياً وسورياً بصفة أخصّ. كذلك فإنها ذكرى يندر أن تمرّ دون مقدار من الاصطراع الجدلي بين تحقُّق بعض أحلام قصير وآماله، من جهة؛ وانكسار بعضها الآخر، أو الردّة فيها وعليها أحياناً، من جهة ثانية.

وها أنّ سنة ثامنة على غياب قصير، تبدأ اليوم في غمرة مشهد لبناني بائس، سياسياً أوّلاً (ليست أسوأ مظاهره حكاية التمديد للمجلس النيابي، واستدارة بنادق "حزب الله" من الجبهة مع العدوّ الإسرائيلي إلى قتال الشعب السوري دفاعاً عن نظام آل الأسد)؛ ثمّ على أصعدة أخرى، اجتماعية وثقافية وأخلاقية وطوائفية (ليس أسوأها، هنا أيضاً، مشروع قانون اللقاء الارثوذكسي، أو المواقف العنصرية تجاه النازحين السوريين في لبنان). غير أنّ نهار اغتيال قصير كان قد انقضى والآمال ضئيلة في صعود معارضة عربية، جديدة ومستنيرة، مثقفة وعصرية؛ و"أوان الورد"، الذي ترقبه الراحل بشغف ولهفة وثقة، بدا مؤجلاً حتى إشعار آخر طويل، ليس في بلدان مثل تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، وحدها، بل في سورية أوّلاً، وربما أساساً من وجهة نظر قصير. فهل انكسرت الأحلام، حقاً؟ وهل تبددت الآمال، كلّها؟

هي ذكرى تذكّر، أيضاً، بأنّ درس الاغتيال الأوّل ـ الأكبر والأبسط، في آن ـ كان إسكات قلم جسور ترتدي كتاباته، وما تصنعه من أواليات وعي واحتجاج ومقاومة، أهمية ستراتيجية تعادل، أو لعلها تفوق، كلّ منتجات التكتيك الصغيرة. لهذا لم يكن اغتيال قصير محض تمرين في الثأر أو التأديب أو تلقين الدروس، بل كان تنبيهاً بربرياً إلى حقيقة أنّ الإطاحة برأس أمني هنا أو تبديل آخر هناك، لا تعني أنّ الوحش قضى أو تمّ ترويضه. الوحش، في الواقع، ظلّ حيّاً يسعى ويفخخ ويقتل، في توقيت محسوب أُريد منه أن يبعث أبلغ الرسائل، وأن يلحق أفدح الأضرار حيث ينبغي؛ وبقي سؤال "عسكر على مين"، عنوان كتاب شهير للراحل ضدر مطلع 2001، يفيد التالي: عسكر على الآمنين!

هي، ثالثاً، ذكرى آمال داعبت الراحل، مثل كثير من اللبنانيين والسوريين، بأنّ الأقنعة قد سقطت عن الوجوه، فباتت مكشوفة ظاهرة للعيان، أضعف من ذي قبل، بل أضعف كثيراً؛ دون أن يعني هذا أنّ النظام الأمني لن ينتقم، ولا حظوا استخدام الراحل لهذه المفردة تحديداً: ينتقم! ففي مقال بعنوان "وسقط القناع"، نُشر قبل أسابيع قليلة من جريمة الاغتيال، اعتبر قصير أن "بعض رموز الطوفان المخابراتي" سوف تحاول "شراء المزيد من الوقت"، و"قد يسعى النظام الأمني مرّة جديدة إلى الانتقام"، و"لكنّ شيئاً لن يقدر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لقد ذهب النظام الأمني. فليكن ذهاباً من دون رجعة".

وبالمعنى العامّ لحركة التاريخ، لا ريب في أنّ عقارب الساعة لن تُعاد إلى الوراء، بالقياس إلى ما تمّ إنجازه على أكثر من صعيد سياسي، بما في ذلك انسحاب النظام السوري عسكرياً من لبنان. غير أنّ الصعيد الأمني لم يشهد تحرّك عقارب الساعة إلى الأمام، لكي يُقال إنها لن تعود إلى الوراء في عشرات الملفات، وبينها بالطبع مسلسل التفجيرات وعودة الاغتيالات. وإذا كان ما يشبه "الهجوع" الأمني قد طبع الأسابيع القليلة التي أعقبت اغتيال قصير، لأسباب التقاط الأنفاس وامتصاص الصدمات قبل تنظيم القوى من جديد، فإنّ ذلك الهجوع انقلب إلى استفاقة عنفية طاغية، وتعاقبت عمليات الاغتيال، وعلى منوالها تسارع سقوط الأقنعة. هنا، أيضاً، توجّب أن تتصف الحال بمقادير من جدل الاصطراع: بين عدوان إسرائيلي وحشي على لبنان، صيف 2006، و"غزوة" أنصار "حزب الله" في بيروت، ربيع 2008؛ وبين "مقاومة" لا هدف لها سوى الدفاع عن لبنان ضدّ إسرائيل، و"المقاومة" ذاتها وقد اختزلت إسرائيل إلى بقعة جغرافية صغيرة اسمها "القصير" السورية!

ويبقى من باب تحصيل الحاصل أن يربط المرء بين اغتيال قصير، وسلسلة المواقف الصائبة والشجاعة التي عبّر عنها بصدد تلازم مسارات التحوّل الديمقراطي في سورية ولبنان، على نقيض تلازم المصالح بين النظام الأمني اللبناني وسيّده النظام الأمني السوري، أو: "اللبنانية ـ السورية للتلازم والعلاقات المميزة، شركة غير محدودة اللامسؤولية"، كما أسماها الراحل ساخراً. لهذا فإنّ الانتقام لم يستهدف رمزاً سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً أو طائفياً، بل ضرب حيث ينبغي للرسالة أن تكون مدوية: في قلب الأوساط التي لن يكفيها انسحاب القوّات السورية (وبقاء الأمن السوري هنا وهناك، قوياً مهيمناً)، ولن يرضيها قرار يستبدل هذا المسؤول الأمني أو ذاك (ويُبقي شبكات الولاء على حالها، في باطن الجهاز).

أجدني إذاً، كما فعلت سنة 2011، أستأذن شهداء الانتفاضة السورية في ضمّ شهيد إلى قوافلهم، لم يسقط على ثرى سورية، بل اغتيل لأنه اعتبرنا أبناء وطنه الثاني، وشاطرنا الآمال والآلام، وتلمّس معنا مفردات المستقبل الأفضل.