وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 29 يونيو 2012

الانتفاضة والتاجر: اجتماع النظام أم انفراط العقد؟

سواء اختلف المرء (كما أفعل شخصياً)، أو اتفق مع الصواب السياسي والأخلاقي وراء استهداف قناة "الإخبارية" ـ التي تظلّ هدفاً مدنياً، أياً كانت الأدوار الأمنية أو الإعلامية القذرة التي لعبها وسيلعبها بعض العاملين فيها ـ فإنّ الواقعة كشفت اقتراب الأخطار من دوائر النظام المباشرة، ومن رموزه "السيادية" إذا جاز القول. وهي أسقطت أسطورة "تمنّع العاصمة"، وخرافة امتناع سواد الدمشقيين عن المشاركة في الانتفاضة (وتلك كانت، وتظلّ، واحدة من مرتكزات دعاوة النظام، ومصدر تبجّح مناصريه من "منظّري" علومه الاجتماعية)؛ كما أباحت الحديث عن "القتال على مشارف دمشق"، فصار التعبير غير محرّم، جاري الاستخدام، وساري المفعول.

ولقد توفّر، إلى هذا، تطوّر طارىء أسبغ ديناميكة خاصة على دخول دمشق في مناطق الأخطار المباشرة المحيقة بالنظام، وتمثّل في اضطرار بشار الأسد إلى الإقرار بأنّ نظامه يعيش "حالة حرب بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى"؛ على نقيض ما كان معتمَداً في خطابه، حول "الأزمة" التي انتهت، أو تنتهي، أو ستنتهي! وبين "فضائل" هذا الإقرار أنّ الأسد، وبعد أن وضع المسألة الأمنية على رأس أولويات الحكم في خطابه الأخير، ينقل الحرب إلى المرتبة الأعلى، ويستطرد: "بالتالي كلّ سياساتنا وتوجهاتنا تكون للانتصار بهذه الحرب". كان يعرف أن دمشق تغلي، وصارت أخطر بكثير من محض نار تحت الرماد؛ وأنّ القتال الذي يدور في ريف دمشق، بل في بعض أحيائها الداخلية، ينقل النار إلى كتائب الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة ذاتها. وكان التلويح بكلّ ما تعنيه مفردة "الحرب" من معانٍ، هو تحصيل حاصل لواقع صار حقيقياً على الأرض، واستنفد الأسد نفسه كلّ أفانين اللغة الديماغوجية في التستر عليه.

ولهذا فإنّ توجيهاته لحكومة رياض حجاب الجديدة بدت أشبه بإعلان النفير العام، وكأنّ النظام حتى الساعة كان يفاوض المجتمع بالحسنى، وليس بأبشع صنوف الترهيب الوحشي والاعتقال والقتل وحصار المدن وارتكاب المجازر، باستخدام الأسلحة كافة، دون استثناء. أو كأنّ دير الزور، بلد رئيس الوزراء العتيد، لم تكن ـ في الساعة ذاتها، على وجه الدقة ـ تُقصف بأقصى الوحشية، ويتهاوى بالعشرات شهداؤها المدنيون العزّل (أكثر من 60 شهيداً خلال أقلّ من 24 ساعة). ولكي تكتمل مهزلة إعلان نفير عام، سبق إعلانه منذ إطلاق النار بوحشية على المتظاهرين في درعا، يوم 18 آذار (مارس) 2011؛ سارع علي حيدر، وزير ما سُمّي بـ"المصالحة الوطنية" إلى إعلان تشديد الأسد على أنّ "قرار الحكومة السورية الجديدة هو المصالحة الوطنية بمجملها"، وأنّ "كل الجهود يجب أن تصبّ في إنجاح مشروع المصالحة"... حين كانت قدسيا ودوما والهامة، وحمص وإدلب ودير الزور، تحت وابل قذائف المدفعية والدبابات والراجمات!   

غير أنّ دخول دمشق إلى قلب معادلات الأخطار على النظام، من حيث أنّ هذه المعادلات هي التي سوف تستجلي خطوط انهياره في نهاية المطاف، لا تبدأ من العمليات العسكرية العابرة، على غرار استهداف مبنى "الإخبارية" مثلاً؛ إذْ تظل هذه محدودة وأقرب إلى المغامرة العابرة، التي تجرج النظام قليلاً، ولا تصيب منه مقتلاً بالطبع. وهي، كذلك، لا تقتصر على مظاهر العصيان المدني المتطورة، على شاكلة سلسلة الإضرابات الشجاعة في أسواق دمشق، احتجاجاً على مجزرة الحولة، ثمّ القبير؛ رغم أنّ هذا التطوّر سجّل نقلة دمشقية نوعية، لعلّها الأعمق دلالة بعد المظاهرة المبكرة الأولى التي شهدها سوق الحريقة، في 17 شباط (فبراير) 2011، واجترحت الشعار الرائد "الشعب السوري ما بينذلّ".

ثمة، بالإضافة إلى هذه الاعتبارات، وسواها، علم اجتماع آخر، لعلّه اقتصاد سياسي ـ اجتماعي على وجه التحديد، يناقض "علوم" الاجتماع التي لاذ بها الكثيرون من "منظّري" النظام، وقال بها زاعمو الباع الطويل في تفسير ظواهر السياسة والتاريخ (المصري محمد حسنين هيكل أحد هؤلاء)، واتكأت غالباً على مقولة واحدة، يتيمة بقدر ما هي كسيحة، وزائفة بقدر ما هي ركيكة: أنّ الانتفاضة السورية ريفية وليست مدينية، والدليل هو أنّ دمشق وحلب بمنأى عن التظاهر. وإلى جانب حقائق بسيطة، ولكنها تفقأ البصر والبصائر، مثل أنّ حمص وحماة ودير الزور واللاذقية ودرعا والقامشلي وإدلب ليست قرى أو بلدات؛ فإنّ التحاق حلب بالانتفاضة، وبعدها دمشق، توجّب أن يرسل تلك المقولة إلى سلّة مهملات التاريخ.

ذلك الاقتصاد السياسي ـ الاجتماعي، في معطياته الأبسط، لا يتيح قراءة جدلية لتحولات الأسواق الدمشقية الأخيرة، أياً كانت نطاقاتها، فحسب؛ بل يفضي بالمرء إلى الذهاب خطوة أبعد في تلمّس تطورات عضوية، وربما بنيوية، تصيب علاقة النظام بالشرائح العليا من التجار، حتى إذا كانت الشرائح الأعلى ما تزال حليفة للسلطة، أو مترددة، واقعة في حيرة من أمرها. ذلك لأنّ برامج "التغيير" التي اقترنت بصعود وتوريث بشار الأسد، خصوصاً تلك التي اندرجت تحت مسميات "الليبرالية الاقتصادية" و"تحديث المؤسسات" و"محاربة الفساد"، و"إحكام الرقابة"، و"تقديم الكوادر الشابة"... اقتضت، بالضرورة، انقسام بنية النظام إلى فريقين: رابح، وخاسر.

الجدلي في هذه المعادلة الأولى هو أنّ المرشّحين للخسارة لم يكونوا على هوامش السلطة، بل في قلبها أو ربما في قمّة هرمها؛ وأنّ وتائر "التغيير" لم تتكفل أصلاً بإقصاء هؤلاء إلى الهوامش، رغم أنها أنزلت بهم الخسائر. تلك حال رجل أعمال مثل فراس طلاس، على سبيل المثال، كان أحد القطط السمان حتى جاءه ذئب مثل رامي مخلوف، فردّه إلى صفّ ثانٍ، أو ثالث (ممّا يتيح للمرء أن يفسّر بعض نقائض الأوّل هذه الأيام: قدم مع النظام، قلباً وقالباً أغلب الظنّ؛ وقدم مع بعض أطراف المعارضة، تمويلاً لمؤتمر هنا أو إنفاقاً على معارض هناك...). الوجه الآخر لهذه المعادلة الجدلية هو أنّ الذين كانوا مرشّحين للربح صعدوا من منتصف الهرم أو من قواعده السفلى، وبعضهم كان في الهوامش أو في الصفوف الخلفية؛ وأنّ الوتائر لم تكن، هنا أيضاً، كافية لترقيتهم سريعاً إلى الصفوف الأولى (أمثال أيمن جابر، محمد حمشو، فارس الشهابي، عماد غريواتي، نادر قلعي، سليمان معروف، نزار الأسعد...).

المعادلة الثانية تصنعها حقيقة أنّ توريث الأسد الابن اقتضى إقامة تعاقد أكثر متانة بين عناصر التحالف العسكري والأمني والتجاري ـ الاستثماري الذي يحكم سورية؛ ولكنه اقتضى أيضاً المسّ، برفق تارة أو بخشونة طوراً، بشروط تعاقد أقدم بين العسكر ومختلف شرائح البرجوازية السورية خلال عقد السبعينيات وأواسط الثمانينيات (آل الشلاح، صائب نحاس، عبد الرحمن العطار...). فهذه البرجوازية، التجارية والصناعية أساساً، طالبت بالمزيد من الليبرالية والانفتاح واستحداث القوانين التي تكفل صون رأس المال وتحصين المؤسسة الاستثمارية وإصلاح الأنظمة المصرفية. واستحداث مثل تلك القوانين سار على نقيض تامّ مع مصالح عشرات الضباط الذين "تبرجزوا" وكدّسوا ثروات هائلة، لأنّ بنية تقاسم القوّة داخل النظام أتاحت لهم تحويل البرجوازية السورية إلى بقرة حلوب، راضية تارة أو مضطرة طوراً.

التحالف بين الفريقين سار على وئام حتى ساعة الانتفاضة، حين بدأت الأعمال تتعطّل، وظهرت آثار العقوبات الأوروبية والأمريكية المباشرة، فتوجّب على العسكر أن يختزنوا ما لديهم من سيولة وعملات، تتناقص حتماً لانها لم تعد تزداد؛ وتوجّب على كبار التجار والمستثمرين أن يدفعوا رواتب الشبيحة ونفقات القمع اليومي للانتفاضة، من رساميلهم السائلة التي أخذت تشحّ يوماً بعد يوم. اهتزاز التحالف هو بوّابة المعادلة الثالثة، لأنّ الانقسام إلى صفّيَن، رابح وخاسر، أفضى في المقام الأوّل إلى وقوع شرخ بنيوي عميق في تجانس الائتلاف الأكبر الذي ظلّ ركيزة معادلات السلطة منذ أواسط السبعينيات: التحالف العسكري ـ التجاري. ولا يفهمنّ أحد أنّ الشطر الثاني من هذا التحالف يعني فئة التجّار الكلاسيكية وحدها، بل شمل أيضاً عشرات من كبار المسؤولين السوريين الذين مارسوا ويمارسون مختلف أنواع الأعمال، مباشرة في حالات محدودة، أو عن طريق أبنائهم في معظم الحالات (الأمثلة كثيرة بالطبع، ومعروفة).

وتجدر الإشارة هنا إلى أمرَين جوهريين: أنّ هذا الائتلاف كان نخبوياً على الدوام، ومقتصراً على فئات محدودة للغاية سواء في داخل السلطة أو خارجها؛ وأنه بدأ، وما يزال، عابراً للتصنيفات السوسيولوجية التقليدية (الطبقية أو المهنية أو الطائفية)، ومتمحوراً في الأساس على ما يسمّى "مصالح الجماعة"، أكثر من مصالح الطبقة أو المهنة أو الطائفة. فإذا تعارضت المصالح بين الشطر العسكري والشطر التجاري من الائتلاف النخبوي هذا (كما يحدث بقوّة في الأطوار الراهنة من عمر الإنتفاضة)، فإنّ خطوط التحالف القديمة تصبح عاجزة عن الصمود طويلاً، والعاقبة المنطقية هي انكشاف التناقضات داخل تلك الخطوط، وانقلابها إلى تفكك وانهيار، قبيل التناحر والتصارع.

وقد يُطرح سؤال، مدرسي ولكنه مشروع في إطاره المنهجي: هل كان صعباً، أم في المقابل سهلاً، إيجاد صياغات متحركة ومرنة وعابرة للمعادلات الثلاث، أو توفيقية بينها، على نحو يُلبس النظام لبوس "الإصلاح"، ويقطع الطريق على الانتفاضة، أو على الأقلّ يعرقل زخمها وتعاظمها وانتقالها إلى الشعار النهائي: الشعب يريد إسقاط النظام؟ إجابة، بسيطة بدورها، تقول إنّ الأمر لم يكن صعباً، ولم يكن سهلاً، بل كان ممتنعاً أصلاً! أي مساس بهذه البنية المتحجرة كان سيُحدث فيها سلسلة شقوق وكسور، وبالتالي لن تتبدّل هيئتها، بل ستتفتت وتتفجر، وينفرط عقدها بعد تفكك اجتماعها. قبل الانتفاضة لم يكترث النظام بأي إصلاح، إذْ اعتبر رجالاته أنّ البلد تحت السيطرة، وسورية ليست سوى "مملكة الصمت"، حسب تعبير المعارض السوري المخضرم رياض الترك؛ لن يثور فيها أحد، ولا أحد سوف يتجاسر على شقّ عصا الطاعة. أما الإجراءات "الإصلاحية" التي اتخذها النظام بعد انطلاق الانتفاضة، من قبيل ذرّ الرماد في العيون عملياً، فقد اتضح سريعاً أنها لم تكن حبراً على ورق، فحسب؛ بل أن تطبيقها كان أمراً مستحيلاً ما دامت ستكفّ أيدي الأجهزة الأمنية، أو تلغي صلاحياتها المطلقة في منع السفر والاعتقال التعسفي والتعذيب والتصفية الجسدية. 

سؤال آخر، على الوتيرة ذاتها: إذا التحقت بالانتفاضة فئات أعلى من التجار ورجال الأعمال، أو انفكت تدريجياً عن النظام، أو انتقلت إلى صفّ الأغلبية الصامتة في أضعف الإيمان؛ فهل سيعجّل هذا في انفراط عقد النظام، من الداخل؟ بعد خمسة عشر شهراً من صراع الإرادات بين الشعب وما راكمه ويراكمه من ثقافة مقاومة، والنظام بأسلحته الفتاكة كافة، صار واضحاً مَنْ الخاسر ومَنْ الرابح. وفي "حرب بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى"، ثمة حدود للزمن، وثمة اصطفافات حثيثة لا تقبل التأجيل. فإما أن تكون هنا، مع الشعب؛ أو هناك، مع النظام؛ ولا توسّط في هذا لأيّ سوري: الثائر، مثل التاجر!

الاثنين، 25 يونيو 2012

تراتيل الفرات

كانت الأخبار تتوالى عن عمليات القصف الوحشي الذي تتعرّض له أحياء مدينة دير الزور: الموظفين، والجبيلة، والعرضي، والقصور، والجورة، والحميدية، والعرفي (حيث تعرّض مسجد الحيّ، ومئذنته خاصة، لأضرار جسيمة جرّاء القصف). كذلك كانت أسماء الشهداء تتعاقب، حيث سقط أكثر من 60 شهيداً خلال 24 ساعة فقط، ممّا يرفع عدد أبناء المدينة الذين استُشهدوا، منذ انطلاقة الانتفاضة في أواسط آذار (مارس) 2011، إلى قرابة الـ 600، بين شيخ وامرأة وطفل ورجل. ولأنّ جيش النظام اضُطرّ إلى إعادة الانتشار خارج المدينة، وخارج بلدات رئيسية أخرى في المحافظة، مثل المياذين والعشارة والبوكمال والبصيرة؛ فإنّ القصف عن بُعد، باستخدام المدفعية وراجمات صواريخ وأسلحة ثقيلة أخرى، صار خيار النظام الأسهل، وربما الوحيد.

مناطق عديدة في سورية شهدت تطبيقاً عملياً لسلسلة الأسباب التي تجعل حقد النظام على منطقة ما، وعلى أهلها استطراداً، يتجلى على نحو أشدّ سعاراً وعصبية وهمجية أيضاً، في تحصيل الحاصل؛ لاعتبارات شتى، سياسية في المقام الأوّل، ولكنها يمكن أن تتخذ صفة انتقامية محضة (حماة، وحمص، وجسر الشغور، واللاذقية، والحفّة، وتلبيسة، والحولة، والصنمين، وإنخل...). ولكنّ الحقد هنا يتجاوز الأسباب والاعتبارات، القديمة مثل الجديدة، والفعلية مثل المتخيَّلة، لكي ينقلب إلى حال مرضية يمتزج في طياتها الخوف من المكان في ذاته، والرغبة في تدمير رموزه، ثمّ ـ للمفارقة العجيبة ـ اعتبار أنقاضه بمثابة علامة مضادّة تبعث في القاتل حسّ الانتصار على القتيل، والأمل بالنجاة من العقاب!

والمرء يتذكّر أنه، منذ الشهر الرابع في عمر الانتفاضة، كان "الديريون" ـ كما يحبّون، ونحبّ في سورية، تسميتهم ـ قد أدخلوا جديداً على أنساق التظاهر، أسهم في تطوير مهارات الالتفاف على أساليب العنف الوحشية التي اعتمدتها أجهزة النظام الأمنية لقهر الحراك الشعبي، من جهة أولى؛ ونفع، كما برهنت الأسابيع اللاحقة، في اجتذاب المزيد من شرائح المواطنين الذين تردّدوا في المشاركة، من جهة ثانية. ذلك الجديد كان تنظيم تظاهرة مائية على صفحة نهر الفرات، سباحة أو بقوارب صغيرة، تردّد الهتافات ذاتها تقريباً؛ كما ترفع لافتات مماثلة لتلك التي ترفعها التظاهرات على اليابسة، إذا جاز القول، مع تنويعات طريفة ومؤثّرة، مثل هذه الأشهر مثلاً: "نهر الفرات يصبّ في نهر العاصي"!

كأنّ خروج الديريين إلى الشوارع الرئيسية والساحات العامة، بأعداد تجاوزت 250 ألف متظاهر في "جمعة أسرى الحرّية"، لم يشفِ غليلهم إلى إسماع صوت الاحتجاج العميق، فطافوا فوق مياه الفرات، وطوّفوا على صفحته الرايات. وكيف كان سيفوتهم أن يلتمسوا عبقرية هذا النهر العظيم الخالد، في هذه البرهة الفريدة من تاريخ المدينة والوطن، وهم حَمَلة اللقب الشهير "أخوة بطّة"، نسبة إلى براعة في السباحة يتلقونها منذ نعومة اظفارهم، تماماً كما تفعل أفراخ البطّ! وحين سيصبح لقب "البطة" مرذولاً في معجم الانتفاضة الوليد، بعد افتضاح الرسائل الإلكترونية الشخصية لرأس النظام، وجد شباب دير الزور غصّة، وعناء خاصاً، في فرض التمييز بين بطّة القاتل وبطّة الثائر!

وهكذا صارت ساحة "دوّار المدلجي" في مدينة دير الزور تتمة رمزية، وامتداداً جغرافياً طبيعياً، لساحة العاصي في مدينة حماة، فولدت توأمة تلقائية بين مدينتين تشاركتا في بلوغ ذلك الرقم الذهبي الذي انتظرته سورية منذ انطلاقة الإنتفاضة، وارتعدت له فرائص أجهزة النظام: مليون متظاهر، في نهار واحد. وكما ذاقت حماة أفانين وحشية النظام في مطلع الثمانينيات، وظلت تشهد المزيد يوماً بعد يوم خلال أسابيع الإنتفاضة؛ كذلك شهدت دير الزور بعض تلك الأفانين في الحقبة إياها، وصارت تشهدها بعدئذ، أسوة بجميع المحافظات السورية.

أخذ الشهداء يتساقطون، يوماً بعد يوم، وفي عدادهم خرّ الوليد والرضيع والطفل؛ وحُرمت المجمعات السكانية من الكهرباء والماء والهاتف والإنترنت، وأُغلقت المدارس والكليات الجامعية، وعُطّلت الامتحانات؛ ومُنع المواطنون من عبور الجسور، وما أكثرها على النهر الخالد، لإعاقة التحاقهم بالتظاهرات؛ وأُحرقت سجلاّت في دوائر الأحوال المدنية، للإيحاء بأنّ وجود المواطن ذاته يمكن أن يُطمس نهائياً؛ كما ذهبت الأجهزة شوطاً أبعد في التخريب بهدف التحريض الطائفي، فلجأت إلى إحراق كنيسة عتيقة في البوكمال، ونسبت الفعل إلى المتظاهرين!

وفي هذه الأيام، حيث تصلني أخبار دير الزور (أنا الديري عن أمّ وأب، حتى إذا كانت مدينة القامشلي هي مسقط رأسي)، أقلّب المشاعر بين قلق شديد على أبناء المحافظة، وفخار أشدّ إزاء ما اجترحه ويجترحه الديريون في قلب الانتفاضة. أتأمل، باعتزاز بالغ أيضاً، مقدار المشقة التي يبذلها أهلنا هناك في الصبر على الجرح المفتوح، والمصابرة على إهانة وجهها إليهم النظام مؤخراً، وتمثلت في تسمية رياض حجاب، الديري، رئيساً للوزارة. أقلّب المشاعر حول دير الزور، إذاً، ليس دون نسيان تلك الأهزوجة الجميلة التي ردّدتها طفلة لم تتجاوز العاشرة كما أرجّح، خلال اعتصام حاشد في دوّار المدلجي ذاته: "مجروح يا يمّة/ مجروح يا يابا/ ودّوا لحماة من الدير/ موّال عتابا".

لكنّ مواويل الانتفاضة السورية لا تتنقّل بين نهر وبحر، ومدينة وبلدة، وجبل وسهل، وواحة وبيداء، فحسب؛ بل ترتّل الماضي في الحاضر، لكي تستشرف المستقبل، وتصنع التاريخ.

الجمعة، 22 يونيو 2012

السوق الطائفية بعد المجزرة: ماذا تبقى من تماسك "قيادة النظام"؟

حكاية "السوق السنية"، كما وصفتها مؤخراً وكالة أنباء رويترز (وليس أية جهة إعلامية تابعة لأيّ من قوى الانتفاضة السورية)، تنطوي على جوانب كثيرة جديرة بالتأمل، بينها جانب خاص يتجاوز العناصر المعتادة، التي تصف انفلات سلوك الشبيحة من كلّ عقال، أو إسقاط التحريم عن مفردة "غنائم"، أو تفاقم الهوّة الطائفية، أو عجز اقتصاد الاستبداد عن تلبية نفقات أنصاره، أو استنزاف موارد الميليشيات إلى حدّ أتاح ـ كما أنه أباح، علانية ـ الاتجار بنهب أملاك المواطنين في المدن المنكوبة... ذلك الجانب الخاصّ هو ارتخاء قبضة النظام إزاء المجموعات المختلفة التي تناصره، ويُفترض أنها ما تزال تأتمر بأمره؛ وانحطاط مستويات التنسيق بين السياسات الأمنية، وطرائق العمل، وأدوات التنفيذ. تلك حال تطرح، مجدداً، أسئلة إضافية حول طبيعة مصطلح "قيادة النظام"، وما إذا كان ما يزال جديراً بمحتواه الدلالي، وما تزال مكوّناته تعمل ضمن حدود الانسجام الدنيا.

وهذه "السوق السنّية"، كما بات معروفاً الآن، أنشأها في هوامش مدينة حمص مجموعة من الشبيحة وأنصار النظام، ممّن اعتبروا أنّ نهب محتويات البيوت (المهجورة غالباً، بعد تعرّضها لقصف قوّات النظام) لا يُعدّ "سرقة، إنه حقّنا، هؤلاء يدعمون الإرهاب وعلينا القضاء عليهم"، كما نسبت رويترز إلى أيمن، 25 سنة؛ أو أنّ المسروقات "هي غنائم الحرب ومن حقّنا أخذها، كما قالت امرأة. وثمة صفقات مجزية، على غرار ما يصف حسن، بائع الأثاث: "جاء رجل أعمال من طرطوس الأسبوع الماضي، واشترى بضائع بقيمة ثلاثة ملايين ليرة من السلع المسروقة، ونحن سعداء بهذه الصفقة، ففي نهاية المطاف أنا رجل أعمال والناس تشتري". ليس دون امتعاض من البعض، كما يقول محمود، بائع الخضراوات: "إنهم حثالة المجتمع، والآن سيُنظر إلى العلويين على أنهم لصوص".

والحال أنّ هؤلاء ليسوا حثالة المجتمع فحسب، أو ليست هذه هي الصفة التي تدفعهم إلى طراز من التجارة المنحطة، هي أسوأ من السرقة وأبعد عاقبة من مجرّد نهب ممتلكات الغير، والتعيّش على معاناة وعذابات المهجّرين والمنكوبين، أبناء البلد ذاته الذي يزعم الناهبون أنهم ينتمون إليه، ويدافعون عنه. إنهم، في المقام الأوّل، أنصار النظام وأدواته وأفراد ميليشياته وعناصر أجهزته وعسكره ومرتزقة مؤسساته الاقتصادية والمافيوزية المختلفة؛ إذْ كيف لأيّ منهم أن يتاجر بالمنهوبات هكذا، علانية وعلى مسمع ومرأى السلطات، لولا أنه يحظى بحماية النظام، إذا لم يذهب المرء أبعد، منطقياً في الواقع، فيفترض أنّ الحثالة ليست سوى جمهرة موظفين مأجورين يعملون لدى متنفذين في مستويات أعلى من هرم السلطة؟ إنهم، في المقام الثاني، أدوات مكمِّلة لسياسات استباحة المدن الثائرة، على نحو يجعلها عبرة لسواها من المدن، بالطرائق الأشدّ انحطاطاً وابتذالاً وبشاعة.

صحيح أنّ النظام اشتغل على تسعير العداء بين السنّة وباقي طوائف وأقليات المجتمع السوري، وخاصة أبناء الطائفة العلوية، لأغراض جلية شتى، على رأسها تفتيت اللحمة الوطنية، والإيحاء بأنّ بقاء النظام هو ضمانة حقوق الأقليات، عموماً؛ وسقوط النظام يعني تهديد وجود الطائفة العلوية، بشراً ومعتقدات ومقاماً، بصفة خاصة. وصحيح أنّ أنساق الاشتغال على التسعير تعدّدت وتشعبت، فبدأت من إشاعة السرديات الترهيبية، ومرّت بافتعال المشاحنات الطائفية، دون أن تنتهي عند أعمال النهب والخطف والاغتصاب وارتكاب المجازر الوحشية؛ ودفعت النظام إلى المزيد من أنساق التصعيد، كلما اتضح أنّ مخططات التسعير لا تلاقي فشلاً ذريعاً فقط، بل هي تنقلب على النظام وضدّه. صحيح، أخيراً، أنّ الترغيب، أسوة بالترهيب، كان بين تكتيكات السلطة في اجتذاب المزيد من الأنصار، المستعدّين للدفاع عن بقاء النظام ليس من باب التطوّع، أو الرهبة، أو غريزة البقاء، بل طمعاً في الكسب المادّي، بصرف النظر عن وسائله الحقيرة وسلوكياته الرخيصة.

من الصحيح، في المقابل، أنّ "قيادة" سياسية وعسكرية وأمنية تصارع من أجل البقاء، وتدنو كلّ ساعة من حافة التفكك والتحلل والانهيار، وتغرق أكثر فأكثر في عزلة عن الاجتماع الوطني، وتتمترس خلف خيارات عنفية صارت مجانية ونقيض الأهداف المرجوة منها، واتضح ويتضح كل يوم عجزها عن قطع زخم الانتفاضة أو الحدّ من اتساعها في النطاقات الشعبية الأعمق... "قيادة" كهذه، كيف يمكن أن تجازف هكذا، أو تستهتر وتستهين، فتسمح بتجارة طائفية على شاكلة "السوق السنّية"؟ وإذا صحّ أنّ ناصحي النظام (المخابرات الروسية، الحرس الثوري الإيراني، أجهزة "حزب الله"، بصفة خاصة) ليسوا على هذه الدرجة من تدنّي التفكير، واستفحال الحماقة، بحيث يصدر عنهم نصح باجتذاب "حثالة المجتمع" عن طريق ترخيص التجارة الطائفية؛ فأي "دماغ" عبقري داخل مؤسسة النظام، تفتقت عنه أعجوبة "السوق السنية" هذه، الموغلة في الرخص والسفالة والخسة والغباء؟

لعلّ أبسط الإجابات، وأكثرها ملامسة للمنطق السليم، هي تلك التي تفيد بأنّ مفهوم "النظام"، بمعنى حيازة الحدود الدنيا من التماسك والانسجام والتكامل، قد هبط عند السلطة إلى مستوى الحضيض الأدنى، فصارت الأجهزة تشتغل على هواها، وفق سلسلة اعتبارات ذاتية أو موضوعية، متخبطة غالباً، متناقضة إجمالاً، غير مكترثة بأي رادع، ما دامت قياداتها ترى أداءها واقعاً "تحت مظلة النظام"، في خدمته، ومن أجل إنقاذه. وعلى سبيل المثال، لا مراء في أنّ الضباط الذين أذنوا للشبيحة اللصوص بدخول الأحياء المنكوبة كانوا على يقين من أنهم يسدون للنظام خدمة من نوع ما، وهم استطراداً في حال من الانسجام التامّ مع خطّ القيادة". بيد أنّ "القيادة" هذه، إذْ تأمر بتسعير العداء الطائفي في البلد، وتشجّع الأجهزة على المضيّ في طرائقه أبعد، وأقذر، قد لا يسعدها كثيراً ذلك التقرير الذي نشرته وكالة أنباء رويترز عن "السوق السنّية"؛ أو بالأحرى: المنطق السليم يقول إنّ تلك السوق ينبغي أن تغضب تلك "القيادة"، لا أن تسعدها!

هذا بافتراض أنّ هذه "القيادة" ما تزال تقود بالفعل، وأنها لا تمسك بمقاليد القرار العسكري والأمني، الذي يصدر إلى كتائب الفرقة الرابعة أو الحرس الجمهوري مثلاً، أو مفارز مخابرات القوى الجوية والمخابرات العسكرية والمخابرات العامة في مثال ثانٍ، فحسب؛ بل تُحكم القبضة، أيضاً، على "قيادات" أدنى مستوى، تقود قطعان الشبيحة ومفارز الميليشيات والمرتزقة، وتتحكم بممارساتهم، وتضبطها وتردعها إذا اقتضت الحاجة. لكنّ الواقع على الأرض لا يشير إلى هذا، أو لا يدلّ عليه على نحو لا يجعل أي مراقب محايد يضرب كفاً بكفّ وهو يبصر "قيادة" عليا، سياسية وعسكرية وأمنية، تسمح بنهب بيوت المواطنين المنكوبين، وتأذن بعرضها وبيعها في أسواق علنية، بعد تسميتها "غنائم حرب"!      

مفيد هنا التذكير بأنّ المصطلح ذاته، أي "قيادة النظام"، ابتدأ غائماً ومبهماً وغير ملموس بعد وفاة حافظ الأسد في حزيران (يونيو) 2000: مَن هي هذه القيادة على وجه التحديد؟ كيف تشكلت، ومتى؟ ومَنْ، وما الذي، يمنحها سلطة (ولا نقول شرعية) اتخاذ القرارات؟ وهل حظيت بمقدار كافٍ، ومستديم نسبياً، من التماسك والانسجام والتفاهم، سياسياً وأمنياً، وعلى مستوى المصالح والتوازنات بين أطرافها؟ هل بقيت على الحال التي بدأت عليها حين تشكّلت، أو أعادت إنتاج نفسها، بعد غياب الحاكم الوحيد الأوحد، الأسد الأب؟ وما الذي فعلته بها أشهر الانتفاضة الخمسة عشر، سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً (وقد يضيف البعض، بعد إسقاط الحياء الكاذب: طائفياً، أيضاً)؟

أعود إلى ثلاث منظومات في تلمّس بعض الإجابة على هذه الأسئلة، أوّلها تلك التي اعتمدتها السلطة ذاتها، وتقول ببساطة إنّ النظام كان متماسكاً ومستقرّاً في الأصل، وما جرى ساعة وفاة الأسد الأب لم يكن سوى محاولة بارعة لتطويق الأمور سريعاً، وتنفيذ القرارات والإجراءات التي كانت "قيادة النظام" قد أجمعت عليها في الأساس، ومنذ وقت طويل، في عهد الأسد الأب، وبرعايته. ذلك يقين يضرب صفحاً تاماً عن طبيعة جولات التطهير التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة قبيل رحيل الأسد، ويغفل المغزى السياسي والأمني لاستبعاد رجال من أمثال علي دوبا (الرئيس الأسبق للمخابرات العسكرية) وحكمت الشهابي (رئيس الأركان وأبرز أعضاء مجلس الأمن القومي أيام الأسد الاب)، وعلي حيدر (قائد "الوحدات الخاصة" التاريخي)، فضلاً عن انتحار رئيس الوزراء محمود الزعبي.

منظومة ثانية ترى أنّ "الحرس الفتي"، كما توجّب أن يمثّله بشار وماهر الأسد، وحفنة من الضباط الذين كانوا في الصفّ الثاني أيام الأسد الأب (أمثال غازي كنعان، بهجت سليمان، جميل حسن، علي مملوك)، تصالح سريعاً مع "الحرس القديم" الذي مثّله عبد الحليم خدّام في الواجهة، وضمّ في الخلفية جميع الذين يطالبون بحصّة في الإرث، من قادة الأجهزة الأمنية، إلى رئاسة أركان الجيش وقادة الفرق العسكرية، وصولاً إلى الأفيال والتماسيح الكبار في قيادة الحزب ومؤسسات القطاع العام. وفق هذه المنظومة، الصحيحة إلى حدّ كبير، فإنّ سورية تكون قد فقدت الأسد الأب جسداً فقط، وليس منهجاً أو سياسات: مات الأسد! عاش الأسد!

المنظومة الثالثة تبدو وكأنها تصف انقلاباً عسكرياً وليس مرحلة انتقال "سلسة"، إذْ تقول إنّ القوى الأمنية والعسكرية والسياسية التي وجد الأسد الأب الوقت لحشدها خلف وريثه، هي التي تحرّكت بسرعة قصوى وفرضت سيناريو التغيير الوحيد، وقطعت الطريق على سواه. وتلك قوى كانت تبدأ من وحدات الحرس الجمهوري، وعدد من الفروع الأمنية الموالية، وأفواج النخبة في القوات المسلحة، وهذا أو ذاك من كبار ضباط الأركان. وفي سياق هذه المنظومة، التي تنطوي بدورها على كثير من العناصر الصحيحة، كان من الطبيعي أن تتكاتف أسرة حافظ الأسد، وتتحالف مع الخال محمد مخلوف وأبنائه رامي وحافظ (وهؤلاء ضمنوا اجتذاب كبار التجّار ورجال الأعمال، من كلّ الطوائف)، ومع الصهر آصف شوكت، وضباط أقرباء من طراز ذو الهمة شاليش وعاطف نجيب وسواهم. وكان منطقياً، بالتالي، أن نلمس درجة التكاتف العالية حول البيت الأسدي خلال أشهر الانتفاضة، من جانب القطاعات ذاتها التي نفّذت "انقلاب" حزيران 2000.

بيد أنه كان محتوماً على منطق التكاتف، ذاته، أن ينقلب على المنطق السليم البسيط، فيفرّق أعنّة النظام أيدي سبأ بين أطرافه، العليا والوسطى والدنيا، بما في ذلك تلك الأطراف الدنيا والأدنى التي وصفها المواطن الطيب بائع الخضار، حيث تذهب المجازر والتجارة الطائفية بكلّ، وأيّ، انسجام.

الاثنين، 18 يونيو 2012

بئر النفط وبركة الدم

على امتداد القرن الماضي، ومنذ انقلاب النفط إلى معادلة كبرى تتجاوز أمن الطاقة إلى الأمن القومي للقوى العظمى بصفة خاصة، استقرّ تعبير "النفط والدم" في القاموس السياسي الكوني، كما في الاستقبال الدلالي الشعبي العريض، بوصفه منتهى الذرائعية. هو، كذلك، أحد أقصى تطبيقات السياسة الواقعية، أو الـ Realpolitik حسب التعبير الشهير الذي صاغه الكاتب والسياسي الألماني لودفيغ فون روشاو، أواسط القرن التاسع عشر، ليختصر نزعة تفضيل المصلحة على المبدأ، والذريعة النافعة على الناظم الأخلاقي.

العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تطبيقات معادلة النفط مقابل الدم (البشري، بالطبع!)، في أماكن عديدة، لا سيما الشرق الأوسط حيث "الذهب الأسود" وفير، واستمرار تدفقه ـ آمناً، مستقرّاً، والأفضل رخيصاً ـ مسألة جيو ـ سياسية وستراتيجية عظمى. في العراق أوّلاً، ومن خلاله الخليج العربي بأسره، ثمّ الجزائر، واليمن، والسودان، وليبيا؛ وبعض التعنت الروسي في الاصطفاف خلف النظام السوري، رغم افتضاح الجرائم والمجازر والهمجيات كافة، مردّه خسران الروس الكثير ممّا يعتقدون أنه كان حصّتهم في الكعكة الليبية ما بعد معمّر القذافي. وعلى المنوال ذاته، لا يأتي المرء بجديد حين يستذكر ما صار يعرفه الطفل السوري، قبل المتبحر في السياسة الدولية: أنّ افتقار سورية إلى النفط هو العنصر الأبرز وراء اقتصار القوى الغربية على اللفظ والعقوبات المضحكة في الردّ على النظام السوري.

وخلال زيارة قصيرة إلى برلين، الأسبوع الماضي، أتاح لي باحث ألماني صديق فرصة التعرّف مجدداً ـ ولكن أعمق، وأفضل من ذي قبل ـ على أحد أبرز الأعمال الرائدة التي تناولت معادلة "الدم والنفط"، وبين الأبكر في تناولها من زاوية فعلية، من جهة أولى؛ ومختلفة تماماً عن الرؤية الغربية الشائعة، رغم الحسّ الاستشراقي المسبق الذي اكتنف فصول العمل، من جهة ثانية. مؤلف الكتاب هو الآزري (الأذربيجاني) أسعد بيك، أو قربان سعيد، أو ليف نسيمبوم في اسمه الأصلي؛ وعنوان عمله هو "الدم والنفط في الشرق"، وقّعه باسمه المستعار الأوّل، أسعد بيك، وصدر بالألمانية سنة 1930، ثمّ أعيدت طباعته سنة 1997. الرجل كان يهودياً، ولكنه أفلح طويلاً في إخفاء ديانته ليس في أذربيجان أو روسيا أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق فحسب، بل كذلك في ألمانيا والنمسا النازيتَيْن، وفي إيطاليا الفاشية.

الطريف أنّ صيته ذاع كواحد من أفضل كتّاب العصر المناهضين للشيوعية، ودعاة الأفكار اليمينية، حتى أنّ وزارة الدعاوة النازية أدرجت مؤلفاته في لائحة "الكتب الممتازة للأدمغة الألمانية"؛ كما كان قاب قوسين أو أدنى من كتابة السيرة الرسمية للزعيم الإيطالي الفاشي بنيتو موسوليني، لولا انكشاف ديانته. ولد نسيمبوم سنة 1905 في باكو، عاصمة أذربيجان، لأسرة من الأغنياء الجدد المشتغلين بصناعة النفط، وبعد ثورة أكتوبر 1917 فرّت الأسرة إلى إسطنبول ثمّ باريس وبرلين، حيث أكمل الفتى دراسته الجامعية بالاسم المستعار أسعد بيك نسيمبوم، معلناً أنه مسلم الديانة، من أقرباء أمير بخارى. ولقد بدأ ينشر سلسلة مقالات أدبية وسياسية واقتصادية سرعان ما أكسبته صفة "الخبير في شؤون الشرق"، حتى سنة 1938 حين انكشف أمر ديانته اليهودية، ففرّ إلى بوسيتانو في إيطاليا، حيث توفي سنة 1942.

مثير، في المقابل، أنّ قيمة نسيمبوم على الصعيد الآزري المحليّ لا تنهض على أيّ من هذه التفاصيل، بل تكاد تقتصر على أمر واحد: أنّ الرجل، باسمه المستعار قربان سعيد، هو مؤلف رواية "علي ونينو"، 1937، التي تروي حكاية الغرام المستحيل بين فتى أذربيجاني شيعي وفتاة جورجية مسيحية، وتعتبر أشهر قصّة حبّ في أذربيجان. (نشرت دار الحصاد السورية ترجمة لهذه الرواية قبل سنوات، لكنّ المترجمة أميمة البهلول عجزت عن ردّ الرواية إلى نسيمبوم، فاعتبرت أنّ كاتبها الحقيقي لا يزال مجهولاً). المدهش أنّ الكثير من الآزريين لا يصدّقون حتى اليوم أنّ المؤلف كان يهودياً، ولهذا لم يكن غريباً أن تنقلب تلك القصة الغرامية إلى ملحمة وطنية تعبّر عن طموح أذربيجان للاستقلال عن السوفييت!

وفي ما يخصّ كتلة أدبيات الاستشراق على صعيد كوني، تتمثّل خطورة نسيمبوم في أنه هيمن فعلياً على التفكير الرسمي، فضلاً عن الكثير من أنساق التفكير الشعبي ـ الشعبوي، في ألمانيا وإيطاليا والنمسا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. والمرء يدرك أثر مؤلفاته حين يتذكّر أنه لم يكتب في النفط الدامي والغرام الرومانسي فحسب، بل كتب سيرة النبيّ محمّد، كما روى حكايات عن الشرق لم تكن أمينة لأيّ شرق آخر سوى ذاك المتخيََّل الذي يتشهاه القارىء الغربي. والصديق الألماني، الذي أطلعني على محتويات دفاتر نسيمبوم المكتشفة مؤخراً، انتبه مثلي إلى أنّ أعمال الرجل في كشف أسرار استسهال إراقة دماء الشعوب مقابل ضمان تدفق النفط، إنما مُحقت على نحو شبه تامّ لصالح كتاباته الاستشراقية وحدها، فظلّ ـ أسوة بغالبية المستشرقين ـ مرجع معرفة إنشائية زائفة عن "الشرق".

إذْ ما المصلحة في أن يفضّل ساسة الغرب، فضلاً عن مستشرقيه و"الخبراء" في شؤوننا، كتاباً يذكّرهم بأن "السياسات الواقعية" إنما تخوض في بركة دم، خلال بحثها المحموم عن بئر نفط!

الاثنين، 11 يونيو 2012

كافكا في ريف دمشق

في مثل هذه الأيام، ولكن قبل خمس سنوات، نشر الشاعر اللبناني الصديق بسام حجار (1955 ـ 2009) مقالة في صحيفة "المستقبل" اللبنانية، كانت سياسية (على غير عاداته الكتابية عموماً)، حملت العنوان اللافت "كافكا في ريف دمشق". والراحل وزّع أفكار المقالة على عشرة مقاطع مرقّمة، تنتهج روحية التعليق، الساخر الأسود تارة أو المضحك المبكي طوراً، على سلسلة وقائع كانت آنذاك مستجدة ساخنة، تخصّ الأوضاع اللبنانية والسورية تحديداً: المحكمة الدولية، وتحذيرات النائب السوري محمد حبش من أنّ إقرارها تحت البند السابع سوف يؤدّي إلى كارثة (كلام حبش "في حدّ ذاته هو الكارثة"، حسب حجار)؛ وانتخابات بشار الأسد بنسبة تزيد عن 97% (وهذه النسبة "تستحقّ محكمة دولية")؛ وغرابة أن يكون الممثّل الفعلي لنسبة 70% من أصوات المسيحيين في لبنان (ميشيل عون، حسب وليد المعلم، وزير خارجية النظام السوري) عاجزاً عن الفوز في انتخابات طلابيّة أو نقابة مهنية...

وبالطبع، خاصة في نظر قارىء مثلي، سوريّ، كان العنصر الأوّل اللافت في العنوان هو الربط بين كافكا وريف دمشق، إذْ توجّب إتمام قراءة المقال لإدراك المغزى البسيط: أنّ غالبية الوقائع التي تتناولها التعليقات كافكاوية الطابع من جهة، ومبتدئة من دمشق ومنتهية إليها من جهة ثانية. ولكن، لماذا ريف دمشق، وليس دمشق فقط؟ هل دمشق هي الريف (مقابل لبنان، المدينة؟)؛ أم العكس تماماً: لبنان، كما تريده السلطة السورية، هو ريفها؟ وهل أهل السلطة، في سورية أو في لبنان، هم وحدهم موضوع التجاذب بين الريف والمدينة، أم يدخل في نطاقه الشعبان والبلدان أيضاً؟ ذاك غموض لم توفّره القراءة، لأنّ المادّة لم تكن تكفي لتبديد الغموض، ناهيك عن ترجيح تأويل هنا أو استبعاد التباس هناك. العنصر الثاني اللافت، الذي زاد في عدد الأسئلة، هو أنّ المقالة بأسرها لا تأتي البتة على ذكر مفردة "كافكا"، ولا مفردة "ريف"!

ذلك دفعني إلى أن أكتب ردّاً، في حينه (أسترجع فحواه هنا لأسباب أخرى بالطبع)، بدأته من حقّ بسام حجار، الشاعر، في أن تكون فضيلة الشكّ معه وليس ضدّه؛ بمعنى أنه مارس حقاً شعرياً في بعثرة الدلالة، أو تشريد التعبير، أو تعكير صفو المعنى وكسر سكون المفردة وخرق ركود القول... حتى إذا كان ما يكتبه ليس شعراً، بل تعليقات سياسية. هذا، في نهاية المطاف، شاعر اعتبر القصيدة "حدّ استقراء الصمت. فقط"، وفي مقابل السؤالين الشهيرين: "لماذا لا تقول ما يُفهم"، و"لماذا لا تفهم ما يُقال"، وقف قاب قوسين أو أدنى من اقتراح سؤال ثالث: لِمَ لا تفهم ما لا يُقال؟

بيد أنني انتقلت، بعدئذ، من حقّ صديقي الشاعر إلى حقّي الشخصي، كمواطن سوري يعنيه كثيراً أن لا يكون أحد ريفاً لأحد بالمعنى الانتقاصي للمفردة، وحيث يُراد من "الريف" معنى الباحة الخلفية. ورغم أنني استبعدت بقوّة أن يكون "ترييف" الشام على يد جبل لبنان، أو العكس طبعاً، هو المغزى الذي أراده حجار، فإني مع ذلك انتهزت الفرصة للمساهمة في استكشاف احتمالات الالتباس ذاك، وفي الآن ذاته تأكيد احتمالات انعدام الالتباس في عدد من المفردات الخبيثة التي أخذت تطفو، هنا وهناك، على لغة التخاطب بين بعض السوريين وبعض اللبنانيين.

ونتذكّر، ما دامت الذكرى تنفع حقاً، أنّ حقبة أكثر التباساً كانت قد شهدت شيوع هتافات لبنانية من النوع التالي: "لا لجمهورية الكعك"، و"ما بدنا كعك بلبنان، إلا الكعك اللبناني"، في ذروة هيمنة النظام السوري ليس عن طريق تجنيد الكعكة السورية، بل بسطوة الدبابة وأجهزة عنجر وغازي كنعان، ثمّ رستم غزالي من بعده. ولهذا وجدتني أتحسس من عنوان مقالة حجار، فكتبت أستوضح وأوضح وأعاتب في آن معاً، فلم يتأخر الراحل في الردّ على الردّ، ضمن مقال جميل لا يوضح فقط، بل يعتذر أيضاً عن أي معنى قدحي قد يكون تبادر إلى الأذهان.

أتذكّر صديقي اليوم، إذاً، لأنّ ريف دمشق هو في عداد المناطق الأبرز التي تشارك بإدامة الانتفاضة حيّة عبقرية وحيوية، وصناعة التاريخ السوري الراهن استطراداً، من جهة أولى؛ كما تتسبب، كلّ يوم وكلّ ساعة، في دفع النظام إلى الزوايا الضيّقة الأكثر كافكاوية، من حيث مجّانية العنف العاري، واندحار الطرائق الأشدّ وحشية في محاولات كسر الانتفاضة، من جهة ثانية. وأتذكّر صديقي لأنّ النظام بلغ مرحلة من التهافت والانحطاط واليأس والانتحار، لم يعد ينفع في تجميل قبائحها منافق متمرس مخضرم مثل محمد حبش. وبالطبع، لكي تمتدّ المفارقة الكافكاوية من الماضي إلى الراهن، نتذكّر أنّ دعاة الكعك اللبناني الصافي كانوا من أنصار عون إجمالاً، فانظروا أيّ كعك يبيعون اليوم، وأيّ تشبيح يمتهنون!

"سورية 2012 = لبنان 1975"، يقول عنوان مادّة نُشرت مؤخراً في صحيفة لبنانية "ممانعة"، لم تعد ترى مخرجاً ينقذ النظام السوري إلا الأمل في اندلاع حرب أهلية سورية، شريطة أن تكون على غرار النموذج اللبناني الأثير. كأنّ كعكة كافكا، يا صديقي الشاعر الراحل، عبرت الحدود، وتستقرّ اليوم في... ضواحي بيروت!

الأحد، 3 يونيو 2012

سمير قصير و"شقيقة الدهر"

بين أن أعلّق على خطاب بشار الأسد، يوم أمس، أمام ما يُسمّى "مجلس الشعب"؛ واستذكار صديقي الشهيد، الكاتب والمؤرّخ والصحافي سمير قصير (1960 ـ 2005)، الذي مرّت ذكرى اغتياله السابعة يوم أمس أيضاً؛ لم أتردد البتة: ثمة الكثير من اللغو، والرقص اللفظي على عذابات السوريين، وإضافة الإهانة على جراحهم، وإيهام الذات والأتباع بأنّ المصير المحتوم مؤجل، في الخيار الأوّل؛ وثمة الكثير من عِبَر الذاكرة المفتوحة، ودروس التاريخ الحيّة، وأمثولات السلوك الأخلاقي والفكري والسياسي النبيلة، في الخيار الثاني؛ فكيف، ومن أين، يأتي التردد!

واستذكار قصير يستوجب البدء من تلك الحقيقة الكبرى، التي كانت جلية وساطعة لا تحتاج إلى برهنة أو تمحيص: أنّ استهدافه بُني على ربطه السليم، الذي كان جسوراً تماماً وطليعياً في زمانه أيضاً، بين استعادة الديمقراطية اللبنانية وتطويرها، واستعادة الديمقراطية التي عرفتها سورية في أكثر من مرحلة على امتداد تاريخها الحديث، قبل وقوع البلاد أسيرة استبداد حزب البعث سنة 1963. المطلوب، إذاً، لم يكن ذلك اللبناني (من أب فلسطيني، وأمّ سورية!)، والديمقراطي، اليساري إجمالاً، الليبرالي على النحو الأنقى للصفة، الناقد للنظام الأمني اللبناني، أسوة بالأنظمة الطائفية والإقطاعية والعائلية، الداعي إلى قطيعة صريحة مع الماضي المريض الفاسد المتهالك... فحسب؛ بل، أيضاً، ذلك اللبناني الذي بات يرى الصلة وشيجة جدلية، وملحّة كذلك، بين شعبين واستقلالين وديمقراطيتين: في لبنان، وفي سورية.

ولعلّ استذكار قصير اليوم، بالذات، لا ينحصر في أنه شهيد الانتفاضة السورية مثلما هو شهيد ما سُمّي "ثورة الأرز"، انتفاضة الاستقلال خلال أسابيع شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2005، في لبنان؛ بل يشمل أيضاً ربط سيرة الراحل بسيرة مدينة بيروت، على نحو يمنحه حقّ، وشرف، أن يكون شهيد هذه الحاضرة العبقرية، الجميلة مثل الشهيد الجميل، والتعددية على غرار تكوينه الثرّ والمركّب. أجدني، بذلك، أميل إلى الحديث عن شخصية ابن بيروت وأحد مؤرّخيها، في هذه الذكرى السابعة تحديداً، الآن إذْ تجري محاولات حثيثة لإلقاء المدينة في أتون مخططات انتشال النظام السوري من الهوّة الفاغرة التي ينحدر إليها، حتى إذا كانت تلك المساعي تفتح أمام لبنان بأسره بوّابات الجحيم، وربما لأنها لا تفتح إلا تلك البوّابات.     

معروف، بالطبع، أنّ للراحل العديد من المؤلفات اللامعة، أبرزها ربما "مسارات من باريس إلى القدس"، 1993، بالتعاون مع المؤرّخ والناشر السوري فاروق مردم بك؛ فضلاً عن مجموعة المقالات التي صدرت في كتابَيْه "ديمقراطية سورية واستقلال لبنان: البحث عن ربيع دمشق"، و"عسكر على مين: لبنان الجمهورية المفقودة". غير أنّ عمل قصير المفضّل عندي هو "تاريخ بيروت" l Histoire de Beyrouth، الذي صدر في باريس سنة 2003 عن دار النشر الفرنسية Fayard (ترجمته إلى العربية ماري طوق غوش، وصدر عن "دار النهار" سنة 2006)؛ لأنه، في نظري، قد يكون الأكثر تعبيراً عن مجمل مواهب قصير، الكاتب والمؤرخ والمثقف الملتزم، وذوّاقة الأدب أيضاً.

والكتاب، في الأصل الفرنسي، مجلد ضخم يقع في 732 صفحة، ويحتوي على عشرات الصور والوثائق النادرة، وفيه نتابع تاريخ مدينة بيروت بمختلف مراحله الزمنية، ومختلف جوانبه السياسية والإجتماعية والمعمارية والثقافية والتجارية، وحتى المطبخية. والعمل تأليف بديع فريد في أكثر من اعتبار، لكنّ سمته الأساسية هي المزج البارع والذكيّ بين المعرفة العميقة والمتعة العالية، وتشويق سرد الحكاية التاريخية خصوصاً. ومنذ كلمة الغلاف نقرأ ما يقوله نونوس البانوبوليسي، في القرن الخامس بعد الميلاد: "ربّ مدينة تُدعى بيرويه، موئل الحياة، مرفأ ألوان الحبّ (...) أصل الحياة، حاضنة المدائن، شرف الملوك، الرؤيا الأولى، شقيقة الدهر، مواكبة الزمن...". أو نقرأ إليزيه روكلو، سنة 1905: "قدر هذه المدينة أن تعيش وأن تعود إلى الحياة مهما كان: يمرّ الغزاة وتُبعث المدينة بعدهم".

قصير يبدأ تاريخ المدينة من العصور القديمة، فنعرف أنّ بيروت في عهد الفينيقيين كانت مجرّد محطة سفر صغيرة بين المراكز الثلاثة الهامة، صيدا وصور وبيبلوس، وظلّ موقعها هامشياً في التاريخ الإسلامي والعثماني، رغم خضوعها للاحتلال الصليبي طيلة 170 سنة. وللتمثيل على حجم المدينة، نتذكّر أنّ عدد سكانها كان، في نهاية القرن الثامن عشر، 4000 نسمة، بالقياس إلى سكان دمشق البالغين 100 ألف نسمة. مكانتها سوف تبدأ في البروز مطلع القرن التاسع عشر، حين قرّر إبراهيم باشا فتح الدولة أمام التأثير الأوروبي، فتحولت بيروت إلى رأس جسر لما يمكن تسميته "غربنة" الشرق. وبين الاستقلال سنة 1943، واندلاع الحرب الأهلية سنة 1975، شهدت بيروت عصرها الذهبي كمدينة نهضوية عصرية منفتحة ليبرالية، عاصمة النشر والصحافة والحرّيات، وملجأ الساسة والمثقفين والمناضلين العرب الذين ضاق بهم الاستبداد العربي على اختلاف أنظمته وأنماطه.

وعن بيروت هذه يقول قصير، في عبارة آسرة: "هنالك مدن يغلب فيها الثابت على المتحوّل، امّا بيروت فهي المدينة التي ينحصر ثابتها في تحوّلها الدائم". وبالفعل، قد لا نبتعد كثيراً عن أحد أفضل الأمثلة على تحوّل المكان في نفوس قاطنيه: المؤلف نفسه، المفكر والكاتب والمثقف والمناضل والحالم؛ الشهيد، أيضاً.  

الجمعة، 1 يونيو 2012

معادلات "حزب الله": هل الضرورات تبيح أقصى المحظورات؟

لعلّ تدخّل حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، على مستوى شخصي مباشر، في حادثة اختطاف اللبنانيين في سورية، كان الكاشف الأبرز، فضلاً عن أنه الأحدث، لما يعانيه الحزب من معضلات جسيمة في صياغة موقف متماسك، ضمن الحدود الدنيا، إزاء الانتفاضة السورية، والعلاقة مع النظام السوري استطراداً. وكانت الفقرات المسهبة التي خصصها نصر الله للواقعة، أثناء خطابه في مهرجان عيد المقاومة والتحرير، في بنت جبيل يوم 25 أيار (مايو) الماضي، قد كشفت تحوّلاً دراماتيكياً في خطاب "السيّد"، ليس على المستوى اللفظي وحده، بل كذلك في دلالة القاموس ومغزى المفردة؛ سواء في توصيف/ إعادة تعريف مجريات الانتفاضة، الراهنة، أو "ضبط" نطاق اصطفاف الحزب خلف النظام السوري.

ورغم أنّ نصر الله ابتدأ لائحة الشكر من بشار الأسد (قبل الرئيس اللبناني ميشيل سليمان، وقبل نبيه برّي ونجيب ميقاتي وسعد الحريري ورجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو...)، إلا أنه أحجم هذه المرّة عن استخدام تعبير "سورية الأسد"، سيء الصيت، الذي كان المفضّل في خطب "السيّد" السابقة (حيث كان، كذلك، يستطيب تكملة التعبير: "سورية حافظ الأسد... سورية بشار الأسد"). وكانت هذه التعابير تشكّل غصّة لدى الجمهور السوري، إذْ يأتي مديح نظام الاستبداد والفساد والتوريث من قائد حركة مقاومة شعبية، لا يكفّ عن التشديد على طهرانية التضحية وشرف الفداء، والانحياز إلى صفّ المستضعفين في الأرض. لم تكن أقلّ جرحاً، بالطبع، تلك الصورة الشهيرة التي تُظهر "السيّد" وهو يقدّم بندقية إسرائيلية من طراز "عوزي"، غنمها رجال المقاومة اللبنانية، هدية إلى العميد رستم غزالي، قائد الاستخبارات السورية في لبنان آنذاك، وأحد أبغض رموز النظام السوري.

يلفت الانتباه، قبل هذا، أنّ "السيد" أعاد صياغة موقف "حزب الله" من المشهد الداخلي السوري كما يلي، في فقرة تتوجه مباشرة إلى الخاطفين: "إذا كان الغرض هو الضغط على موقفنا السياسي مثل التعابير التي سمعها الزوار من الخاطفين، فهذا لن يقدّم ولن يؤخر. نحن موقفنا السياسي من الأحداث التي تجري في سورية منطلقة من ثوابت ومن رؤية ستراتيجية ومن تقييم للوضع في المنطقة، ومن قراءة دقيقة وهادئة وعاقلة للتهديدات والأحداث والمشاريع. ولذلك نحن في سورية مع الحوار ومع الإصلاح ومع الوحدة الوطنية ومع إنتهاء أي شكل من أشكال المواجهة المسلحة، ومع المعالجة السياسية من أجل سورية، من أجل مستقبلها وموقعها وشعبها وأهلها وسلامتها وقوتها".

ورغم أنّ نصر الله واصل اعتبار ما يجري في سورية مجرّد "أحداث"، وليس انتفاضة شعبية، أو حتى "أزمة" كما في خطاب النظام السوري ذاته مثلاً، فإننا اليوم بعيدون تماماً عن حقبة شهدت إصرار الحزب على اعتبار ما يجري في سورية مؤامرة خارجية، تستهدف "صمود القيادة السورية"، والنيل من موقفها "الممانِع" و"المقاوِم"، والابتعاد بها عن خندق قتال إسرائيل والولايات المتحدة... كذلك عفّ خطاب نصر الله الأخير عن إنكار وجود الشعب السوري في صفّ الانتفاضة، إذْ يتذكّر المرء بأسى شديد سؤال "السيّد"، الأشهر حتى إشعار آخر: "طيب وين الشعب السوري لنأف (لِنقف) حدّو (إلى جانبه)؟"؛ أو إنكار  التدمير والمذابح، كما في السؤال الذي لا يقلّ شهرة: "شو في بحمص؟ ما في شي بحمص!").

ولا أحد ينكر على الحزب دعوته إلى "الإصلاح" في سورية، و"الوحدة الوطنية" و"إنتهاء أي شكل من أشكال المواجهة المسلحة"، و"المعالجة السياسية"، وسوى هذه كلها من مطالب. ولكن، ألم يكن النظام ذاته بطل "الإصلاح" و"الوحدة الوطنية" و"المعالجة السياسية"؛ ولكن، في الأن ذانه، بطل استخدام جميع صنوف الأسلحة الثقيلة في حصار المدن وقمع التظاهرات، واعتقال المواطنين وممارسة التعذيب والتصفيات الجسدية؟ وكيف للمواطن السوري أن ينسى، أو يغفر، موقف نصر الله المساند للنظام، على نحو تامّ ومطلق وراسخ وثابت، في خطبته الأولى حول "الأحداث" في سورية، بعد يوم واحد أعقب افتضاح الجريمة النكراء بحقّ الفتى حمزة الخطيب؟ أو مواقف الأمين العام لـ"حزب الله"، التي تغنّت بالثورات في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن، ولكنها اعتبرت ما يجري في سورية "مؤامرة" إسرائيلية ـ أمريكية، تستهدف "المقاومة اللبنانية" مثلما تستهدف النظام السوري؟

المرء، إلى هذا، على مبعدة ملموسة، في السياسة والمتغيرات الجيو ـ سياسية، من اللقاء الثلاثي الذي شهدته العاصمة السورية في ربيع 2010، وضمّ بشار الأسد، رأس نظام استبدادي وراثي؛ و محمود أحمدي نجاد، رئيس دولة تعتمد مبدأ "ولاية الفقيه" غير الديمقراطي وغير العصري؛ و حسن نصر الله، زعيم حركة مقاومة لبنانية، تؤمن بالمبدأ ذاته، ولا تعفّ عن استخدام سلاح المقاومة في تطويع المعادلة السياسية الداخلية. هل كان ممكناً لهذه "الخلطة" أن تنتج ممانعة من أي نوع؟ وكيف أمكن للمواطن السوري أو الإيراني أو اللبناني أن يباركها، إذا كانت قد انقلبت وتنقلب ضدّ الشارع الشعبي، في دمشق وطهران وبيروت، ساعة تشاء الحسابات السياسية؟

ولم يكن خافياً، إلا على السذّج ودافني الرؤوس في الرمال، أنّ حضور نصر الله على نحو علني صارخ كان، بدوره، رسالة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، يشترك في توجيهها النظام السوري وإيران معاً: كلاهما لكي يحسّن موقعه التفاوضي والدبلوماسي، ويرفع قيمة ما يمتلك من أوراق، أو يكشف عنها ويلوّح بها. ومن جانب طهران، كان في الرسالة بُعد خاصّ يذكّر الحليف السوري بأنّ "حزب الله" هو ركن التحالف الأكبر والأهمّ، وأنه رقم يتوجب احتسابه في كلّ تقارب للمصالح بين دمشق وطهران، وفي كلّ تنافر لتلك المصالح أيضاً. وإذا كان النظام السوري قد احتسب هذا جيداً، لأنه يدخل في صلب موازناته مع واشنطن والغرب عموماً، فإنّ مبادرة طهران إلى التذكير به بين الحين والآخر كان ينفع دمشق، ولا يضرّ سواها!

واليوم قد لا يختلف عاقلان (وضمن صفوف "حزب الله" ذاته، حيث يتوفر عقلاء كثر كما يرجح المرء) حول واحد من المعطيات الإقليمية الكثيرة التي أفرزتها الانتفاضة السورية، أي الخسران الكبير الذي تعرّض له "حزب الله" على الصعيد الشعبي العربي عموماً، والسوري بصفة خاصة وأكيدة، جرّاء مواقف الحزب المؤيدة للنظام السوري، والصامتة عن جرائمه. وهذه فرصة جديدة للتوقف، مجدداً، عند إشكاليات مثال "حزب الله"، إذْ تبدو الحال بالنسبة إلى النظام السوري ونظام "ولاية الفقيه" الإيراني أوضح وأبسط، إلا عند عاصبي الأبصار والعقول عن سابق قصد وتصميم.

ذلك لأنّ الحزب صعد، أوّلاً، على خلفية انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، ثم تبلور وجوده العسكري والعقائدي بعدئذ على خلفيات الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ومجازر صبرا وشاتيلا، واحتلال الجنوب اللبناني. وكان خطّه العقائدي العام مناهضاً على نحو راديكالي لـ"الإمبريالية والصهيونية وعملائهما المحليين" كما جاء في البيانات الأولى. وهو الخطّ الذي يظلّ ساري المفعول بدرجة عالية، خصوصاً بعد أن اتسع نطاق توصيف الحزب لطبيعة الخصوم المحليين، بما في ذلك حركة "أمل" ذات حقبة، وتيارات ومنظمات شيعية تقليدية أخرى.

كذلك يتمتّع الحزب بمرونة تحالفية عالية لأنه لا يُلزم المنتسبين إلى صفوفه بأية قواعد تنظيمية، وإنْ كانت تقاليد العمل الداخلية تجعله أقرب إلى مزيج من الميليشيا العسكرية والحوزة الدينية. وهو أقرب إلى تجمّع عقائدي عريض وليس منظمة سياسية واضحة المعالم، الأمر الذي أتاح له يسراً استثنائياً في الانتشار الشاقولي، واحتضان قضايا "المعذبين" و"المستضعفين" و"الفقراء". وإذا ضُمّت إلى ذلك عناصر أخرى مثل الحميّة العقائدية الشيعية، وتقاليد إمامة الفقيه، وثقافة السعي إلى الجهاد والاستشهاد، فإن صيغة "حزب الله" تصبح فريدة في التراث الحزبي العربي الحديث، وتغدو نسيج وحدها ضمن ستراتيجيات التغطية الدينية للحركات التنظيمية.

المسألة الثالثة هي أنّ الحزب بدأ مع الثورة الإسلامية الإيرانية، وكان مجرّد نواة صغيرة في كتلة عريضة امتدّت ظلالها إلى مختلف أرجاء العالم الاسلامي. وإذا كانت صفحة تصدير الثورة عن طريق إيفاد ونشر الحرس الثوري (الإيراني إجمالاً) أو تشكيل فصائل عسكرية ـ عقائدية محلية من نوع "جند الله" و"الجهاد"، قد طُويت مع التطورات الموضوعية اللاحقة التي شهدتها ساحات الصحوة الاسلامية إجمالاً؛ فإن ذلك كان في مصلحة "حزب الله" وليس العكس. لقد جرّد الحركة من طابع ارتباطها الصريح بالخارج، وزجّها مباشرة في عمق المعادلة الداخلية كفريق ينبغي أن يكون له برنامجه اللبناني والعربي والإسلامي المستقل.

والمسألة الرابعة، والأهمّ ربما، هي أنه ليس محتوماً على الحركة الشعبية في الجنوب اللبناني أن تظلّ مجيّرة باسم تنظيم سياسي واحد بعينه، وهي استطراداً ليست حكراً على طرف شيعي واحد بصفة امتيازية أو شبه امتيازية. إنها حركة معقدة للغاية، والعوامل التي أسهمت في بناء فرادتها تبدأ من الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للسكان، ولا تنتهي عند عقود احتكاكهم بالحركات السياسية والدينية (من الحزب الشيوعي اللبناني، إلى المقاومة الفلسطينية، مروراً بزعماء تاريخيين من أمثال معروف سعد والإمام الصدر)، وعقود عيشهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومقاومتهم له.

لكنّ "غزوة بيروت" في أيار (مايو) 2008، والفشل في تأمين أغلبية برلمانية بعد انتخابات حزيران (يونيو) 2009، والعجز عن الثأر لاستشهاد عماد مغنية في ما أسماه نصر الله "الحرب المفتوحة" على إسرائيل، وعدم ترجمة مبادىء ميثاق الحزب الجديد إلى تطبيقات سياسية واجتماعية على الأرض، والصمت عن معارك الإصلاحيين في إيران أو التعاطف الضمني مع السلطة، وحال الارتباك المفتوحة في إدارة مآزق حكومة ميقاتي، وازدواجية المعايير في المواقف من انتفاضات العرب... كلّ هذه كانت عوامل تعيد "حزب الله" إلى صياغات تأسيسه الأولى، وتضعه في قلب ارتباطات أحلاف الخارج، هذه التي لم يسبق له أن انفكّ عنها تماماً في الواقع.

غير أنّ أبسط حقوق التحرير على "أبطال التحرير" هو الالتفات إلى البشر على الأرض المحررة، أو استكمال المهمّة عن طريق تحرير الآدمي المقيم على التراب المحرّر، ومنحه فرصة التمتّع بمغانم التحرير، وتلمّس المعنى الإنساني الملموس لفكرة التحرير، والامتناع عن امتداح الاستبداد وتجميل وجوهه القبيحة. هذا حقّ لا يُنازع أيضاً، وهو ثمن طبيعي مقابل التضحيات الجسام التي بذلها معظم اللبنانيين، أينما كانوا وبصرف النظر عن مواقفهم من "حزب الله"، أو حتى من خيار المقاومة بالمعنى العريض. والمراوحة هكذا في المكان، بعد المتغيّرات النوعية التي شهدتها المنطقة، لا تبخس اللبناني حقوقه فحسب، بل هي تستبدل معنى التحرير النبيل والإنساني، بآخر أقرب إلى الاتجار بالمعادلات.

وفي أزمنة عاصفة مثل هذه التي نشهدها، ولاّدة وحمّالة وثورية وانقلابية، كيف لثوابت "حزب الله" أن تظلّ راسخة أزلية، لا تتبدّل ولا تتحوّل؟ وكيف للضرورات الكبرى في معادلات الحزب الجيو ـ سياسية، اللبنانية والعربية والإقليمية، أن لا تنقلب رأساً على عقب، فتبيح... أقصى المحظورات؟