وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 11 يونيو 2012

كافكا في ريف دمشق

في مثل هذه الأيام، ولكن قبل خمس سنوات، نشر الشاعر اللبناني الصديق بسام حجار (1955 ـ 2009) مقالة في صحيفة "المستقبل" اللبنانية، كانت سياسية (على غير عاداته الكتابية عموماً)، حملت العنوان اللافت "كافكا في ريف دمشق". والراحل وزّع أفكار المقالة على عشرة مقاطع مرقّمة، تنتهج روحية التعليق، الساخر الأسود تارة أو المضحك المبكي طوراً، على سلسلة وقائع كانت آنذاك مستجدة ساخنة، تخصّ الأوضاع اللبنانية والسورية تحديداً: المحكمة الدولية، وتحذيرات النائب السوري محمد حبش من أنّ إقرارها تحت البند السابع سوف يؤدّي إلى كارثة (كلام حبش "في حدّ ذاته هو الكارثة"، حسب حجار)؛ وانتخابات بشار الأسد بنسبة تزيد عن 97% (وهذه النسبة "تستحقّ محكمة دولية")؛ وغرابة أن يكون الممثّل الفعلي لنسبة 70% من أصوات المسيحيين في لبنان (ميشيل عون، حسب وليد المعلم، وزير خارجية النظام السوري) عاجزاً عن الفوز في انتخابات طلابيّة أو نقابة مهنية...

وبالطبع، خاصة في نظر قارىء مثلي، سوريّ، كان العنصر الأوّل اللافت في العنوان هو الربط بين كافكا وريف دمشق، إذْ توجّب إتمام قراءة المقال لإدراك المغزى البسيط: أنّ غالبية الوقائع التي تتناولها التعليقات كافكاوية الطابع من جهة، ومبتدئة من دمشق ومنتهية إليها من جهة ثانية. ولكن، لماذا ريف دمشق، وليس دمشق فقط؟ هل دمشق هي الريف (مقابل لبنان، المدينة؟)؛ أم العكس تماماً: لبنان، كما تريده السلطة السورية، هو ريفها؟ وهل أهل السلطة، في سورية أو في لبنان، هم وحدهم موضوع التجاذب بين الريف والمدينة، أم يدخل في نطاقه الشعبان والبلدان أيضاً؟ ذاك غموض لم توفّره القراءة، لأنّ المادّة لم تكن تكفي لتبديد الغموض، ناهيك عن ترجيح تأويل هنا أو استبعاد التباس هناك. العنصر الثاني اللافت، الذي زاد في عدد الأسئلة، هو أنّ المقالة بأسرها لا تأتي البتة على ذكر مفردة "كافكا"، ولا مفردة "ريف"!

ذلك دفعني إلى أن أكتب ردّاً، في حينه (أسترجع فحواه هنا لأسباب أخرى بالطبع)، بدأته من حقّ بسام حجار، الشاعر، في أن تكون فضيلة الشكّ معه وليس ضدّه؛ بمعنى أنه مارس حقاً شعرياً في بعثرة الدلالة، أو تشريد التعبير، أو تعكير صفو المعنى وكسر سكون المفردة وخرق ركود القول... حتى إذا كان ما يكتبه ليس شعراً، بل تعليقات سياسية. هذا، في نهاية المطاف، شاعر اعتبر القصيدة "حدّ استقراء الصمت. فقط"، وفي مقابل السؤالين الشهيرين: "لماذا لا تقول ما يُفهم"، و"لماذا لا تفهم ما يُقال"، وقف قاب قوسين أو أدنى من اقتراح سؤال ثالث: لِمَ لا تفهم ما لا يُقال؟

بيد أنني انتقلت، بعدئذ، من حقّ صديقي الشاعر إلى حقّي الشخصي، كمواطن سوري يعنيه كثيراً أن لا يكون أحد ريفاً لأحد بالمعنى الانتقاصي للمفردة، وحيث يُراد من "الريف" معنى الباحة الخلفية. ورغم أنني استبعدت بقوّة أن يكون "ترييف" الشام على يد جبل لبنان، أو العكس طبعاً، هو المغزى الذي أراده حجار، فإني مع ذلك انتهزت الفرصة للمساهمة في استكشاف احتمالات الالتباس ذاك، وفي الآن ذاته تأكيد احتمالات انعدام الالتباس في عدد من المفردات الخبيثة التي أخذت تطفو، هنا وهناك، على لغة التخاطب بين بعض السوريين وبعض اللبنانيين.

ونتذكّر، ما دامت الذكرى تنفع حقاً، أنّ حقبة أكثر التباساً كانت قد شهدت شيوع هتافات لبنانية من النوع التالي: "لا لجمهورية الكعك"، و"ما بدنا كعك بلبنان، إلا الكعك اللبناني"، في ذروة هيمنة النظام السوري ليس عن طريق تجنيد الكعكة السورية، بل بسطوة الدبابة وأجهزة عنجر وغازي كنعان، ثمّ رستم غزالي من بعده. ولهذا وجدتني أتحسس من عنوان مقالة حجار، فكتبت أستوضح وأوضح وأعاتب في آن معاً، فلم يتأخر الراحل في الردّ على الردّ، ضمن مقال جميل لا يوضح فقط، بل يعتذر أيضاً عن أي معنى قدحي قد يكون تبادر إلى الأذهان.

أتذكّر صديقي اليوم، إذاً، لأنّ ريف دمشق هو في عداد المناطق الأبرز التي تشارك بإدامة الانتفاضة حيّة عبقرية وحيوية، وصناعة التاريخ السوري الراهن استطراداً، من جهة أولى؛ كما تتسبب، كلّ يوم وكلّ ساعة، في دفع النظام إلى الزوايا الضيّقة الأكثر كافكاوية، من حيث مجّانية العنف العاري، واندحار الطرائق الأشدّ وحشية في محاولات كسر الانتفاضة، من جهة ثانية. وأتذكّر صديقي لأنّ النظام بلغ مرحلة من التهافت والانحطاط واليأس والانتحار، لم يعد ينفع في تجميل قبائحها منافق متمرس مخضرم مثل محمد حبش. وبالطبع، لكي تمتدّ المفارقة الكافكاوية من الماضي إلى الراهن، نتذكّر أنّ دعاة الكعك اللبناني الصافي كانوا من أنصار عون إجمالاً، فانظروا أيّ كعك يبيعون اليوم، وأيّ تشبيح يمتهنون!

"سورية 2012 = لبنان 1975"، يقول عنوان مادّة نُشرت مؤخراً في صحيفة لبنانية "ممانعة"، لم تعد ترى مخرجاً ينقذ النظام السوري إلا الأمل في اندلاع حرب أهلية سورية، شريطة أن تكون على غرار النموذج اللبناني الأثير. كأنّ كعكة كافكا، يا صديقي الشاعر الراحل، عبرت الحدود، وتستقرّ اليوم في... ضواحي بيروت!