وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 3 يونيو 2012

سمير قصير و"شقيقة الدهر"

بين أن أعلّق على خطاب بشار الأسد، يوم أمس، أمام ما يُسمّى "مجلس الشعب"؛ واستذكار صديقي الشهيد، الكاتب والمؤرّخ والصحافي سمير قصير (1960 ـ 2005)، الذي مرّت ذكرى اغتياله السابعة يوم أمس أيضاً؛ لم أتردد البتة: ثمة الكثير من اللغو، والرقص اللفظي على عذابات السوريين، وإضافة الإهانة على جراحهم، وإيهام الذات والأتباع بأنّ المصير المحتوم مؤجل، في الخيار الأوّل؛ وثمة الكثير من عِبَر الذاكرة المفتوحة، ودروس التاريخ الحيّة، وأمثولات السلوك الأخلاقي والفكري والسياسي النبيلة، في الخيار الثاني؛ فكيف، ومن أين، يأتي التردد!

واستذكار قصير يستوجب البدء من تلك الحقيقة الكبرى، التي كانت جلية وساطعة لا تحتاج إلى برهنة أو تمحيص: أنّ استهدافه بُني على ربطه السليم، الذي كان جسوراً تماماً وطليعياً في زمانه أيضاً، بين استعادة الديمقراطية اللبنانية وتطويرها، واستعادة الديمقراطية التي عرفتها سورية في أكثر من مرحلة على امتداد تاريخها الحديث، قبل وقوع البلاد أسيرة استبداد حزب البعث سنة 1963. المطلوب، إذاً، لم يكن ذلك اللبناني (من أب فلسطيني، وأمّ سورية!)، والديمقراطي، اليساري إجمالاً، الليبرالي على النحو الأنقى للصفة، الناقد للنظام الأمني اللبناني، أسوة بالأنظمة الطائفية والإقطاعية والعائلية، الداعي إلى قطيعة صريحة مع الماضي المريض الفاسد المتهالك... فحسب؛ بل، أيضاً، ذلك اللبناني الذي بات يرى الصلة وشيجة جدلية، وملحّة كذلك، بين شعبين واستقلالين وديمقراطيتين: في لبنان، وفي سورية.

ولعلّ استذكار قصير اليوم، بالذات، لا ينحصر في أنه شهيد الانتفاضة السورية مثلما هو شهيد ما سُمّي "ثورة الأرز"، انتفاضة الاستقلال خلال أسابيع شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2005، في لبنان؛ بل يشمل أيضاً ربط سيرة الراحل بسيرة مدينة بيروت، على نحو يمنحه حقّ، وشرف، أن يكون شهيد هذه الحاضرة العبقرية، الجميلة مثل الشهيد الجميل، والتعددية على غرار تكوينه الثرّ والمركّب. أجدني، بذلك، أميل إلى الحديث عن شخصية ابن بيروت وأحد مؤرّخيها، في هذه الذكرى السابعة تحديداً، الآن إذْ تجري محاولات حثيثة لإلقاء المدينة في أتون مخططات انتشال النظام السوري من الهوّة الفاغرة التي ينحدر إليها، حتى إذا كانت تلك المساعي تفتح أمام لبنان بأسره بوّابات الجحيم، وربما لأنها لا تفتح إلا تلك البوّابات.     

معروف، بالطبع، أنّ للراحل العديد من المؤلفات اللامعة، أبرزها ربما "مسارات من باريس إلى القدس"، 1993، بالتعاون مع المؤرّخ والناشر السوري فاروق مردم بك؛ فضلاً عن مجموعة المقالات التي صدرت في كتابَيْه "ديمقراطية سورية واستقلال لبنان: البحث عن ربيع دمشق"، و"عسكر على مين: لبنان الجمهورية المفقودة". غير أنّ عمل قصير المفضّل عندي هو "تاريخ بيروت" l Histoire de Beyrouth، الذي صدر في باريس سنة 2003 عن دار النشر الفرنسية Fayard (ترجمته إلى العربية ماري طوق غوش، وصدر عن "دار النهار" سنة 2006)؛ لأنه، في نظري، قد يكون الأكثر تعبيراً عن مجمل مواهب قصير، الكاتب والمؤرخ والمثقف الملتزم، وذوّاقة الأدب أيضاً.

والكتاب، في الأصل الفرنسي، مجلد ضخم يقع في 732 صفحة، ويحتوي على عشرات الصور والوثائق النادرة، وفيه نتابع تاريخ مدينة بيروت بمختلف مراحله الزمنية، ومختلف جوانبه السياسية والإجتماعية والمعمارية والثقافية والتجارية، وحتى المطبخية. والعمل تأليف بديع فريد في أكثر من اعتبار، لكنّ سمته الأساسية هي المزج البارع والذكيّ بين المعرفة العميقة والمتعة العالية، وتشويق سرد الحكاية التاريخية خصوصاً. ومنذ كلمة الغلاف نقرأ ما يقوله نونوس البانوبوليسي، في القرن الخامس بعد الميلاد: "ربّ مدينة تُدعى بيرويه، موئل الحياة، مرفأ ألوان الحبّ (...) أصل الحياة، حاضنة المدائن، شرف الملوك، الرؤيا الأولى، شقيقة الدهر، مواكبة الزمن...". أو نقرأ إليزيه روكلو، سنة 1905: "قدر هذه المدينة أن تعيش وأن تعود إلى الحياة مهما كان: يمرّ الغزاة وتُبعث المدينة بعدهم".

قصير يبدأ تاريخ المدينة من العصور القديمة، فنعرف أنّ بيروت في عهد الفينيقيين كانت مجرّد محطة سفر صغيرة بين المراكز الثلاثة الهامة، صيدا وصور وبيبلوس، وظلّ موقعها هامشياً في التاريخ الإسلامي والعثماني، رغم خضوعها للاحتلال الصليبي طيلة 170 سنة. وللتمثيل على حجم المدينة، نتذكّر أنّ عدد سكانها كان، في نهاية القرن الثامن عشر، 4000 نسمة، بالقياس إلى سكان دمشق البالغين 100 ألف نسمة. مكانتها سوف تبدأ في البروز مطلع القرن التاسع عشر، حين قرّر إبراهيم باشا فتح الدولة أمام التأثير الأوروبي، فتحولت بيروت إلى رأس جسر لما يمكن تسميته "غربنة" الشرق. وبين الاستقلال سنة 1943، واندلاع الحرب الأهلية سنة 1975، شهدت بيروت عصرها الذهبي كمدينة نهضوية عصرية منفتحة ليبرالية، عاصمة النشر والصحافة والحرّيات، وملجأ الساسة والمثقفين والمناضلين العرب الذين ضاق بهم الاستبداد العربي على اختلاف أنظمته وأنماطه.

وعن بيروت هذه يقول قصير، في عبارة آسرة: "هنالك مدن يغلب فيها الثابت على المتحوّل، امّا بيروت فهي المدينة التي ينحصر ثابتها في تحوّلها الدائم". وبالفعل، قد لا نبتعد كثيراً عن أحد أفضل الأمثلة على تحوّل المكان في نفوس قاطنيه: المؤلف نفسه، المفكر والكاتب والمثقف والمناضل والحالم؛ الشهيد، أيضاً.