وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 29 يونيو 2012

الانتفاضة والتاجر: اجتماع النظام أم انفراط العقد؟

سواء اختلف المرء (كما أفعل شخصياً)، أو اتفق مع الصواب السياسي والأخلاقي وراء استهداف قناة "الإخبارية" ـ التي تظلّ هدفاً مدنياً، أياً كانت الأدوار الأمنية أو الإعلامية القذرة التي لعبها وسيلعبها بعض العاملين فيها ـ فإنّ الواقعة كشفت اقتراب الأخطار من دوائر النظام المباشرة، ومن رموزه "السيادية" إذا جاز القول. وهي أسقطت أسطورة "تمنّع العاصمة"، وخرافة امتناع سواد الدمشقيين عن المشاركة في الانتفاضة (وتلك كانت، وتظلّ، واحدة من مرتكزات دعاوة النظام، ومصدر تبجّح مناصريه من "منظّري" علومه الاجتماعية)؛ كما أباحت الحديث عن "القتال على مشارف دمشق"، فصار التعبير غير محرّم، جاري الاستخدام، وساري المفعول.

ولقد توفّر، إلى هذا، تطوّر طارىء أسبغ ديناميكة خاصة على دخول دمشق في مناطق الأخطار المباشرة المحيقة بالنظام، وتمثّل في اضطرار بشار الأسد إلى الإقرار بأنّ نظامه يعيش "حالة حرب بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى"؛ على نقيض ما كان معتمَداً في خطابه، حول "الأزمة" التي انتهت، أو تنتهي، أو ستنتهي! وبين "فضائل" هذا الإقرار أنّ الأسد، وبعد أن وضع المسألة الأمنية على رأس أولويات الحكم في خطابه الأخير، ينقل الحرب إلى المرتبة الأعلى، ويستطرد: "بالتالي كلّ سياساتنا وتوجهاتنا تكون للانتصار بهذه الحرب". كان يعرف أن دمشق تغلي، وصارت أخطر بكثير من محض نار تحت الرماد؛ وأنّ القتال الذي يدور في ريف دمشق، بل في بعض أحيائها الداخلية، ينقل النار إلى كتائب الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة ذاتها. وكان التلويح بكلّ ما تعنيه مفردة "الحرب" من معانٍ، هو تحصيل حاصل لواقع صار حقيقياً على الأرض، واستنفد الأسد نفسه كلّ أفانين اللغة الديماغوجية في التستر عليه.

ولهذا فإنّ توجيهاته لحكومة رياض حجاب الجديدة بدت أشبه بإعلان النفير العام، وكأنّ النظام حتى الساعة كان يفاوض المجتمع بالحسنى، وليس بأبشع صنوف الترهيب الوحشي والاعتقال والقتل وحصار المدن وارتكاب المجازر، باستخدام الأسلحة كافة، دون استثناء. أو كأنّ دير الزور، بلد رئيس الوزراء العتيد، لم تكن ـ في الساعة ذاتها، على وجه الدقة ـ تُقصف بأقصى الوحشية، ويتهاوى بالعشرات شهداؤها المدنيون العزّل (أكثر من 60 شهيداً خلال أقلّ من 24 ساعة). ولكي تكتمل مهزلة إعلان نفير عام، سبق إعلانه منذ إطلاق النار بوحشية على المتظاهرين في درعا، يوم 18 آذار (مارس) 2011؛ سارع علي حيدر، وزير ما سُمّي بـ"المصالحة الوطنية" إلى إعلان تشديد الأسد على أنّ "قرار الحكومة السورية الجديدة هو المصالحة الوطنية بمجملها"، وأنّ "كل الجهود يجب أن تصبّ في إنجاح مشروع المصالحة"... حين كانت قدسيا ودوما والهامة، وحمص وإدلب ودير الزور، تحت وابل قذائف المدفعية والدبابات والراجمات!   

غير أنّ دخول دمشق إلى قلب معادلات الأخطار على النظام، من حيث أنّ هذه المعادلات هي التي سوف تستجلي خطوط انهياره في نهاية المطاف، لا تبدأ من العمليات العسكرية العابرة، على غرار استهداف مبنى "الإخبارية" مثلاً؛ إذْ تظل هذه محدودة وأقرب إلى المغامرة العابرة، التي تجرج النظام قليلاً، ولا تصيب منه مقتلاً بالطبع. وهي، كذلك، لا تقتصر على مظاهر العصيان المدني المتطورة، على شاكلة سلسلة الإضرابات الشجاعة في أسواق دمشق، احتجاجاً على مجزرة الحولة، ثمّ القبير؛ رغم أنّ هذا التطوّر سجّل نقلة دمشقية نوعية، لعلّها الأعمق دلالة بعد المظاهرة المبكرة الأولى التي شهدها سوق الحريقة، في 17 شباط (فبراير) 2011، واجترحت الشعار الرائد "الشعب السوري ما بينذلّ".

ثمة، بالإضافة إلى هذه الاعتبارات، وسواها، علم اجتماع آخر، لعلّه اقتصاد سياسي ـ اجتماعي على وجه التحديد، يناقض "علوم" الاجتماع التي لاذ بها الكثيرون من "منظّري" النظام، وقال بها زاعمو الباع الطويل في تفسير ظواهر السياسة والتاريخ (المصري محمد حسنين هيكل أحد هؤلاء)، واتكأت غالباً على مقولة واحدة، يتيمة بقدر ما هي كسيحة، وزائفة بقدر ما هي ركيكة: أنّ الانتفاضة السورية ريفية وليست مدينية، والدليل هو أنّ دمشق وحلب بمنأى عن التظاهر. وإلى جانب حقائق بسيطة، ولكنها تفقأ البصر والبصائر، مثل أنّ حمص وحماة ودير الزور واللاذقية ودرعا والقامشلي وإدلب ليست قرى أو بلدات؛ فإنّ التحاق حلب بالانتفاضة، وبعدها دمشق، توجّب أن يرسل تلك المقولة إلى سلّة مهملات التاريخ.

ذلك الاقتصاد السياسي ـ الاجتماعي، في معطياته الأبسط، لا يتيح قراءة جدلية لتحولات الأسواق الدمشقية الأخيرة، أياً كانت نطاقاتها، فحسب؛ بل يفضي بالمرء إلى الذهاب خطوة أبعد في تلمّس تطورات عضوية، وربما بنيوية، تصيب علاقة النظام بالشرائح العليا من التجار، حتى إذا كانت الشرائح الأعلى ما تزال حليفة للسلطة، أو مترددة، واقعة في حيرة من أمرها. ذلك لأنّ برامج "التغيير" التي اقترنت بصعود وتوريث بشار الأسد، خصوصاً تلك التي اندرجت تحت مسميات "الليبرالية الاقتصادية" و"تحديث المؤسسات" و"محاربة الفساد"، و"إحكام الرقابة"، و"تقديم الكوادر الشابة"... اقتضت، بالضرورة، انقسام بنية النظام إلى فريقين: رابح، وخاسر.

الجدلي في هذه المعادلة الأولى هو أنّ المرشّحين للخسارة لم يكونوا على هوامش السلطة، بل في قلبها أو ربما في قمّة هرمها؛ وأنّ وتائر "التغيير" لم تتكفل أصلاً بإقصاء هؤلاء إلى الهوامش، رغم أنها أنزلت بهم الخسائر. تلك حال رجل أعمال مثل فراس طلاس، على سبيل المثال، كان أحد القطط السمان حتى جاءه ذئب مثل رامي مخلوف، فردّه إلى صفّ ثانٍ، أو ثالث (ممّا يتيح للمرء أن يفسّر بعض نقائض الأوّل هذه الأيام: قدم مع النظام، قلباً وقالباً أغلب الظنّ؛ وقدم مع بعض أطراف المعارضة، تمويلاً لمؤتمر هنا أو إنفاقاً على معارض هناك...). الوجه الآخر لهذه المعادلة الجدلية هو أنّ الذين كانوا مرشّحين للربح صعدوا من منتصف الهرم أو من قواعده السفلى، وبعضهم كان في الهوامش أو في الصفوف الخلفية؛ وأنّ الوتائر لم تكن، هنا أيضاً، كافية لترقيتهم سريعاً إلى الصفوف الأولى (أمثال أيمن جابر، محمد حمشو، فارس الشهابي، عماد غريواتي، نادر قلعي، سليمان معروف، نزار الأسعد...).

المعادلة الثانية تصنعها حقيقة أنّ توريث الأسد الابن اقتضى إقامة تعاقد أكثر متانة بين عناصر التحالف العسكري والأمني والتجاري ـ الاستثماري الذي يحكم سورية؛ ولكنه اقتضى أيضاً المسّ، برفق تارة أو بخشونة طوراً، بشروط تعاقد أقدم بين العسكر ومختلف شرائح البرجوازية السورية خلال عقد السبعينيات وأواسط الثمانينيات (آل الشلاح، صائب نحاس، عبد الرحمن العطار...). فهذه البرجوازية، التجارية والصناعية أساساً، طالبت بالمزيد من الليبرالية والانفتاح واستحداث القوانين التي تكفل صون رأس المال وتحصين المؤسسة الاستثمارية وإصلاح الأنظمة المصرفية. واستحداث مثل تلك القوانين سار على نقيض تامّ مع مصالح عشرات الضباط الذين "تبرجزوا" وكدّسوا ثروات هائلة، لأنّ بنية تقاسم القوّة داخل النظام أتاحت لهم تحويل البرجوازية السورية إلى بقرة حلوب، راضية تارة أو مضطرة طوراً.

التحالف بين الفريقين سار على وئام حتى ساعة الانتفاضة، حين بدأت الأعمال تتعطّل، وظهرت آثار العقوبات الأوروبية والأمريكية المباشرة، فتوجّب على العسكر أن يختزنوا ما لديهم من سيولة وعملات، تتناقص حتماً لانها لم تعد تزداد؛ وتوجّب على كبار التجار والمستثمرين أن يدفعوا رواتب الشبيحة ونفقات القمع اليومي للانتفاضة، من رساميلهم السائلة التي أخذت تشحّ يوماً بعد يوم. اهتزاز التحالف هو بوّابة المعادلة الثالثة، لأنّ الانقسام إلى صفّيَن، رابح وخاسر، أفضى في المقام الأوّل إلى وقوع شرخ بنيوي عميق في تجانس الائتلاف الأكبر الذي ظلّ ركيزة معادلات السلطة منذ أواسط السبعينيات: التحالف العسكري ـ التجاري. ولا يفهمنّ أحد أنّ الشطر الثاني من هذا التحالف يعني فئة التجّار الكلاسيكية وحدها، بل شمل أيضاً عشرات من كبار المسؤولين السوريين الذين مارسوا ويمارسون مختلف أنواع الأعمال، مباشرة في حالات محدودة، أو عن طريق أبنائهم في معظم الحالات (الأمثلة كثيرة بالطبع، ومعروفة).

وتجدر الإشارة هنا إلى أمرَين جوهريين: أنّ هذا الائتلاف كان نخبوياً على الدوام، ومقتصراً على فئات محدودة للغاية سواء في داخل السلطة أو خارجها؛ وأنه بدأ، وما يزال، عابراً للتصنيفات السوسيولوجية التقليدية (الطبقية أو المهنية أو الطائفية)، ومتمحوراً في الأساس على ما يسمّى "مصالح الجماعة"، أكثر من مصالح الطبقة أو المهنة أو الطائفة. فإذا تعارضت المصالح بين الشطر العسكري والشطر التجاري من الائتلاف النخبوي هذا (كما يحدث بقوّة في الأطوار الراهنة من عمر الإنتفاضة)، فإنّ خطوط التحالف القديمة تصبح عاجزة عن الصمود طويلاً، والعاقبة المنطقية هي انكشاف التناقضات داخل تلك الخطوط، وانقلابها إلى تفكك وانهيار، قبيل التناحر والتصارع.

وقد يُطرح سؤال، مدرسي ولكنه مشروع في إطاره المنهجي: هل كان صعباً، أم في المقابل سهلاً، إيجاد صياغات متحركة ومرنة وعابرة للمعادلات الثلاث، أو توفيقية بينها، على نحو يُلبس النظام لبوس "الإصلاح"، ويقطع الطريق على الانتفاضة، أو على الأقلّ يعرقل زخمها وتعاظمها وانتقالها إلى الشعار النهائي: الشعب يريد إسقاط النظام؟ إجابة، بسيطة بدورها، تقول إنّ الأمر لم يكن صعباً، ولم يكن سهلاً، بل كان ممتنعاً أصلاً! أي مساس بهذه البنية المتحجرة كان سيُحدث فيها سلسلة شقوق وكسور، وبالتالي لن تتبدّل هيئتها، بل ستتفتت وتتفجر، وينفرط عقدها بعد تفكك اجتماعها. قبل الانتفاضة لم يكترث النظام بأي إصلاح، إذْ اعتبر رجالاته أنّ البلد تحت السيطرة، وسورية ليست سوى "مملكة الصمت"، حسب تعبير المعارض السوري المخضرم رياض الترك؛ لن يثور فيها أحد، ولا أحد سوف يتجاسر على شقّ عصا الطاعة. أما الإجراءات "الإصلاحية" التي اتخذها النظام بعد انطلاق الانتفاضة، من قبيل ذرّ الرماد في العيون عملياً، فقد اتضح سريعاً أنها لم تكن حبراً على ورق، فحسب؛ بل أن تطبيقها كان أمراً مستحيلاً ما دامت ستكفّ أيدي الأجهزة الأمنية، أو تلغي صلاحياتها المطلقة في منع السفر والاعتقال التعسفي والتعذيب والتصفية الجسدية. 

سؤال آخر، على الوتيرة ذاتها: إذا التحقت بالانتفاضة فئات أعلى من التجار ورجال الأعمال، أو انفكت تدريجياً عن النظام، أو انتقلت إلى صفّ الأغلبية الصامتة في أضعف الإيمان؛ فهل سيعجّل هذا في انفراط عقد النظام، من الداخل؟ بعد خمسة عشر شهراً من صراع الإرادات بين الشعب وما راكمه ويراكمه من ثقافة مقاومة، والنظام بأسلحته الفتاكة كافة، صار واضحاً مَنْ الخاسر ومَنْ الرابح. وفي "حرب بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى"، ثمة حدود للزمن، وثمة اصطفافات حثيثة لا تقبل التأجيل. فإما أن تكون هنا، مع الشعب؛ أو هناك، مع النظام؛ ولا توسّط في هذا لأيّ سوري: الثائر، مثل التاجر!