وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 25 يونيو 2012

تراتيل الفرات

كانت الأخبار تتوالى عن عمليات القصف الوحشي الذي تتعرّض له أحياء مدينة دير الزور: الموظفين، والجبيلة، والعرضي، والقصور، والجورة، والحميدية، والعرفي (حيث تعرّض مسجد الحيّ، ومئذنته خاصة، لأضرار جسيمة جرّاء القصف). كذلك كانت أسماء الشهداء تتعاقب، حيث سقط أكثر من 60 شهيداً خلال 24 ساعة فقط، ممّا يرفع عدد أبناء المدينة الذين استُشهدوا، منذ انطلاقة الانتفاضة في أواسط آذار (مارس) 2011، إلى قرابة الـ 600، بين شيخ وامرأة وطفل ورجل. ولأنّ جيش النظام اضُطرّ إلى إعادة الانتشار خارج المدينة، وخارج بلدات رئيسية أخرى في المحافظة، مثل المياذين والعشارة والبوكمال والبصيرة؛ فإنّ القصف عن بُعد، باستخدام المدفعية وراجمات صواريخ وأسلحة ثقيلة أخرى، صار خيار النظام الأسهل، وربما الوحيد.

مناطق عديدة في سورية شهدت تطبيقاً عملياً لسلسلة الأسباب التي تجعل حقد النظام على منطقة ما، وعلى أهلها استطراداً، يتجلى على نحو أشدّ سعاراً وعصبية وهمجية أيضاً، في تحصيل الحاصل؛ لاعتبارات شتى، سياسية في المقام الأوّل، ولكنها يمكن أن تتخذ صفة انتقامية محضة (حماة، وحمص، وجسر الشغور، واللاذقية، والحفّة، وتلبيسة، والحولة، والصنمين، وإنخل...). ولكنّ الحقد هنا يتجاوز الأسباب والاعتبارات، القديمة مثل الجديدة، والفعلية مثل المتخيَّلة، لكي ينقلب إلى حال مرضية يمتزج في طياتها الخوف من المكان في ذاته، والرغبة في تدمير رموزه، ثمّ ـ للمفارقة العجيبة ـ اعتبار أنقاضه بمثابة علامة مضادّة تبعث في القاتل حسّ الانتصار على القتيل، والأمل بالنجاة من العقاب!

والمرء يتذكّر أنه، منذ الشهر الرابع في عمر الانتفاضة، كان "الديريون" ـ كما يحبّون، ونحبّ في سورية، تسميتهم ـ قد أدخلوا جديداً على أنساق التظاهر، أسهم في تطوير مهارات الالتفاف على أساليب العنف الوحشية التي اعتمدتها أجهزة النظام الأمنية لقهر الحراك الشعبي، من جهة أولى؛ ونفع، كما برهنت الأسابيع اللاحقة، في اجتذاب المزيد من شرائح المواطنين الذين تردّدوا في المشاركة، من جهة ثانية. ذلك الجديد كان تنظيم تظاهرة مائية على صفحة نهر الفرات، سباحة أو بقوارب صغيرة، تردّد الهتافات ذاتها تقريباً؛ كما ترفع لافتات مماثلة لتلك التي ترفعها التظاهرات على اليابسة، إذا جاز القول، مع تنويعات طريفة ومؤثّرة، مثل هذه الأشهر مثلاً: "نهر الفرات يصبّ في نهر العاصي"!

كأنّ خروج الديريين إلى الشوارع الرئيسية والساحات العامة، بأعداد تجاوزت 250 ألف متظاهر في "جمعة أسرى الحرّية"، لم يشفِ غليلهم إلى إسماع صوت الاحتجاج العميق، فطافوا فوق مياه الفرات، وطوّفوا على صفحته الرايات. وكيف كان سيفوتهم أن يلتمسوا عبقرية هذا النهر العظيم الخالد، في هذه البرهة الفريدة من تاريخ المدينة والوطن، وهم حَمَلة اللقب الشهير "أخوة بطّة"، نسبة إلى براعة في السباحة يتلقونها منذ نعومة اظفارهم، تماماً كما تفعل أفراخ البطّ! وحين سيصبح لقب "البطة" مرذولاً في معجم الانتفاضة الوليد، بعد افتضاح الرسائل الإلكترونية الشخصية لرأس النظام، وجد شباب دير الزور غصّة، وعناء خاصاً، في فرض التمييز بين بطّة القاتل وبطّة الثائر!

وهكذا صارت ساحة "دوّار المدلجي" في مدينة دير الزور تتمة رمزية، وامتداداً جغرافياً طبيعياً، لساحة العاصي في مدينة حماة، فولدت توأمة تلقائية بين مدينتين تشاركتا في بلوغ ذلك الرقم الذهبي الذي انتظرته سورية منذ انطلاقة الإنتفاضة، وارتعدت له فرائص أجهزة النظام: مليون متظاهر، في نهار واحد. وكما ذاقت حماة أفانين وحشية النظام في مطلع الثمانينيات، وظلت تشهد المزيد يوماً بعد يوم خلال أسابيع الإنتفاضة؛ كذلك شهدت دير الزور بعض تلك الأفانين في الحقبة إياها، وصارت تشهدها بعدئذ، أسوة بجميع المحافظات السورية.

أخذ الشهداء يتساقطون، يوماً بعد يوم، وفي عدادهم خرّ الوليد والرضيع والطفل؛ وحُرمت المجمعات السكانية من الكهرباء والماء والهاتف والإنترنت، وأُغلقت المدارس والكليات الجامعية، وعُطّلت الامتحانات؛ ومُنع المواطنون من عبور الجسور، وما أكثرها على النهر الخالد، لإعاقة التحاقهم بالتظاهرات؛ وأُحرقت سجلاّت في دوائر الأحوال المدنية، للإيحاء بأنّ وجود المواطن ذاته يمكن أن يُطمس نهائياً؛ كما ذهبت الأجهزة شوطاً أبعد في التخريب بهدف التحريض الطائفي، فلجأت إلى إحراق كنيسة عتيقة في البوكمال، ونسبت الفعل إلى المتظاهرين!

وفي هذه الأيام، حيث تصلني أخبار دير الزور (أنا الديري عن أمّ وأب، حتى إذا كانت مدينة القامشلي هي مسقط رأسي)، أقلّب المشاعر بين قلق شديد على أبناء المحافظة، وفخار أشدّ إزاء ما اجترحه ويجترحه الديريون في قلب الانتفاضة. أتأمل، باعتزاز بالغ أيضاً، مقدار المشقة التي يبذلها أهلنا هناك في الصبر على الجرح المفتوح، والمصابرة على إهانة وجهها إليهم النظام مؤخراً، وتمثلت في تسمية رياض حجاب، الديري، رئيساً للوزارة. أقلّب المشاعر حول دير الزور، إذاً، ليس دون نسيان تلك الأهزوجة الجميلة التي ردّدتها طفلة لم تتجاوز العاشرة كما أرجّح، خلال اعتصام حاشد في دوّار المدلجي ذاته: "مجروح يا يمّة/ مجروح يا يابا/ ودّوا لحماة من الدير/ موّال عتابا".

لكنّ مواويل الانتفاضة السورية لا تتنقّل بين نهر وبحر، ومدينة وبلدة، وجبل وسهل، وواحة وبيداء، فحسب؛ بل ترتّل الماضي في الحاضر، لكي تستشرف المستقبل، وتصنع التاريخ.