وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 18 سبتمبر 2017

عتمة فان غوغ المبهرة


هو معرض غير مألوف، هذا الذي تحتضنه القاعة الكبرى في مركز فنون "لافيليت" الباريسي؛ تحت عنوان "تَخَيُّل فان غوغ"، نسبة إلى الفنان الهولندي الشهير (1853 ـ 1890)، بتصميم من أنابيل موجيه وجوليان بارون. هنا يتاح للزائر أن يتأمل، أو بالأحرى يحملق في، ويتبصر ويتملى، معظم أعمال الفنان الكبير؛ ولكن ليس عبر لوحات معلقة على الجدران، كما يسير العرف في المعارض والمتاحف، بل بوسيلة رشق تلك الأعمال على شاشات عملاقة. وفي فضاء مكاني يقارب 400 متر مربع، وسط عتمة تامة، بمصاحبة مقطوعات موسيقية من بروكوفييف وباخ وسان ـ ساين وساتي وشوبيرت وموتزارت وديليب؛ يتوالى عرض أكثر من 900 عمل، على نحو يغطي أسلوبية فان غوغ في كامل تبدلاتها وتقلباتها؛ على مساحات ضوئية، مختلفة الأحجام (بين 50 إلى 100 متر مربع)، ومتعددة الزوايا من
حيث التوزّع داخل الصالة، تبلغ في مجموعها قرابة 4000 متر مربع!

وأياً كانت الزاوية التي يختارها الزائر لمتابعة المعرض، أو إذا شاء التنقل من موقع على آخر داخل الصالة، أو استقرّ على الصعود إلى إحدى دكتين توفّران رؤية علوية؛ فإنّ هندسة رشق اللوحات بين مختلف الشاشات، وإيقاعات تبادل الأعمال بين شاشة وأخرى، وحجم وآخر؛ سوف تتكفل بتوفير نطاق مشاهدة أقصى، وتنويع حيوي شيّق، ليس على امتداد دقائق العرض الثلاثين، فحسب؛ بل حتى إذا مكث الزائر فترات مضاعفة.

صحيح أنّ الأعمال تُرشق وفق ترتيب موضوعاتي يراعي أطوار تنفيذها، أو مواقعها الجغرافية (آرل، سان ريمي، أوفيرـ سورـ واز...)، بما يمكّن الزائر من إدراك خصائص كلّ مرحلة؛ إلا أنّ خيوط التكامل، الظاهرة المباشرة أو الضمنية غير المباشرة، تفضي إلى خلاصة وافية وكافية حول تجربة الفنان الكبير.

المعرض، أو العرض بالأحرى، يتناول سلسلة الموضوعات الكبرى التي شغلت الفنان، في الطبيعة والعالم البشري والنفس، وعبر أكوان طافحة بضياء الشمس ودفء الحقول وحرارة الألوان، أو بالليالي الدامسة التي تستضيء بنجوم متلألئة وسماءات مترعة بالألوان الضاجة. ورغم ذلك، ولعله أمر طبيعي لا مهرب منه، لم يكن في وسع عشاق فان غوغ إلا أن يلحظوا غياباً لهذا الموضوع أو ذاك، أو معالجة أقلّ احتفاء بطور أسلوبي دون آخر. ومن جانبي، شخصياً، افتقدت موضوعة المرأة؛ ليس بمعنى حضورها في الأعمال، فقد حضرت بالضرورة وربما في غالبية الأعمال التي تتناول المجاميع البشرية؛ بل بمعنى علاقة فان غوغ العاطفية، أو اختلال تلك العلاقة على نحو أدقّ، بالمرأة الحبيبة بصفة خاصة، وبمفهوم الحبّ والمحبة عموماً.

"لقد آمنتُ على الدوام بأنّ أفضل الطرق لمعرفة الله، هي أن يحبّ المرء ما في وسعه: الصديق، الزوجة، أي شيء تحبه وتسعى إلى تعميق معرفتك به. غير أنّ على المرء أن يعشق متسلحاً بعاطفة مفعمة بالوفاء والقوّة، وأن يحاول معرفة ما هو أكثر عمقاً وثراء في الآخر. ذلك هو الدرب إلى الله، وهو الدرب إلى الإيمان الخالص"؛ هكذا كتب فان غوغ إلى شقيقه ثيو، في تموز (يوليو) 1880. بعد عام سوف يكتب، أيضاً: "لستُ سوى رجل، ورجل تتأجج في داخله المشاعر. إنني بحاجة دائمة إلى المرأة، ولا أستطيع العيش من دونها وإلا انقلبتُ إلى حجر أو جماد. لن يكون في وسعي العيش بغير عشق"!

فهل كانت الحياة شفوقة عليه في هذا، أو هادنته على الأقلّ؟ في لندن، ;وكان في مطالع العشرينات من عمره، بدأت حلقات إساءة الفهم لمعنى أية علاقة مع الأنثى، وذلك حين صارحته أوجيني لوير، ابنة مالكة المنزل الذي كان يقيم فيه، أنها لا تبادله مشاعره العاطفية، وأنها تحبّ الساكن السابق. في مسقط رأسه، غروت ـ زوندرت، وقع في غرام ابنة خالته كي فوس، الأرملة التي توفي زوجها تاركاً لها ابناً في الرابعة، لكنّ رسائله إليها ظلت مغلقة، بل رفضت أن تستقبله حين توسل أن يراها "خلال الزمن الذي أستطيع فيه إبقاء يدي في اللهب"، كما أنبأها. وفي لاهاي عطف على بغيّ، واسكنها معه. وفي آرل، يبلغ شجاره مع غوغان ذروة كبرى، فيجدع الجزء السفلي من أذنه، ولا يجد مَنْ تستحق الاحتفاظ بقطعة اللحم الدامية سوى البغيّ راشيل!

وكانت البغي كلاسينا ماريا هورنيك قد أثارت إعجاب فان غوغل انها "نموذج العاملة الشقية"، بدلالة يديها الخشنتين وشظف العيش وعناء تحصيل الرزق. وفي إحدى رسائله إلى ثيو، وصفها بجملة بليغة، تشكل مفتاح رؤيته لعمق علاقة الرجل بالمرأة: "أية امرأة في أي عمر، شريطة أن تحبّ وأن تعمر الطيبة قلبها، تستطيع أن تهب الرجل ليس أزلية اللحظة فقط، بل لحظة الأزلية ذاتها". وإذْ يتذكر المرء أنّ الفنان الكبير أطلق هذه الجملة في وصف بغيّ، فإنه يدرك كم كان موقفه من المرأة، بما عليه من قهر اجتماعي واقتصادي ونفسي وجسدي، متقدماً على أقرانه، وتقدمياً وإنسانياً بمنظورات عصره، وعصرنا أيضاً.

وليست فتنة تلك العتمة المبهرة، في معرض "لافيليت"، سوى بعض قبس من لحظة الأزلية التي خلّفها الفنان الكبير للأبدية. 

الأحد، 17 سبتمبر 2017

دير الزور: سوريالية الدم


في ريف دير الزور، تتكاثر المشاهد السوريالية، ولكن الدامية والمبتذلة في آن معاً، والتي تعكس الكثير من عناصر واقع الحال في سوريا المعاصرة كما باتت اليوم؛ بعد أن دشّن نظام بشار الأسد سيرورات التدمير العشوائي، والإبادة المنظمة، والتطهير الديمغرافي المناطقي، وارتكاب جرائم الحرب بأسلحة لا تستثني الغازات والكيمياء؛ قبيل تسليم مقدّرات سوريا إلى إيران وروسيا، وغزاة وميليشيات مذهبية وجهادية من كلّ حدب وصوب.
وهذا ريف صار شهيداً، بصفة يومية مفتوحة، منذ أواخر العام 2013، حين تمكن "الجيش السوري الحرّ" من دحر قوّات النظام في نصف أراضي المحافظة تقريباً؛ ثمّ وقع اقتتال داخلي في صفوف "المحررين" أنفسهم، أتاح لميليشيات "داعش" أن تسيطر على الأرض، وتصبح الخصم الوحيد في وجه النظام، فينقلب أبناء المحافظة المدنيون إلى ضحايا لا حول لهم ولا طول، بين فكّي كماشة دامية، على طرفَيْ المواجهة. وبدل أن تكون آبار النفط في المحافظة نعمة على أبنائها (وهذا لم يحدث قطّ، أصلاً، لأنّ سياسات النهب والفساد كانت، وظلت، سمة النظام)؛ فإنها انقلبت إلى نقمة، حين شكّلت واحداً من أهمّ منابع تغذية "داعش" مالياً؛ وها أنها، اليوم، تضاعف النقمة إلى البلوى، جرّاء تكالب القوى الخارجية على المنطقة، طمعاً في ثرواتها.
تعلن قوات النظام والميليشيات الحليفة أنها تقدمت نحو فكّ الحصار عن مطار دير الزور، المحاصر منذ ثلاث سنوات، وانسحاب "داعش"، التي كانت هي الطرف المحاصِر، فيُعزى "الانتصار" إلى ما تبقى من وحدات موالية، مثل "الحرس الجمهوري" و"قوّات النمر". كأنّ هذا التطوّر لم يكتمل إلا تحت قصف شديد، معظمه همجي ومسعور يستهدف المدنيين أولاً، تولت موسكو تنفيذه من الجوّ، ولكن من بارجاتها في مياه المتوسط أيضاً. أو كأنّه ليس تذكيراً جديداً بمبدأ سيرغي لافروف الشهير: لولا تدخل موسكو، لسقطت دمشق!
وأمّا البُعد السوريالي في المشهد، فهو لم يغب عن كلّ ذي بصر وبصيرة: النظام، ومعه روسيا وإيران و"حزب الله"، يعلنون أنهم في حالة حرب لا تُبقي ولا تذر ضدّ "داعش"؛ ولكنّ هذا التحالف ذاته هو الذي فاوض "داعش" على الخروج من عرسال اللبنانية، وضمن نقل مقاتلي التنظيم عبر مناطق سيطرة النظام، وفي قلب الصحراء المكشوفة أمام الطيران الحربي الروسي، إلى... دير الزور، ذاتها، التي فيها يقاتل التحالف "داعش"!
المشهد السوريالي الثاني تكفّل بصناعته أحمد حامد الخبيل (أبو خولة)، قائد ما يُسمى "مجلس دير الزور العسكري"، التابع لـ"قوات سوريا الديمقراطية"؛ حين أعلن أنّ مقاتليه لن يسمحوا لقوات النظام بعبور نهر الفرات. السوريالي هنا أنّ ميليشيات الخبيل سبق لها أن تعاونت مع جيش النظام، عبر اللواء 113، في معارك دير الزور أواخر العام 2013؛ كما قلبت المعاطف على الفور، فتعاونت مع "داعش" ذاتها، فأسند لها التنظيم إدارة حاجز في ظاهر المدينة، أتاح لها تنظيم عمليات التهريب والنهب!
تفصيل سوريالي آخر، ضمن هذا المشهد الثاني، تمثّل في أنّ "قسد" ذاتها، التي تتفاخر اليوم بأنها ستمنع النظام من عبور الفرات، تعاونت مع النظام في عشرات المواقع في شمال وشرق سوريا؛ بل حدث مراراً أنّ هذا التعاون ألزمها بمواجهات مسلحة مع قوى كردية رافضة لهذه العلاقة مع النظام، ومناهضة لسياسات التحالف كما اعتمدها "حزب الاتحاد الديمقراطي" و"وحدات حماية الشعب". طريف، أيضاً، أنّ التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، راعية "قسد"، كان قد سمح لباصات حسن نصر الله بنقل مقاتلي "داعش"... أنفسهم، الذين تتبجح "عاصفة الجزيرة" بقتالهم! 
في غضون هذه المشاهد، وسواها، يواصل الطيران الحربي ارتكاب المجازر الوحشية ضدّ مدنيي المحافظة، ويخلّف عشرات القتلى والجرحى؛ إذْ كيف لسوريالية محتلّيْ سوريا أن تكتمل، دون أن تتلطخ بالدماء!

الجمعة، 15 سبتمبر 2017

رمال السعودية المتحركة: في انتظار "انتفاضة بريدة" ثانية؟




على "تويتر"، موقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشاراً في المملكة العربية السعودية، بات شائعاً هذا الوسم: "#اللي_مارباه_الزمان_يربيه_سلمان"؛ الذي يفيد بأنّ الملك سلمان كفيل بتربية أولئك الذين لم يتولّ الزمان تربيتهم. الوسم الآخر، الشقيق، يسير هكذا: "#الوطن_يغتسل_من_الخونة"، ليس للإشارة إلى إرهابيين، أو جهاديين متطرفين، أو إسلاميين متشددين؛ بل إلى كلّ من سوّلت له نفسه ضبط نفسه أو لسانه أو قلمه، وعدم الانجرار إلى الحملات الإعلامية ضدّ قطر. فإذا استبشر كاتب سعودي خيراً بقرب انفراج الأزمة، ورحّب بجهود الوساطة الكويتية، فإنّ تهمة التخاذل في الدفاع عن الوطن سوف تُلصق به على الفور؛ إذا لم يكن نصيبه التخوين، وربما العمالة و"القبض" من الخارج!
وقد يكون بين هؤلاء الذين يحلّ عليهم واجب "التربية"، كاتب رصين مثل عبد الله المالكي؛ جرّاء تغريدة تقول: "أياً كان شكل النظام السياسي الذي تقترحه وتؤمن بجدوى إصلاحه؛ فليس هناك أخطر ولا أسوأ من أن تكون إرادة فرد من الناس، لها قوّة القانون النافذ". فإذا لم تكفِ هذه التغريدة لاعتقال المالكي، ففي وسع السلطات السعودية أن تتكئ على ذريعة أخرى، أكثر وضوحاً من حيث تلفيق تهمة الخروج عن الشرع والشريعة، وربما الهرطقة... ليس أقلّ! ذلك لأنّ الرجل نشر كتاباً هاماً، وشجاعاً في الواقع، بعنوان "سيادة الأمّة قبل تطبيق الشريعة: نحو فضاء أمثل لتجسيد مبادئ الإسلام"؛ يطرح أسئلة من العيار الثقيل التالي: إشكالية الإمكان والتخيير في تطبيق الشريعة أو تعطيلها، وإذا كان الحاكم مسلماً والشعب يرفض تطبيق الشريعة كمرجعية، وجهاد القتال وحرّية إرادة الشعوب...
وبالفعل، ها أنّ المالكي قيد الاعتقال اليوم، ضمن حملة شنتها السلطات السعودية مؤخراً، وطالت شخصيات عامة وناشطين اجتماعيين وأكاديميين وكتّاباً وإعلاميين، بينهم من النساء رقية المحارب ونورة السعد؛ ومن الدعاة الشيخ محمد موسى الشريف ويوسف الأحمد وعبد العزيز آل عبد اللطيف وحمود بن علي العمري؛ ثمّ مصطفى الحسن وخالد العودة وعصام الزامل وعبدالله بن عابد الحارثي ومحمد الخضيري وزياد بن نحيت وغرم البيشي وإبراهيم الفارس ومحمد الهبدان وعلي حمزة العمري وفهد السنيدي وإبراهيم الحارثي... الأشهر، غنيّ عن القول، هو الداعية الشيخ سلمان العودة، الشخصية الأبرز بين معتقلي حملات مطلع التسعينيات، والداعية الذي أثار اعتقاله حركة احتجاج شعبي واسعة، سنة 1995، استحقت صفة "انتفاضة البريدة"؛ إذْ لم تعترض على اعتقال العودة، وزميله الشيخ سفر الحوالي، فحسب؛ بل تظاهر الناس استنكاراً لـ"تسليم البلد" للقوات والقواعد العسكرية الأمريكية.
السلطات السعودية لا تعلن أيّ سبب واضح، مباشر أو على صلة بواقعة ما سياسية أو اجتماعية أو دينية محددة، في تفسير حملة الاعتقالات؛ رغم أنّ شائعات الشارع الشعبي تشير إلى ملفّ النزاع مع قطر، وتخلّف البعض من المعتقلين عن ركب تأثيم الدوحة والانخراط في الحملات المقذعة ضدها؛ إلى جانب الخلفية الأخرى التي باتت كلاسيكية، واستُهلكت واهترأت: أنّ المتخلفين من جماعة "الإخوان المسلمين"، وهم استطراداً في صفّ قطر بالضرورة. ولكن، لأنّ انتماءات المعتقلات والمعتقلين لا تشير إلى تيّار واحد متجانس فكرياً وسياسياً، ولا تنحصر في محتد إخوانيّ وحيد بالتأكيد، بل تتنوّع المشارب وتتعدد الأفكار؛ فإنّ وراء حملة الاعتقالات سلسلة أسباب ليست أقلّ كلاسيكية، وإنْ كانت أقلّ اهتراءً إزاء متغيرات الزمن، وأكثر قدرة على البقاء والتجدد.
في طليعة هذه السلسلة من الأسباب يأتي الصراع القديم/ الجديد بين مؤسسة الحكم، كما يحتكرها آل سعود، من كبار الأمراء وصغارهم؛ والشريك الثاني التاريخي في تقاسم الحكم، كما ابتدأته وتواصل احتكاره، إلى حدّ كبير، المؤسسة الوهابية. وبين هذه وتلك، ثمة معضلات التوريث داخل المؤسسة الأولى (وقد دخلت، اليوم، طور احتقان غير مسبوق مع تولية محمد بن سلمان نيابة الملك وقرب تتويجه ملكاً)؛ ومعضلات تطويع العصر بما يلائم سلطة "المطوّع"، وليس العكس بالطبع، أي تطويع الأخير لكي ينحني ـ في قليل فقط، وليس في كثير! ـ أمام متغيرات الحياة، وما يسمّيه المالكي "سيادة الأمّة قبل تطبيق الشريعة"، داخل المؤسسة الثانية. وإذا جاز التفكير بأنّ أطوار الوئام بين المؤسستين كانت هي القاعدة العليا، طيلة عقود تأسيس المملكة؛ فإنّ حقائق التاريخ، ثمّ وقائع ما بعد "الصناعة الجهادية" الأمريكية، واستيلاد ظاهرة "الأفغان العرب" و"عاصفة الصحراء"، تؤكد أنّ التأزّم بين المؤسستين وقع مراراً، وهو اليوم جوهر الاحتقانات الراهنة في المملكة.
سبب آخر جوهري يندرج في السلسلة الكلاسيكية إياها، هو حال التنافر الطبيعي بين قسر الإصلاح (خاصة حين يكون خياراً شبه إلزامي، على غرار ما رأى الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز)؛ وعسر الإصلاح (كما في التعثّر الدراماتيكي، والفاضح أحياناً، الذي يشهده مشروع محمد بن سلمان المسمى "رؤية السعودية 2030"). والمرء، هنا، يستعيد مطالع العام 2003، حين أصدر أكثر من 100 شخصية سعودية مذكرة حملت عنوان "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله"، تضمنت مجموعة كبيرة وهامة من المطالب الإصلاحية. وقد حاول الموقعون، وكانوا خليطاً من الوزراء السابقين وأساتذة الجامعات والكتّاب ورجال الأعمال والشخصيات الليبرالية والدينية من الطائفتين الشيعية والسنية، تقديم الوثيقة إلى ولي العهد مباشرة، وكان الأمير عبد الله؛ وحين وجدوا ممانعة من مساعديه، أرسلوا إليه المذكرة بالبريد المضمون! المفاجأة الثانية أنّ الأمير استقبل وفداً منهم، ضمّ 30 شخصية، وقال لهم بالحرف الواحد: "إنّ مطالبكم هي مطالبي"!
فهل كانت كذلك، حقاً؟ هيهات، بالطبع، لأنّ النصّ شدد على تدهور الخدمات العامة، وتصاعد البطالة، وتفاقم الدين العام (حوالي 250 مليار دولار حسب بعض التقديرات، يومذاك)، وانتهاك حرمة المال العام، والتدني الملحوظ في دخول المواطنين، وانتشار العنف، وانحسار دور المهتمين بالإصلاح والعمل الوطني. وفي الإصلاح السياسي طالبت المذكرة بتشكيل مجلس شورى ومجالس مناطق عن طريق الانتخاب المباشر، والتأكيد على مبدأ استقلالية القضاء وإزالة كلّ القوانين التي تحدّ من فعاليته وحصانته، وإصدار إعلان ملكي يضمن للمواطنين ممارسة حقوقهم في مجال حرية الرأي والتعبير والتجمع وسائر حقوق الإنسان. الأرجح أنّ هؤلاء المئة، لو أنهم رفعوا المذكرة اليوم إلى محمد بن سلمان، لوجدوا أنفسهم في الزنزانة ذاتها مع داعية مثل سلمان العودة، أو إصلاحي مثل عبد الله المالكي!
ويبقى سبب ثالث، هو بؤس الخطاب الذي تعتمده المؤسستان معاً، آل سعود والمرجعية الوهابية، في محاربة الفكر الديني المتشدد والمتطرف. ثمة، في جانب أوّل، تضخم لفظي طنان يتحدث عن "فئة ضالة"، "شوّهت رسالة الإسلام السمحة"، و"عاثت فساداً في مهد الدين الحنيف"؛ وثمة، في جانب ثان، محاولة الالتفاف على شروط اللعب كما حدّدها الجهاديون أنفسهم، إذْ يُستنفر الفقهاء ورجال الدين وأئمة المساجد، وتستضيفهم برامج التلفزة المختلفة، لكي يكفروا "الضالين" ويحثوا الناس على التعاون مع رجال الأمن. وبالطبع، النتيجة في الحالتين معكوسة، وتصبّ الماء في طواحين الجماعات المتشددة، التي تركز على فساد الأسرة المالكة، وخضوعها للأمريكيين الذين يدنسون الأراضي المقدّسة ويدعمون إسرائيل في جرائمها ضد الفلسطينيين. ولا يحتاج المرء إلى أن يكون أصولياً متشدداً، أو إرهابياً، لكي يدرك روحية التعاطف مع هذا الخطاب، ولكي يشكك في الخطاب الآخر الذي يردد أصداء السلطة.
والأصل، في المعضلة الراهنة كما في سابقاتها، أنّ رمال المملكة متحركة تحت أقدام المؤسستين؛ وهكذا يلوح أنها سوف تبقى، منذرة بأكثر من "انتفاضة بريدة" واحدة!


الاثنين، 11 سبتمبر 2017

مشنقة القاموس


ثمة واقعة، فريدة حقاً في يقيني، تلحّ عليّ كلما قاربتُ إشكالية الاضطرار إلى الكتابة بلغة أخرى تمارس الهيمنة لأسباب شتى، لعلّ أبرزها تجربة الاستعمار؛ الأمر الذي يسفر عن دفع اللغة الأمّ إلى باحة الشعور الخلفية، والاكتفاء باستخدامها شفاهياً وفي نطاقات ضيّقة، أو ربما قَهْرها تماماً وعن سابق قصد أو قسر. والواقعة تخصّ الكاتب والشاعر والصحافي الهاييتي البارز إدموند لافوريست (1876 ـ 1915)، الذي انتحر بطريقة لا مثيل لها، من حيث تحميل فعل الانتحار رموزاً عالية الدلالة: لقد ربط إلى عنقه نسخة ثقيلة من قاموس "لاروس" الفرنسي، وألقى بنفسه من أعلى جسر إلى مياه النهر الموحلة. بذلك أعلن لافوريست أنّ اللسان الأوروبي الذي استخدمه في الكتابة والتعبير كان بمثابة أثقال مقيِّدة في الحياة، وأثقال ضامنة للموت. وكان اختياره للقاموس، وليس أي كتاب فرنسي ثقيل آخر، دلالة على المحتوى الرسمي الذي تكتسبه اللغة في انقلابها إلى أداة كونية استعمارية قاهرة.
واقعة أخرى، تخصّ العلاقة بين الإبداع واللغة والعرق هذه المرّة، تعود إلى سنة 1772 في بوسطن الأمريكية؛ حين اجتمع 18 من كبار أشراف المدينة، لإصدار حكم غريب: هل الصبية فيليس ويتلي، "الزنجية" سليلة "الزنوج"، هي ذاتها التي كتبت مجموعة قصائد لافتة المستوى، بلغة إنكليزية سليمة، ومعجم غني؟ وبعد امتحان معقد، قيل إنه تضمّن تصريف بعض الأفعال باللغة اللاتينية، وسؤال الصبية إنْ كانت تحفظ أشعار جون ملتون وألكسندر بوب؛ أصدر المجمع المهيب قراراً مكتوباً يقول إنّ "هذه الزنجية، التي لم تكن قبل سنوات قليلة إلا بربرية غير مثقفة من أفريقيا، وهكذا تظلّ الآن أيضاً، وتخدم عبدة عند سادتها، مؤهلة بالفعل لكتابة تلك القصائد"! ومع ذلك، ورغم وثيقة الإقرار هذه، فإنّ ويتلي لم تنجح في العثور على ناشر أمريكي واحد يصدّق أنها شاعرة، أصلاً؛ فما بالك أن يقبل بطباعة مجموعة شعرية تحمل اسمها. ولقد توجب عبور المحيط، إلى بريطانيا، للعثور على ناشر يغامر بقبول المخطوط.
هاتان واقعتان تتصف كلّ منهما بغرابة خاصة، ضمن عشرات الوقائع المماثلة الأقلّ انطواءً على العجيب، في ملفّ واحد حافل: معضلات الكتابة بلغة أخرى غير اللغة الأمّ، أو هي بالأحرى لغة تخصّ "الآخر" أياً كانت هويته، أو الامتياز الذي يمنحه حقّ الهيمنة اللسانية. ويستوي، إلى حدّ كبير، أن تكون تلك المعضلات قد انبثقت من عجز الكاتب عن استخدام لغته الوطنية، لأنه لم يُمنح فرصة تعلّمها والنطق بها؛ أو نهضت على اختيار شخصي حرّ، يمارسه الكاتب لأسباب متعددة. والسجال المستدام حول هذه الإشكالية (كما في مثال الأدب المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية)، دليل على أنّ هاجس اللغة، في تحديد الهوية الإبداعية للعمل الفنّي؛ ليس أقلّ أهمية من دور الهاجس ذاته، في تحديد الهوية الوطنية لصاحب العمل الفني.
ولم نعدم، في هذا الصدد، رأياً متشدداً، حتى من باب حسن النيّة، يذهب إلى درجة التساؤل عمّا إذا كان يحقّ للأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية أو الإنكليزية، أن ينتمي إلى كتلة الأدب العربي في الأساس؛ سواء بمعنى تمثيله لخطوط تعبيرية محدّدة، أو نجاحه في تجسيد "خصوصيات"، وربما "جماليات" محددة، يجوز الافتراض بأنها وليدة الكتابة باللغة العربية. وإذْ أجدني في صفّ المدافعين عن، والمرحّبين بآداب، أولئك الذين يضطرون إلى، أو يختارون، الكتابة بلغة أوروبية (وليس بينهم، بالطبع، أولئك الذين يكتبون بدافع الاستعراض، أو إشباع عُقَد النقص، أو التزلّف للغة مهيمنة)؛ فإني، في الآن ذاته، لا أُغفل تسجيل المغزى الجوهري للنقاش بأسره، أي معايير "التناقل" اللغوي و"التبادل" اللساني بين الأمم والحضارات.
كذلك أجدني أضع المسألة في ذلك السياق الثقافي والتاريخي المكمّل، العريض والعريق، الذي يقول إنّ اللغة هي أداة الإمبراطورية. وفي العام 1492 (وهو، في التاريخ الأوروبي وتسعة أعشار التاريخ الإنساني بأسره، "عام العجائب" بامتياز، إذْ شهد سقوط غرناطة، و"اكتشاف" كريستوفر كولومبوس سلسلة الأصقاع التي ستُسمّى القارّة الأمريكية)؛ فرغ إيليو دي نبريجا، المؤرخ الرسمي للملكة الإسبانية إيزابيلا، من طباعة كتاب ضخم في قواعد اللغة القشتالية، كان فريداً في نوعه على نطاق اللغات الأوروبية. وحين عرضه على الملكة، سألته باستخفاف: "ما الفائدة من هذا الكتاب الضخم العويص"؟ فأجاب نبريجا: "اللغة، يا صاحبة الجلالة، كانت رفيقة الإمبراطورية على مرّ العصور".
في تلك الحقبة كان هرناندو دي تالافيرا أسقف أفيلا المقرّب من الملكة، وكان مهندس اتفاق التفاهم مع الخان الأعظم لمهاجمة الإسلام في تجارته ومركز دعواه في جزيرة العرب ومكة وحصار المسلمين من المؤخرة، وأبرز المؤمنين بمشروع كولومبس في "الوصول إلى جزر الهند مباشرة بقصد توظيف الثروات التي سيجلبها "الاكتشاف" في تجريد "حملة صليبية تتوجه إلى فلسطين وتحرر المذبح المقدس"، كما تقول كتب التاريخ. وكانت الملكة تنتظر رأي الأسقف في مشروع كتاب القواعد ذاك، فلم يتأخر في إطرائه والحثّ على تمويله: "اللغة ليست رفيقة الإمبراطورية فقط، يا صاحبة الجلالة، بل هي أداة لها أيضاً".
.. أو واحدة من مشانقها الكثيرة، حتى إذا اكتفت بهيئة قاموس سميك!


الجمعة، 8 سبتمبر 2017

لماذا تسكت رادرات موسكو عن عمليات إسرائيل في الأجواء السورية؟



في أواخر آب (أغسطس) الجاري، أدلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالتصريح التالي: "إذا كان أيّ طرف في الشرق الأوسط أو سواه يخطط لانتهاك القانون الدولي عن طريق نسف سيادة ووحدة أراضي أية دولة، بما في ذلك الشرق الأوسط وشمال افريقيا، فإنّ هذا مدعاة إدانة". كان لافروف يردّ على أسئلة المراسلين الصحفيين، حول تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّ إسرائيل سوف لن تتردد في قصف أية أهداف داخل سورية يُراد منها تمرير أسلحة ستراتيجية إلى "حزب الله".
وفي آذار (مارس) الماضي أعلن بشار الجعفري، ممثل النظام السوري في الأمم المتحدة، أنّ روسيا قد أبلغت إسرائيل بأنّ "قواعد اللعبة" في سوريا قد تغيرت، وأنّ حرّية النشاط الإسرائيلي في الأجواء السورية قد انتهت. وروى الجعفري حكاية مثيرة عن قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستدعاء السفير الإسرائيلي، وإبلاغه أنّ "اللعبة انتهت". وكان أيضاً تحت وطأة الحماس الملتهب الذي دبّ في أفئدة، وعلى ألسنة، وفي أقلام، أنصار النظام ومعلّقيه والمتعاطفين معه، بعد إطلاق نيران المضادات الأرضية لإبعاد طيران حربي إسرائيلي كان يحلّق في الأجواء السورية.
لم يكن هذا رأي الرادارات الروسية في مطار حميميم، ولا في قاعدة طرطوس الروسية، ولا على أيّ من البوارج الروسية في عباب المتوسط؛ حينما نفذت إسرائيل ضربة جوية فجر أمس، استهدفت معسكر الطلائع الذي يستضيف مصنعاً للأسلحة الكيميائية والصاروخية، تابعاً لـ"مركز البحوث"، في ظاهر مصياف، وعلى مبعدة كيلومترات قليلة من هذه المنشآت العسكرية الروسية. لزمت هذه الرادارات صمت القبور، في المجاز الشائع؛ وصمت المتيقظ البصير العارف، في المعنى الفعلي لقدرات هذه الرادارات على التنصت والرصد والتنبيه، كي لا يتحدث المرء عن الإنذار والتشويش والتعطيل.
هيهات، بالطبع، أن تتدخل روسيا لإيقاف عملية مثل هذه، ولا عزاء لأمثال لافروف (حول "انتهاك سيادة" الدول)، أو الجعفري (بصدد تغيير "قواعد اللعبة")؛ فضلاً عن المعلقين البؤساء الذين بُحّت حناجرهم في وصف "رعب" إسرائيل من انطلاق مضادات النظام. يومها، للتذكير المفيد، ذهب بعض المعلقين إلى مستوى رسم اصطفاف جديد لقوى "الممانعة"، يبدأ من الضاحية الجنوبية في لبنان، ويمرّ من نظام الأسد، ويلتقي مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي (وعفّ البعض، في حياء مبتذل مفضوح، عن تسمية "الحشد الشعبي" وعصائب غلاة الشيعة)، ثمّ ينتهي في طهران (وتفادى الحياء الرخيص إياه ذكر الجنرال قاسم سليماني و"الحرس الثوري" الإيراني)، ولا ضرر في أن يعرّج قليلاً على اليمن وعبد الملك الحوثي!
لكنّ الحمقى، وبائعي التصريحات الجوفاء، وشبيحة النظام، وأبواق "الممانعة"، هم وحدهم الذين تجاسروا على التفكير بأنّ الكرملين (متمثلاً في بوتين، حصرياً، وليس البتة في لافروف وأضرابه)؛ يمكن أن يذهب إلى مواجهة مع إسرائيل، أو حتى ملاسنة لفظية، دفاعاً عن مصنع سلاح تابع للنظام، أو تديره إيران ذاتها. في المقابل، لا يحتاج كلّ ذي بصر وبصيرة إلا إلى استذكار واقعة زيارة نتنياهو إلى موسكو، في أيلول (سبتمبر) 2015، كي يستعيد الحقيقة البسيطة الساطعة: أنّ "قواعد اللعبة"، أو بالأحرى قواعد فضّ الاشتباك، بين موسكو وتل أبيب، في كلّ ما يخصّ تدخّل روسيا لصالح النظام أو تدخّل إسرائيل ضدّ منشآت النظام العسكرية؛ رُسمت هناك، يومئذ، وهي التي تظلّ سارية المفعول حتى إشعار آخر، طويل... طويل!
وللتذكير المفيد، لم تكن زيارة نتنياهو مبرمجة مسبقاً، على غرار ما يجري عادة بين الدول، خاصة وأنها الأولى العلنية (بعد زيارة سرّية، في خريف 2009، دامت ساعات قليلة)، وكان لائقاً أن تسبقها سلسلة تحضيرات ومراسم واستقبال ومظاهر احتفاء، فضلاً عن توقيع اتفاقيات مشتركة مختلفة. لقد ذهب نتنياهو صحبة غادي أيزنكوت رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وهرتزل هاليفي رئيس الاستخبارات العسكرية، وبدا جلياً بالتالي أنّ جدول أعمال الزيارة يتناول تفصيلاً ملموساً واحداً؛ هو الانتشار الروسي في مطار حميميم، وتعزيز القاعدة الروسية في طرطوس، والتفاهمات الروسية ــ الإسرائيلية العملياتية في حال قيام الطيران الحربي الإسرائيلي بأية عمليات في الأجواء السورية، وضمان عدم وقوع سوء تفاهم من أيّ نوع بين بين قاذفات الـ"سوخوي 27" الروسية، والـ"F-15" الإسرائيلية. ولقد برهنت الأشهر اللاحقة، منذ أيلول 2015 وحتى أيلول 2017، أنّ سوء التفاهم لم يقع أبداً؛ ليس في الأجواء السورية وحدها، بل كذلك على أرض الجولان، وفي الأجواء اللبنانية (باحة إيران الخلفية وساحة "حزب الله).
جانب آخر، في قراءة صمت رادارات موسكو عن عمليات إسرائيل في الأجواء السورية، هو أنّ بوتين ونتنياهو تمكنا ــ سريعاً، ودون عناء كبير في الواقع ــ من التوصّل إلى مسلّمة مشتركة، بسيطة وجوهرية في آن: أنّ اتفاقهما على إبقاء نظام بشار الأسد، في المدى المنظور؛ لا يعني إطلاق يد إيران في سوريا، خاصة لجهة تمكين "حزب الله" في المنطقة، وليس في لبنان وحده، على صعيد التسلّح الستراتيجي. وما دامت إسرائيل لا تقصف الفرقة الرابعة أو "الحرس الجمهوري" أو ما تبقى من أفواج وألوية النظام (إلا حين تمرّ، من مواقع انتشارها، قوافل السلاح المتوجهة إلى "حزب الله")؛ فلا ضرر عند موسكو، ولا ضرار في تل أبيب! العكس هو الصحيح، في الواقع، لأنّ واحدة من روافع ضغط روسيا ضدّ اتساع نفوذ إيران في قلب النظام السوري، هو تحجيم دور "حزب الله" العسكري في سوريا، وإبقاء سقف تسليحه عند مستويات دنيا، أو هي لا ترتقي إلى السوية الستراتيجية.
جانب ثالث، لعلّ أهل "الممانعة" يعضون على النواجذ كلما استذكروه واضطروا إلى إغفاله عن سابق عمد؛ هو أنّ "هوى" بوتين الشخصي كان إسرائيلياً على الدوام، وليس سورياً أو فلسطينياً أو لبنانياً أو عراقياً أو مصرياً... ولعلّ سيّد الكرملين لا ينسى أنّ أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، لم يتردد في مباركة خيارات الجيش الروسي العنفية، وممارساته الوحشية، في الشيشان. ومؤشر العلاقات الروسية ــ الإسرائيلية في عهد بوتين لا يُقارَن، على أيّ نحو، بعلاقات موسكو مع حلفائها السابقين، أو اللاحقين، في العالم العربي؛ ويكفي استذكار واقعة راهنة تقول إنّ موسكو سبقت واشنطن في الحديث عن "القدس الغربية كعاصمة لدولة إسرائيل".
وفي التعليق على الغارة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مركز البحوث، في ظاهر مصياف، فجر أمس؛ كان عاموس يدلين، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، قد غرّد على "تويتر" بأنّ الضربة "ليست روتينية"، وفي تنفيذها وجهت إسرائيل ثلاث رسائل هامة: أنها لن تسمح بإنتاج أسلحة ستراتيجية، وأنها تعتزم فرض خطوطها الحمراء حتى إذا أهملتها القوى الكبرى، وأنّ حضور الدفاعات الجوية الروسي لن يعيق توجيه الضربات. ولم يفت يدلين أن يجمّل وجه إسرائيل القبيح، حين طالب المجتمع الدولي بتهنئة بلاده على ضربة "حميدة أخلاقياً"، لأنّ مصنع مصياف ينتج، أيضاً، البراميل المتفجرة التي "قتلت آلاف المدنيين السوريين"!
يبقى التذكير بما باح به الجنرال أمير إشيل، القائد السابق لسلاح الجوّ الإسرائيلي، من أنّ عدد الغارات ضدّ مواقع النظام السوري العسكرية، منذ 2012 فقط، يُحتسب بثلاثة أرقام، أي الـ100 فما فوق بالطبع. نصفها، أغلب الظنّ، نُفّذ تحت سمع وبصر الرادارات الروسية؛ وصمتها المطبق!

الاثنين، 4 سبتمبر 2017

قدم النظام وكرة سورية


"الجيش يسحق الحرّية في حلب"، كان هذا هو المانشيت الرئيسي لصحيفة "الموقف الرياضي" الأسبوعية؛ الرسمية الحكومية، لأنها تصدر عن مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر، والتي تُصدر أيضاً صحف "الثورة" و"الجماهير" و"الوحدة" و"العروبة" و"الفداء" و"الفرات"، الرسمية جميعها، بدورها. وبالطبع، لم يكن ذلك المانشيت يتحدث عن قيام جيش النظام بسحق الحرّية فعلياً، كلّ يوم، منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، فذاك احتمال من عاشر المستحيلات الصحفية في سوريا آل الأسد؛ بل كان يصف نتيجة مباراة كرة قدم، فاز فيها فريق "الجيش" التابع لوزارة دفاع النظام، على فريق "الحّرية"، ثاني أندية حلب بعد "الاتحاد".
لم يمرّ ذلك المانشيت دون عقاب شديد، جرّاء الخطأ القاتل الذي ارتكبه تحرير الصحيفة، غنيّ عن القول؛ ولكنّ مغزاه، السياسي والعسكري والأمني، لم يفت، من جانب آخر، على الشارع الشعبي من أقصى سورية إلى أقصاها. ذلك لأنّ جيش النظام ــ ممثلاً بـ"الوحدات الخاصة" بقيادة علي حيدر، و"سرايا الدفاع" بقيادة رفعت الأسد، والفرقة الثالثة بقيادة شفيق فياض ــ كان، بالفعل، يمارس حصار المدن (وبينها حلب، أكثر من سواها)، ويرتكب المجازر والفظائع، ويسحق الحرية والكرامة. ومع ذلك، كان المغزى يشمل، أيضاً، هيمنة هذا الفريق على مقدّرات رياضة كرة القدم في سورية، ضمن معادلات أوسع نطاقاً تشمل خضوع الرياضات السورية بأسرها إلى آفات الفساد والتسلط والتمييز المناطقي والطائفي.
على سبيل المثال الأوّل، كان العميد محسن سلمان (أحد كبار ضباط "الوحدات الخاصة")، هو الراعي، والأب الروحي، لنادي جبلة؛ المدينة الساحلية، التي يتحدر من ضياعها عدد كبير من ضباط جيش النظام وقادة أجهزته الأمنية. وكانت رعايته للنادي تتمثل في أوجه كثيرة، أوضحها ــ من حيث الدراما والمسرح، ثمّ التأثير الفعال استطراداً ــ أنه قد يختار حضور مباراة لنادي جبلة، عن طريق الهبوط بمروحيته في قلب الملعب! وتخيّل، يا رعاك الله، القشعريرة التي يتوجب أن تصيب طاقم التحكيم، وكم سيتبقى في نفوسهم من حسّ الحياد والعدل أثناء قيادة المباراة!
وجه آخر للرعاية، أكثر "وطنية" كما كان يردد العميد بنفسه: كلما آنس موهبة متميزة في لاعب فريق آخر، ويطمح طاقم تدريب جبلة في ضمّه إلى النادي؛ كان يسارع إلى استدعائه للخدمة العسكرية الاحتياطية (إذا كان قد أدى الخدمة أصلاً)، أو يلغي تأجيل سحبه إلى الجيش، أياً كانت قانونية الأسباب، ثم يفرزه إلى النادي لكي يكمل "خدمة العَلَم" برتبة... لاعب "جبلاوي"! وأمّا البُعد "الوطني" في هذا الإجراء، فهو أنّ سيادة العميد لا يخدم فريقه المحبب إلى قلبه، بقدر ما يخدم الوطن، والعَلَم! هنا يقتضي الإنصاف القول إنّ رعاة فريق "الجيش"، ومثله فريق "الشرطة"، لم يتخلفا عن الركب في هذه الممارسة؛ ولكن هيهات لأيّ منهم أن يبلغ شأو سلمان في استدعاء من يشاء، متى شاء.
والذين كانوا من هواة كرة القدم، وتفتّح وعيهم مع "الحركة التصحيحية"، في أخلاقياتها الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والمعيشية والطائفية، خاصة بعد "حرب تشرين" 1972؛ لن تُطمس من ذاكرتهم عشرات الوقائع التي تتصل بتشوّه هذه الرياضة، وتشويهها عن سابق قصد وتصميم، أسوة بكلّ ما صار شائهاً ومرذولاً وكريهاً في ممارسات السلطة. وثمة فواصل مريرة، حقاً، لأنها كانت تدفع السوري إلى الشماتة بفريقه "الوطني" حين يخسر، ليس لأيّ اعتبار آخر سوى بغض النظام الذي يدير الفريق، وكذلك الهزء من منتخب لا يكترث بجمهوره الشعبي بقدر تهافته على إبداء الولاء لـ"القائد الخالد"، الذي يتوجب أن يُهدى إليه كلّ نصر. ولعلّ المثال الأشدّ مرارة هو تعاطف شرائح واسعة من السوريين مع منتخب العراق، ضدّ منتخب سورية، حين توجّب أن يصعد أحدهما إلى نهائيات كأس العالم في المكسيك، 1986.
ولست متأكداً من أنّ جماهير كرة القدم السورية كانت مزهوّة بانتصار المنتخب السوري على المنتخب القطري في المباراة الأخيرة، بصرف النظر عن حجم التقدير للاعب مثل عمر خريبين (يلعب لنادي "الهلال" السعودي)، أو الفرح التلقائي لزملائه المتعاقدين مع أندية غير سورية، ويدينون في مهاراتهم إلى تدريب أجنبي، وليس إلى أيّ إنجاز تدريبي محلي. كم من أبناء سورية سوف يرضى، اليوم، بإهداء أيّ انتصار رياضي إلى مجرم حرب؟ أو يقبل بما يقوله فادي دباس، مدير المنتخب: "سنهدي قيادتنا التأهل إلى روسيا"، و"أجمل ما في الفوز أنه تزامن مع انتصارات جيشنا البطل"؟
ثمة، بالتالي، قدم لنظام آل الأسد، تسحق سورية منذ 47 سنة؛ وثمة كرة سورية أحبّها الشعب تاريخياً، وتعلّق بأنديتها المحلية، وجاهر بالحماس لأبطالها ومنجزاتهم. ولعلّ المرء بحاجة دائمة إلى تأمّل سيرورات التماهي الجَمْعي التي في مقدور هذه اللعبة أن تخلقها، وتوسّع من خلالها إطارات التميّز الوطني؛ ولكن ليس دون التعمق، أيضاً، في ما يشهده البلد من أزمات ونزاعات وصراعات واستقطابات، ذات صلة بالهوية، والمواطنة، والديمقراطية، والدكتاتورية.
وفي أنظمة الاستبداد والفساد كافة، وعلى رأسها نظام آل الأسد؛ ليست منتخبات كرة القدم وطنية، إلا بمعنى أنّ أجهزة القمع... وطنية بدورها!
4.9.2017 

 

الليدي ديانا وإدمان "الفُرجة"

 
في 31 آب (أغسطس) الجاري، تحلّ الذكرى العشرون لمصرع الليدي ديانا (1961 ـ 1997)، صحبة دودي الفايد، والمرافق، والسائق؛ ليس دون مزيد من المراجعات المختلفة، التي تزعم الغوص أعمق في شخصيتها، واستكشاف أوراقها الخبيئة؛ وإطلاق، أو إعادة إنتاج، الأحكام القِيَمية والنفسية والاجتماعية والسياسية حول حياتها ومماتها. وليس دون مزيد من نظريات المؤامرة، غنيّ عن القول، كما في إصرار مايكل مانسفيلد (المحامي البريطاني المختصّ بالقضايا الساخنة، ذات الجاذبية الإعلامية القصوى)، أنّ بعض الإشارات الدفينة في أوراق أميرة ويلز تبلغ شأو التنبؤ بجريمة القتل المقبلة، وتسمية القاتل.
في هذه المناسبة تُستعاد فكرة الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو، حول خضوع مجتمعات الغرب إلى إدمان يومي اسمه "الفُرجة"، يتزامن مع وقوعها ضحية جهاز معقد أعلى اسمه "المراقبة اللصيقة". وهذا المبدأ الأخير، "الدائم، المشدد، كليّ الحضور، القادر على تسليط الضوء على كلّ شيء، وأي شيء؛ لا تمارسه الدولة/ السلطة فحسب، بل يتولى تطويره المبدأ الأول بالذات: الفرجة. وفي هذا الصدد تُستعاد، أيضاً، تعليقات بلانتو، رسام الكاريكاتير الفرنسي المعروف، كما تبلورت في عدد من الرسوم اللاذعة؛ لعلّ أطرفها، وأكثرها قسوة، ذاك الذي يلتقط مصوّراً صحفياً يقتحم صالة التحرير وهو يهتف بحماس: "في حوزتي جميع صور مجزرة الجزائر الأخيرة!". زملاؤه، الغارقون حتى آذانهم في تغطية خبر مصرع الليدي ديانا كما يتضح من محتويات الصالة، يردّون عليه بما معناه: "من أي عصر حجري يجيء هذا؟".
وليس الأمر أن التكافؤ كان مطلوباً بين مصرع ديانا، ومقتل أكثر من 250 جزائرياً في ليلة ذبح رهيبة، إذْ من السذاجة الحثّ على أي نوع من أنواع المقارنة بين جاذبية الحدثين، من الناحية الإعلامية تحديداً. ولكنّ الطغيان المعقد الذي مارسته، وتمارسه، اللعبة المتبادلة بين الرقابة اللصيقة والفرجة في مثال الحدث الأول، تجاوز حدود التغطية والعمل الإعلامي. وقد يصحّ السجال بأنه تجاوز كامل النطاق العريض للفضول الإنساني الطبيعي إزاء واقعة ساخنة، تلوّح بتفاصيل متشعبة ساخنة بدورها.
ذلك التلازم بين المراقبة اللصيقة والفرجة بدأ من مفرزة المصوّرين المتطفلين (الـ"بابارازي")، الذين طاردوا سيارة المرسيدس حتى النفق الأخير، وحلّت عليهم لعنة التسبب في مصرع الأميرة؛ ثمّ تجلى أكثر في بيان قصر بكنغهام المتأخر، الذي عبّر عن مشاعر الأسى والحداد، ليس استجابة لداعي الفاجعة على الأرجح، بل رضوخاً لضغط شارع داخلي أخذ يميل إلى تحويل الليدي الصريعة إلى "صاحبة السموّ، القديسة داي، ملكة القلوب". يومذاك لم تتأخر صحف التابلويد البريطانية، إذْ كيف لها أن تتخلف عن ركب الشارع الغارق في الحزن والحداد؛ فتناست السهام التي اعتادت توجيهها إلى الأميرة، وصوّبتها في المقابل على القصر، الذي تأخّر في اللحاق بالشارع.
بالقدر ذاته، بدت الصبية ديانا سبنسر، ذاتها، ضحية تلك الحركة التبادلية بين إدمان الفرجة وجهاز الرقابة اللصيقة. لقد أدركت، وربما في وقت مبكر للغاية من دخولها إلى ردهات قصر بكنغهام، أن محتدها الأرستقراطي الرفيع لا يكفي لكي تواصل إنسانيتها الطبيعية، وسط أصنام موناركية يسيل في عروقها دم ملكي من نوع مختلف "النقاء". ولقد اهتدت إلى وسائل الإعلام بوصفها السلاح الرادع الجبار، الذي لا مناص لها من استخدامه، إذا كانت ستخوض أية معارك فاصلة مع تلك الأصنام والدماء الملكية. ثم اهتدت إلى الصورة بوصفها التتويج الطوطمي الأقصى لهذه العقود الحداثية وما بعد الحداثية، وأدركت ـ على نحو تدريجي بطيء ولكنه معمّق وبارع ـ أنها سيّدة صورة... بل السيدة الأكثر أسراً واجتذاباً للصورة، في طول العالم وعرضه.
وقد يقتضي الإنصاف القول إنها كانت، هنا، الأكثر صدقاً مع طويتها الحقيقية: الرؤوفة، المتوثبة، المغامرة، اللا ـ بيروقراطية، القريبة من نبض الشارع، الطليقة، والعاشقة للحياة. كانت الصورة مدفعيتها الثقيلة وهي تحتضن مريضاً مصاباً بالـ"إيدز" أو تسير ببسالة في حقل ألغام مضادة للأفراد، أو تزور مشفى لعلاج سرطان الثدي، أو تغرق في إطراقة فلسفية وهي تتأمّل أعجوبة "تاج محل" وكأنها تعانق تاريخ الإنسانية الواحدة ممثلاً في صرح آسيوي كوني تطهر من رجس الكولونيالية البريطانية، أو تحمل طفلها (الملك الآتي!) على ظهرها كما يمكن أن تفعل أيّ أمّ رؤوم عادية، أو تقبّل زوجها الأمير (الرصين، ثقيل الظل) على ملأ من رعيته والعالم. وهنا أيضاً، كان السلاح فعالاً وحاسماً ولا يقاوم.
الإنصاف، إياه، يقتضي التسليم بأنها نجحت كثيراً، بل وأنجزت سلسلة اختراقات كبرى ألحقت "الضرر المفيد"، إذا صحّ القول، بتراث ملكي أخلاقي وفلسفي عتيق، لا تغيب عنه رائحة العفونة؛ وامتلكت جسارة نبيلة باتت علامة فارقة لسيدة طلّقت التاج بقرار منها، وأمست حرّة في مشاعرها وأقوالها وأفعالها، وفي "استثمار" فتنتها الشخصية حيثما توجّب تقويض تقليد فاسد.
ما خلا أنّ تشييد بدائل معافاة، أكثر تحرراً من صفة الصنم الملكي، وأشدّ نأياً عن شخص الأميرة المصنوعة من سيلوفان، الأقرب إلى امرأة من لحم ودم... ظلّ يصطدم بداء عضال لا شفاء منه، يخلط الرقابة بالفرجة!
27/8/2017

بولانسكي ومراتب الهولوكوست


منذ آذار (مارس) 1977، حين انكشفت وقائع فضيحته الكبرى في تخدير قاصر عمرها 13 سنة ومواقعتها، لم يتوقف المخرج السينمائي الفرنسي ـ البولندي رومان بولانسكي عن احتلال مانشيتات الصحف العالمية؛ ليس بسبب أفلامه وما تنال عادة من إطراء وتكريم، بل لأنّ تلك الفضيحة كانت تجرّ عليه عاقبة تلو أخرى، كما تميط اللثام عن فضائح أخرى مماثلة، تتصل جميعها بهوس الرجل في استدراج القاصرات.

أحدث التطورات أنّ القاضي الأمريكي سكوت غوردون رفض طيّ صفحة الملاحقات بحقّ بولانسكي، في تهمة الاعتداء الجنسي على قاصر؛ وذلك رغم أنّ الضحية، سامنثا غايمر، طلبت إغلاق الملفّ لأنها، وهي اليوم في الثالثة والخمسين، تشعر أنّ استمرار فتح القضية يقوّض حياتها، خاصة وقد صفحت عن المعتدي. القاضي، من جانبه، ارتأى أنّ المتهم "شخص فارّ من وجه العدالة، يرفض تنفيذ أوامر المحاكم"؛ وأنه حتى إذا كان إغلاق القضية يخدم الضحية، فإنّ "من مصلحة المجتمع أن يصدر حكم قضائي منصف، وهو أمر لا يمكن حصوله سوى من خلال مواصلة الملاحقات".

والحال أنّ المرء قد يلتمس العذر للقاضي في تشدده، إذا جاز القول إنه يتشدد بالفعل ولا يمارس إلا إحقاق الحقّ؛ من زاويتين: أنّ وقائع مماثلة اقترنت بسلوك المخرج السينمائي الشهير (الممثلة البريطانية شارلوت لويس ادّعت عليه بتهمة معاشرتها جنسياً وهي في السادسة عشرة، وقبل أيام عقدت سيدة تدعى روبن مؤتمراً صحفياً كشفت خلاله أنها تعرضت لاعتداء جنسي من بولانسكي سنة 1973 وهي في السادسة عشرة أيضاً)؛ والزاوية الثانية أنّ تفاصيل الفضيحة الأولى كانت مريعة حقاً، وتستوجب أشدّ العقاب.

تقول الواقعة إنّ بولانسكي اصطحب سامنثا، بنت الـ13 سنة، إلى فيلا في لوس أنجليس يملكها صديقه الممثل جاك نكولسون، الذي كان غائباً عن البيت والمدينة؛ وذلك لإجراء جولة تصوير فوتوغرافي، يمكن أن تفتح للصبية أبواب العمل في السينما. صوّرها في المسبح أوّلاً، ثمّ سقاها الشمبانيا، ورغم إصابتها بنوبة ربو مفاجئة، فإنه أعطاها حبّة مهدئ (تُعرف شعبياً باسم "عقار الحبّ"، لأنها تحثّ على الاسترخاء)، وعاد إلى تصويرها في حوض الاستحمام، ثمّ واقعها جنسياً؛ ولم تفلت من براثنه إلا حين وصلت إلى الفيلا صديقة نكولسون، أنجليكا هوستون، وطردتهما. فيما بعد، سوف تروي سامنثا ما جرى معها لصديقها، وكانت أختها تسترق السمع، فأخبرت والدتها، التي اتصلت بالشرطة...

في أروقة المحاكم شهدت القضية تطورات متلاحقة، بينها إقرار بولانسكي بجرمه هذا، ثمّ فراره من الولايات المتحدة إلى فرنسا خشية أن ينزل به القاضي عقوية مشددة، وتوقيفه في مطار زوريخ بعد سنوات طويلة استناداً إلى مذكرة رسمية صادرة عن القضاء الأمريكي. لافت، في جانب آخر خاصّ من هذه القضية، أنّ التضامن مع بولانسكي اتخذ صفة ثقافية أولاً، بوصفه أحد كبار مخرجي الفنّ السابع الأحياء؛ ثمّ تطوّر إلى تضامن أخلاقي (نعم!)، بالنظر إلى أنه "شيخ في السادسة والسبعين"، و"ضحية شهدت الكثير من العذابات"، وهو... أحد الناجين من الهولوكوست! وتلك مسوغات قال بها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، ثمّ وزير الخارجية برنار كوشنر، فوزير الثقافة فردريك ميتيران؛ وهذا الأخير ألمح إلى أنّ صلة بولانسكي بالهولوكوست تكفيه عذاباً، وتعفيه بالتالي من المزيد، في قضية شاء الوزير العتيد أن يعتبرها "قديمة، لا معنى لها على الإطلاق".

كذلك تابع العالم عريضة تطالب السلطات السويسرية بالإفراج الفوري عن بولانسكي، حملت تواقيع جمهرة من مشاهير العاملين والعاملات في صناعة السينما، بينهم عدد من ألمع المخرجين والممثلين: وودي آلن، مارتن سكورسيزي، برناردو برتولوشي، دافيد لينش، أمير كوستوريكا، ماركو بيلوكيو، جوزيبي تورناتوري، فاتح أكين، توني غاتليف، برتران تافرنييه، جيل جاكوب، جان مورو، فاني أردانت، كوستا غافراس، بيدرو ألمادوفار، فيم فندرز، مايكل مان، سام منديس، مونيكا بيلوشي، كلود لانزمان. كذلك ضمّت اللائحة مؤسسات ومعاهد سينمائية عالمية، وشخصيات أدبية مثل ميلان كونديرا وسلمان رشدي، فضلاً عن المتفلسف الفرنسي اليهودي برنار ـ هنري ليفي.

على المنوال ذاته نشرت "واشنطن بوست" الأمريكية مقالة آن أبلبوم، التي تشاء المصادفة أنها زوجة رادوسلاف سيكورسكي (المنشقّ البولندي السابق، المستشار السابق لملك الإعلام والمياردير اليهودي روبرت مردوخ، وزير خارجية بولندا يوم الواقعة، ومطلِق إشاعة تقول إنّ والد الرئيس الأمريكي باراك أوباما من أكلة لحوم البشر، وفي معدته أحد أعضاء البعثة التبشيرية البولندية في أفريقيا). في تلك المقالة ساجلت أبلبوم بأنّ بولانسكي تعرّض لجرعة من المضايقات القضائية أعلى من المعتاد، والمطلوب مراعاته لأنه سليل عذابات الهولوكوست!

غير أنّ قرار القاضي الأمريكي غوردون، الذي رفض طيّ الملاحقة بحقّ بولانسكي، يقول أولاً إنّ القضية لم تعد تخصّ سامنثا الضحية وحدها، بل تعني المجتمعات المعاصرة بأسرها، ولا تسوية في هذا يجوز لها أن تُسقط العقاب. كذلك يفيد القرار، حتى إذا لم يتقصده القاضي، أنه لا يصحّ تجميل الفعل الشائن، استناداً إلى رفعة مقام الفاعل.

.. حتى إذا كان ناجياً من فظائع الهولوكوست، بل ربما لأنه في هذه المرتبة تحديداً!
20/8/2017

فدوى سليمان: فارق الأنثى وتنميط الطائفة



خلال الأسابيع الأولى من انتفاضة الشعب السوري، وابتداءً من 15 آذار (مارس) 2011، قبيل تظاهرات درعا في 18 منه؛ كان سلوك الفنانة والشاعرة السورية فدوى سليمان (1970 ـ 2017) منسجماً، على نحو متطابق تماماً في الواقع، مع سلوك المئات من الناشطات والناشطين الشباب، خلال تظاهرات الجامع الأموي وساحة عرنوس، وأحياء الميدان ومدحت باشا والحريقة. لقد وقّعت على "بيان الحليب" الشهير، وهتفت بالشعارات الأولى، التي تنادي بالسلمية، وتناشد "حماة الديار" بالتوقف عن إطلاق النار، وتعلن أنّ الشعب السوري واحد، وتطالب بالحرية والكرامة؛ قبل أن يرتفع الشعار الحاسم، والفارق: "الشعب يريد إسقاط النظام".
كان ثمة فارقان، جوهريان، بين فوارق أخرى، ميّزا شخصية سليمان، وحفنة من الناشطات اللواتي شاطرنها هذين الفارقين: 1) أنها أنثى، امرأة شابة، ممثلة سينما ومسرح، تذهب إلى خيم العزاء التي أقيمت لبواكير شهداء الحراك السلمي، في أحياء وبلدات ذات طابع محافظ، مثل برزة والقابون، وفي بلدات دوما وزملكا؛ و2) أنها ولدت في بيئة علوية، وبالتالي كان حضورها هذا يحمل دلالات وطنية، سياسية وأخلاقية، عابرة للمألوف، خاصة حين اختارت التوجّه خارج دمشق إلى مناطق في محافظة درعا، ثمّ انتقلت إلى حمص، وإلى قلب التظاهرات (ذات الطابع السنّي الغالب).
الفارق الأوّل كان يحيل إلى إشكالية جديدة، أو لعلها طارئة، على الأقلّ بعد ثمانينيات القرن الماضي؛ يخلقها حضور امرأة سافرة، (دون استفزاز، إذْ حدث أنّ سليمان تعمدت وضع غطاء الرأس، احتراماً للمشاعر العامة خلال العزاءات)، في أزمنة شهدت لجوء غالبية ساحقة من النساء، بنات الطائفة السنّية غالباً، نحو الحجاب. تلك النقلة لم تصنعها أسباب دينية، إذْ توفرت نسبة ملموسة من المحجبات غير المتدينات بالضرورة، بقدر ما كانت ردّ فعل احتجاجياً على واقعة شهيرة، فاشية تماماً، شهدتها العاصمة أواخر أيلول (سبتمبر) 1980، حين أمر رفعت الأسد مجموعة من "المظليات" بالنزول إلى شوارع دمشق ونزع الحجاب عن كلّ مَنْ ترتديه، طفلة كانت أم شابة أم امرأة أم مسنّة. يومها اضطر حافظ الأسد إلى الاعتذار علانية، ولكن... خلال حفل تخريج "المظليات" المجرمات أنفسهنّ!
وليس الأمر أنّ المرأة كانت غائبة عن حراك الاحتجاج، أو عن العمل السياسي التنظيمي المعارض إجمالاً، إذْ كان العكس هو الصحيح في الواقع؛ ولكن ليس ضمن نطاق الأحياء أو البلدات ذات الطابع المحافظ، خاصة حين كانت مجموعة "القبيسيات" قد نجحت في إحداث اختراقات خطيرة في قلب مجتمعات دمشق العاصمة وريفها، بمساندة من السلطة والجهاز الديني والافتائي المنضوي تحت إمرتها. وليس، أيضاً، ضمن سياقات بالغة الخصوصية، مثل خيم العزاء، التي أخذت تُقام في مناخات عالية الاحتقان؛ لا تنطوي معاييرها على مناهضة النظام، أو التعاطف مع الحراك الشعبي، أو ملاقاة الخطاب الإسلامي المعارض المتكتم، فحسب؛ بل، كذلك، حول سلسلة من المواضعات الاجتماعية، وبينها مشاركة المرأة في العمل السياسي العامّ، العلني الذي ينتهك المألوف، أو ذاك الذي يقتحم مجالس عزاء الرجال. بذلك فإنّ صبايا الانتفاضة، ونساءها، كنّ نماذج طارئة، إذا لم تكن جديدة، على مشهد اجتماعي سوري معاصر، شبه ساكن، أو غير قلق، غير متمرد؛ لكنه بات يحفل بمتغيرات شتى، متسارعة ومتعاظمة. وكان لافتاً، وذا دلالة عظيمة، أنّ السطوح الأكثر محافظة في المجتمع السوري أخذت تتقبل هذا الطارئ، وترحب به؛ ليس دون استقباله أولاً في صيغة إشكالية مرتبطة بما استقرت عليه المواضعات، طيلة أربعة عقود من عمر "الحركة التصحيحية".
الفارق الثاني كان يحيل إلى إشكالية من طراز آخر، لكنها لم تكن منفصلة تماماً عن الإشكالية الأولى؛ إذْ أنّ حضور امرأة تتحدّر من الطائفة العلوية كان يظهّر، أكثر، أنماط العسر في استقبالها تحت خيمة العزاء، ثمّ الحراك الشعبي الأعرض في المناطق ذات الصفة المحافظة، استطراداً. صحيح أنّ الأجواء، خلال الأشهر الأولى الأبكر من عمر الانتفاضة، كانت قد اتسمت بالتشديد على الوحدة الوطنية، والنأي عن التأويل الطائفي للحراك الشعبي، واتهام النظام بافتعال التأجيج الطائفي (ويُذكر، هنا، أنّ سليمان كانت في قلب مبادرة لافتة لزرع أشجار الزيتون الساحلية في ريف دمشق ودرعا). ولكن من الصحيح، أيضاً، أنّ نجاح النظام في استقطاب غالبية عظمى من أبناء الطائفة العلوية في ما صُوّر كـ"معركة وجود" للطائفة قبل النظام؛ وكذلك فشل المعارضة السورية، التي منحت ذاتها امتياز تمثيل الانتفاضة، في تفكيك ستراتيجيات التطييف التي اتبعها النظام، وتزويد الشارع الشعبي في المناطق العلوية بضمانات أكثر مدعاة للطمأنينة، فما بالك بالاستقطاب المضادّ النظام... كلّ هذا كان يضع أمثال سليمان تحت محكّ مساءلة إشكالية، صامتة تارة ومعلنة طوراً، مسبقة الأحكام، تنميطية، غاشمة، وعشوائية أيضاً.
خلال ذلك الطور، كان معارض/ رمز كبير مثل رياض الترك يقول (في حوار مع محمد علي الأتاسي، نشرته "القدس العربي"): "ليس علينا إلا الصبر والتفاؤل في أنّ غالبية إخواننا العلويين سيدخلون الثورة عاجلاً أو آجلاً، رغم محاولات النظام المستميتة لتجنيدهم من حوله، وربطهم به من خلال شبكة من المصالح والولاءات (...) علينا أن نعي أن خدمة أهداف النظام، وهي أيضاً خيانة للثورة، تكون بتعميم منطق طائفي يرى في الثورة السورية صراعاً سنياً ـ علوياً، ويقوم على إلغاء طرف للطرف الآخر. من هنا علينا أن نكون غاية في اليقظة والحذر من الوقوع في مطبات الطائفية، مهما قسا النظام ونكل بالمواطنين، ومهما خرج الناس العاديون عن طورهم وانزلقوا في مهاوي الطائفية". لكنّ هذا كان، على الأرض في وجدان غالبية أخرى من أبناء السنّة، وكذلك في برامج وممارسات مؤسسات "المعارضة" الرسمية، خطاب الأقلية؛ إذا شاء المرء أن ينصف مشهد الواقع يومذاك، خاصة بعد أن مضى النظام نحو الخيارات العنفية الفاشية القصوى، وجُرّت شرائح في الحراك الشعبي نحو التسلّح، وابتدأ صعود التنظيمات الجهادية والإسلامية المتشددة.
بهذا المعنى يُفهم مآلان لاحقان في مصائر سليمان، الأنثى، بنت المجتمع المدني، الفنانة، الناشطة... ولكن، المعارضة المتحدرة من الطائفة العلوية، شاءت ذلك (كما لم تفعل)، أم أبت (كما فعلت مراراً): الأوّل تمثّل في افتراقها، خلال تواجدها في قلب تظاهرات حمص، عن الخطّ الذي انتهج التسلّح؛ والثاني اتخذ صفة مأساوية، حين لجأ الغلاة إلى تخوينها، ليس على خلفية تشكيكها في التسلّح، بل لأنها... ولدت علوية! هكذا، ببساطة حمقاء، تعسفية، لاوطنية! ومع ذلك، كانت سليمان (في حوار مع سارة عبد الحي) ترى التالي في عبد الباسط الساروت، الأيقونة مثلها، الذي انحاز مكرهاً إلى خيار التسلّح: "الساروت وعدد كبير من الشباب السوريين الذين بدأوا سلميين، هم ضحايا النظام الذي أمعن في القتل والتعذيب والحصار، وضحايا حقيقيين لغياب المشروع السياسي البديل عن النظام، هم ضحايا إيمانهم بالمجلس الوطني، فقد علقوا آمالاً كبيرة على وعود المجلس الذي كان غير قادر على تحقيقها وغير قادر على بلورة مشروع سياسي ينقذ سوريا".
وبين فارق الأنثى وتنميط الطائفة، يظلّ مشروعاً إدراج الراحلة فدوى سليمان في تلك القاعدة التي استنها آل الأسد: أنّ المعارضين من بنات وأبناء الطائفة العلوية كانوا في صدارة معتقلي، وشهداء، مختلف التيارات اليسارية والديمقراطية؛ وكان النظام يُفرد لهم عقوبات مضاعفة، لأنّ خروجهم (على ما يعتبره النظام "إجماع" الطائفة لصالحه) بدا في ناظر السلطة "خيانة"... عظمى، أحياناً. ما خلا أنّ العقاب لا يأتي من النظام وحده، بل من ذوي القربى، أيضاً!
17/8/2017

 

مسرح ونوس: بواكير ما قبل السياسة


في كتابه "نظريات عالمية عن المسرح"، الصادر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات Routledge، يغادر الناقد الأمريكي غلين أودوم النطاق الغربي المعتاد، ليتلمس مفاهيم المسرح في أرجاء العالم الأخرى، وفي القارات خارج أوروبا وأمريكا الشمالية. وهو يوزّع الحصيلة هذه على ثلاثة أجزاء: مسائل نظرية (علم الجمال، المسرح والسياسة، التحرر من الاستعمار والهجنة وما بعد الاستعمار والتلاقح الثقافي والعولمة، الهوية/ الممثل، الحداثة والمسرح، التنظير للجندر في المسرح العالمي)؛ فالجزء الثاني، الذي يتناول التاريخ الثقافي والأدبي (أمريكا اللاتينية، أفريقيا الصحراوية، شمال أفريقيا والشرق الأوسط، أستراليا ونيوزيلندا، شرق آسيا، والهند)؛ ثمّ الجزء الثالث، ويبحث في العلاقات بين النظرية والتطبيق. وهو، في هذا المسعى، يعيد اقتباس نصوص لـ17 كاتباً مسرحياً، بينهم الكاريبي ديريك ولكوت والنيجيري وولي سوينكا والصيني جاو كسنغجيان، حملة نوبل للآداب؛ فضلاً عن مقتطفات من نصّ سعد الله ونوس "بيانات لمسرح عربي جديد"، الذي كان قد صدر سنة 1988، في بيروت، عن دار "الفكر الجديد".
مساهمة ونوس (1941 ـ 1997) أدرجها أودوم في قسم المسرح والسياسة، بالطبع، لأنّ النصّ انتمى إلى حقبة شهدت إيمان الراحل بالرسالة السياسية المباشرة التي يتوجب أن يحملها المسرح؛ وهذا يقين سوف يتطوّر، ويتبدّل جذرياً في الواقع، حين أدرك ونوس أنّ وظائف الخشبة، أسوة بالنصّ المسرحي، تستوجب التوجّه أكثر إلى "حركة تنويرية عامة"، بحيث تخدم "وسيلة معرفية" و"وسيلة جمالية"؛ كما جاء في حوار مع نبيل الحفار، سنة 1986. لكنّ الفقرات التي يختارها أودوم تظلّ ثمينة، وبالغة الأهمية، سواء في إغناء التنظيرات غير الغربية لعلاقة المسرح بالسياسة، أو لاستكمال مشهد أكثر تكاملاً بصدد تحولات ونوس الفكرية.
وهذا الكتاب مناسبة جديدة لكي أعيد التشديد على قناعة شخصية، مفادها أنّ ونوس خضع لإجحاف نقدي ــ فادح، كما يتوجب أن أقول! ــ بصدد بواكير أعماله المسرحية؛ التي اعتمدت جملة خيارات أسلوبية طليعية، بل رائدة: اتكاء اللغة المسرحية على «حرية روائية» في السرد، ليست شائعة كثيراً في مسرح تلك الأيام؛ واستخدام الجوقة لإضاءة الجوانب النفسية والفلسفية والاجتماعية ـ السياسية التي يندر أن يفلح الحوار المسرحي التقليدي في إشباعها.
ففي أواسط الستينيات، قبل عمله الأشهر "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، الذي كتبه على امتداد سنتَي 1967 ـ 1968 وعُرض للمرّة الأولى في دمشق سنة 1970؛ وقبل مسرحيته الأولى "ميدوزا تحدّق في الحياة"، 1963؛ كان ونوس قد نشر سلسلة مسرحيات قصيرة في مجلة "المعرفة" السورية، هي "مأساة بائع الدبس الفقير"، و"الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا" (وحملت المسرحيتان عنواناً موحداً هو "حكايا جوقة التماثيل")، ثمّ "جثة على الرصيف"، و"الجراد". كانت هذه هي أولى أعماله المسرحية، وظهرت فيما بعد في كتاب تحت عنوان "مأساة بائع الدبس الفقير ومسرحيات أولى".
وفي تلك البواكير الثمينة، أبدى ونوس حرصاً بالغاً على إضاءة الدواخل النفسية للشخصية، أكثر بكثير من ملامحها الخارجية؛ التي ترسمها عادة تقنيات مسرحية راسخة مثل الحوار، والتعبير بالجسد، والديكورات الخاصة، والمؤثرات الصوتية، واستخدام الإضاءة لتسليط بقعة ضوء على الشخصية بغرض عزلها أو ضمّها إلى الحركة العامة على الخشبة. ومن المدهش أن هذه المسرحيات الأولى حظيت بالنزر اليسير من الاهتمام النقدي، رغم أنها تتصف بأهمية فكرية وتقنية خاصة في المسار التكويني المتدرج لمشروع ونوس. لقد كانت بمثابة أعمال تأسيسية، ومحورية، للمختبرات المتعددة التي سيشهدها مسرح ونوس فيما بعد؛ وبمثابة هوية أسلوبية مبكرة سوف تلازمه على الدوام، متجلية على نحو صريح تارة، وعلى نحو مستتر طوراً.
وبهذا المعنى فإن تلك النصوص المبكرة تكتسب دلالات نقدية ودراسية لا تقلّ أهمية عن تلك التي اقترنت، وتقترن عادة، بمسرحية مثل «حفلة سمر...»؛ أوبالنقلات الأخرى التي اتخذت شكل محطات أسلوبية أو انعطافات فاصلة في الموضوعات، مثل:
ـ "مغامرة رأس المملوك جابر"، 1971، حين استخدم المادة التاريخية لصناعة حكاية قادرة على إعادة إنتاج الحاضر في شكل إسقاطات سياسية واجتماعية معاصرة؛
ـ و"سهرة مع أبي خليل القباني"، 1973، حين اختار تقنية المسرح داخل المسرح وعالج ألوان "الفرجة" الشعبية ومسرح خيال الظل بمصطلحات التغريب البريختية؛
ـ و"الإغتصاب"، 1990، حين بلغت شحنة الرسالة السياسية في النصّ المسرحي ذروة دراماتيكية جلبت على ونوس تهمة التبشير بالسلام مع إسرائيل؛
ـ و"منمنمات تاريخية"، 1993، حين خضعت صورة المثقف العربي ــ ممثّلاً هنا بالمؤرّخ وعالم الاجتماع ابن خلدون ــ لنقد توبيخي بالغ القسوة؛
ـ وأخيراً "الأيام المخمورة"، 1996، حيث تأخذ المحنة الذاتية (مرض ونوس) شكل يأس داخلي متعاظم، يطمس قدرة الوعي على إدراك وتحليل اليأس الخارجي.
وإذا كان أودوم، في هذا المجلد المكرّس لنظريات المسرح العالمية خارج النطاق الغربي، قد كرّم ونوس، فكان صوته هو الوحيد الناطق باسم مسرح عربي غنيّ وتعددي؛ فإنّ تكريم ونوس الأبكر، ودراسة تلك الخيارات الأسلوبية الطليعية، مهمة ضرورية ملقاة على عاتق النقد المسرحي العربي؛ إذا شئنا أن نستبق أمثال أودوم، في إحقاق حقّ رائد كبير، وتثمين تجربة رفيعة.
13/8/2017

السعودية و"المعارضات" السورية: إكراه السياسة وباطل التمثيل


 مضى زمن شهد شيوع سردية رسمية أطلقها النظام السوري خلال الأشهر الأولى التي أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا، آذار (مارس) 2011، مفادها أنّ الأمير السعودي بندر بن سلطان هو الذي يقف وراء "المؤامرة"؛ أي التسمية، الرسمية بدورها، التي استقرّ عليها النظام في توصيف الحراك الشعبي، الذي بدأ سلمياً تماماً، رغم لجوء النظام إلى العنف منذ تظاهرات درعا البلد. كذلك اتُهم الأمير، وعلى نحو شخصي وفردي أحياناً، بأنه يموّل أطراف تلك "المؤامرة"، خاصة بعد أن مضى النظام أبعد في ستراتيجيات التأثيم المعمم، فأطلق على الناشطين صفة "الإرهابيين". فيما بعد، عند تشكيل معارضات الخارج، وتوزّع غالبية المعارضين (عبر "المجلس الوطني" أولاً، ثمّ "الائتلاف الوطني") في ولاءات عربية وإقليمية ودولية؛ تولى معارضون أفراد (أمثال أحمد الجربا وميشيل كيلو واللواء سليم إدريس...)، تثبيت علاقة الأمير بهذه المعارضات، الإسطنبولية تحديداً كما يجوز القول، وتأكيد الكثير مما يُقال عن تحكّم المملكة العربية السعودية بإرادة "الائتلاف"، أفراداً ومؤسسة.
وفي ربيع 2014 أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً بإعفاء الأمير من منصبه كرئيس لـ"مجلس الأمن الوطني"، "بناءً على طلبه"، كما نصّ القرار؛ مما عنى أنّ مسؤولياته في "إدارة" تلك المعارضات قد آلت إلى جهة أخرى، تبيّن سريعاً أنها لم تعد استخباراتية صرفة، بل عُهد بها إلى وزير الخارجية عادل الجبير، ضمن متغيرات أخرى في سياسات المملكة الإقليمية، خاصة تورّط الرياض في اليمن وتشكيل تحالف "عاصفة الحزم". وعلى خلفية رغبة أمريكية في إعادة هيكلة المعارضات السورية، بعد أن ترهلت صيغة "الائتلاف" التي ولدت على أنقاض "المجلس الوطني"؛ تبنّت السعودية خيار "هيئة التفاوض"، وجمعت أطياف المعارضين (بما في ذلك الفصائل المسلحة، "الجيش الحرّ" أسوة بالجهاديين...) في مؤتمر الرياض، أواخر 2015. آنذاك، كان خطاب الجبير يسير هكذا، على سبيل الأمثلة: "بشار الأسد سيرحل عن الحكم في دمشق سواء كان عاجلاً أم آجلاً لأنه انتهى"؛ أو: "إن لم يستجب الأسد للحل السياسي، فإنه سيبعد عن طريق حل عسكري"، و"المسألة مسألة وقت"...
وكان اجتماع الرياض قد توصل إلى جملة "ثوابت"، أبرزها أنّ هدف "التسوية السياسية" هو تأسيس نظام سياسي جديد لا مكان فيه "لبشار الأسد وزمرته"؛ قوامه الالتزام بآلية الديمقراطية، والنظام التعددي الذي يمثل أطياف المجتمع السوري، الحفاظ على "مؤسسات الدولة السورية"، وضرورة "إعادة هيكلة وتشكيل مؤسساتها الأمنية والعسكرية". كذلك اتفق المجتمعون على تشكيل فريق للتفاوض مع ممثلي النظام (ترأسه رياض حجاب، الذي انشق عن النظام وهو في منصب رئيس الوزراء؛ وتألف من 33 عضواً، بينهم 11 عن "الفصائل الثورية "، و9 عن "الائتلاف"، و8 عن المستقلين، و5 عن "هيئة التنسيق"). كان سياقات المشهد العامّ في سوريا، يومذاك، تحكمها عناصر كبرى مثل التدخل العسكري الروسي المباشر، وتحولات الموقف الأمريكي نحو اعتماد الفصائل الكردية في الحرب ضدّ "داعش"، وتركيز الموقف التركي على قطع وتفكيك أيّ احتمال لإقامة كيان كردي على الحدود السورية ـ التركية وغرب نهر الفرات.
وقبل أيام، في أعقاب اجتماع بين الجبير وحجاب، راجت معلومات تفيد بأنّ الرياض أبلغت هيئة التفاوض أنّ الاهتمام الدولي لم يعد يشدد على رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، لأنّ التشديد انتقل إلى ملفّ محاربة الإرهاب؛ وبالتالي على الهيئة أن تعيد ترتيب خياراتها. وقيل كذلك إنّ الجبير تحدّث عن "إعادة هيكلة" الهيئة ذاتها، الأمر الذي قد يفسّر ـ في قليل أو كثير، لكنه غير منقطع الصلة كما يلوح ـ إعلان الهيئة عن عزمها عقد مؤتمرها الثاني، بعد الأول التأسيسي، في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل؛ تحت عنوان "اجتماع موسع مع نخبة مختارة من القامات الوطنية السورية ونشطاء الثورة، من أجل توسيع قاعدة التمثيل والقرار". وليس واضحاً، بعد، ما إذا كان هذا الاجتماع سوف يشهد انضمام ممثلي منصتَي القاهرة وموسكو، لكنّ الكثير من المؤشرات تذهب نحو هذا المآل. من جانبه كان جورج صبرا عضو هيئة التفاوض وممثل الائتلاف، قد أوضح أنّ الجبير "لم يمارس أي ضغوط، كلّ ما قاله إن ثمة متغيرات على الساحة الدولية والإقليمية فيما يتعلق بالوضع السوري وإن الأولوية أصبحت للإرهاب وليس إسقاط الأسد، وعليكم أن تراعوا هذه المتغيرات"؛ موضحاً أنّ الوزير أكد على استعداد المملكة "لدعم المعارضة أيا كانت القرارات".
وبين ما راج في الأخبار، من تهمة تخلّي الرياض عن خيارات الأمس القريب بخصوص مصير الأسد؛ وما جزم به صبرا وسواه، من تبرئة ساحة الرياض وتنزيهها عن أيّ ضغط؛ ثمة ذلك الواضح المسكوت عنه من عناصر هذا التأزم، الأحدث عهداً، في حال المعارضات السورية عموماً، وهيئة التفاوض خصوصاً: 1) أنّ ما يُسمّى "المجتمع الدولي" لم يعد، بالفعل، ملتزماً بمبدأ إبعاد الأسد عن المرحلة الانتقالية (فما بالك بإسقاطه، حسب تعبير صبرا!)، وهذا واضح في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ و2) أنّ المعارضات السورية، ذاتها، واقعة في حيص بيص، من حيث ما تبقى لها من أوراق تفاوض على الطاولة، وتمزيق بنيتها بين هيئة التفاوض ومنصة موسكو ومنصة القاهرة؛ و3) ما ينعكس على حركة هذه المعارضات من ضغوطات النزاع الخليجي ـ الخليجي الراهن، واعتماد الرياض مبدأ الانحياز القسري وقاعدة "مَنْ ليس معنا فهو ضدنا"...
ومع ذلك، وأياً كانت التبدلات التي طرأت على علاقة السعودية بالمعارضات السورية، في إسطنبول كما في الرياض؛ فإنّ الجوهر الأكبر، القديم والمتجدد، سوف يظلّ يدور حول السؤال الكبير: مَنْ نصّب هؤلاء، أينما كانوا وكانت صفاتهم ومؤسساتهم، ممثلين للشعب السوري؛ منذ جنيف 1 وحتى جنيف 7، ومنذ أستانة 1 وحتى يشاء الله؟ وهل يكفي القول، كما جاء في بيان الرياض 2015، إنّ المشاركين "ينتمون إلى كافة مكونات المجتمع السوري من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين والسريان والشركس والأرمن وغيرهم"، لكي ينطبق الزعم على الواقع؟ أم تُفرض شرعية التمثيل، اعتباطياً وعشوائياً، لمجرد تأكيد البيان أنه "شارك في الاجتماع رجال ونساء يمثلون الفصائل المسلحة، وأطياف المعارضة السورية في الداخل والخارج"؟ أو تُختلق هذه الشرعية، كما يجري الزعم الجديد حول الاجتماع المقبل، بسبب من حضور "نخبة مختارة من القامات الوطنية السورية ونشطاء الثورة"؟
ألم تمارس السعودية، منذ أن أسلمت معارضات إسطنبول والرياض قيادها لأجهزة المملكة، طرازاً مزدوجاً من التدجين، قوامه إكراه السياسة (بمعنى فرض أجندات المملكة، الداخلية أو الإقليمية أو الدولية)؛ واستغلال باطل التمثيل (بمعنى إدراك هزال ما يمثله زيد أو عمرو في عمق الشارع الشعبي السوري، ومقادير تبعية هذا واستزلام ذاك)؟ ألم تُختبر سلوكيات تلك المعارضات، على مستوى "المجلس الوطني" ثمّ "الائتلاف الوطني" وصولاً إلى "هيئة التفاوض"؛ بحيث نشهد اليوم كسوراً وانشقاقات وتباينات حادة، حتى في إسقاط ثوابت كبرى؛ كما اعترف صبرا نفسه، مؤخراً: "لم يعد خافيا أنّ البعض بات يصرّ على بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وحتى من داخل هيئة المفاوضات العليا هناك من يعتقد بإمكانية أن يبقى الأسد في المرحلة الانتقالية، أما المنصات الأخرى فهي لم تعد تخفي هذه المطالب"؟
إلام، إذن، هذا التمادي في خداع الشعب السوري، والغرق أكثر فأكثر في حضيض سياسة بالإكراه، وتمثيل لا ينهض إلا على باطل؟
10/8/2017

واشنطن والفصائل السورية "المعتدلة": وقف التسليح أم فسخ العقود؟

 
لم يؤكد البيت الأبيض ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، حول إيقاف تسليح بعض "الفصائل المعتدلة" داخل المعارضة المسلحة السورية، وهو البرنامج الذي كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد اتخذه في نيسان (أبريل) 2013، وتمّ تنفيذ بعض مراحله عبر التنسيق مع الأردن وتركيا؛ قبل أن يتراخى تدريجياً، ثمّ يُجمّد عملياً، ويُطوى نهائياً. وإذا كانت الإدارة قد امتنعت عن التعليق على هذا التطوّر، بالنظر إلى أنّ البرنامج اندرج في تصنيف "سرّي"؛ فإنّه تأكد عن طريق غير مباشر: عضو الكونغرس عن الديمقراطيين تولسي غابارد، نصيرة النظام السوري، رحبّت به؛ مقابل استنكار السناتور جون ماكين، وزميله ليندسي غراهام، عن الجمهوريين؛ فضلاً عن انكشافه على الأرض، في سوريا، لدى الفصائل المعنية ذاتها.
وثمة دلالة، ابتداءً، في العودة إلى "فلسفة" هذا القرار، التأسيسية إذا جاز القول، من وجهة نظر البنتاغون والمخابرات المركزية، في ما يخصّ الواقع السوري أولاً؛ قبل مناقشة الحيثيات الأقدم التي اكتنفت قرارات إدرات سابقة بتسليح فصائل عسكرية في أماكن أخرى من العالم. واستناداً إلى معلومات مارك مازيتي، في "نيويورك تايمز"، 14/10/2014، كانت نقاشات حامية قد نشبت داخل إدارة أوباما حول مسألة تسليح المعارضة العسكرية "المعتدلة"؛ بين رافضين للخطوة أو مشككين في جدواها (كانوا أقلية، ولكن كان الرئيس في عدادهم)؛ ومتحمسين لها، دون الارتقاء بها إلى مستوى "ستراتيجية مخرج" تنتهي إلى إسقاط نظام بشار الأسد. ذلك دعا أوباما إلى تكليف المخابرات المركزية بإعداد "مراجعة" لتجارب التسليح السابقة، في جغرافيات أخرى، والإجابة على السؤال الحاسم: هل نجحت، إجمالاً؛ وهل ستنجح في سوريا، بصفة خاصة؟
المعطيات اللاحقة، التي جاءت في مقالات أو مؤلفات بعض ممثلي الإدارة يومذاك (هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية، وليون بانيتا وزير الدفاع، ودافيد بترايوس مدير المخابرات المركزية، مثلاً)؛ أكدت أنّ "المراجعة" خدمت المشككين. ومع ذلك فإنّ المشكك الأبرز، أوباما نفسه، أعطى الإذن ببدء برنامج تسليح عبر قاعدة عسكرية في الأردن، وبرنامج ثانٍ في المملكة العربية السعودية لتدريب 5000 مسلّح سنوياً على قتال "داعش". ورغم أنّ "فلسفة" التسليح كانت تنطلق من تمكين الفصائل "المعتدلة" من قتال النظام السوري، إلا أنّ نقلة كبرى طرأت على هذا التوجه، إذْ انقلب نحو توجيه تلك الفصائل إلى قتال "داعش" فقط.
وليست خافية تلك الوقائع اللاحقة ــ العجيبة، المتناقضة، السوريالية أو تكاد! ــ التي جعلت بعض الفصائل تحجم عن قتال "داعش"، ليس لأنها لا تبغض التنظيم، إذْ كانت بالفعل تعاديه وتناهضه؛ بل لأنّ خيارها الأول هو قتال النظام، خاصة في المواقع التي كانت تتطلب الدفاع عن نقاط ارتكاز هامة أو ستراتيجية. كذلك كان تخبط الترتيبات الأمريكية، وتباينها إلى درجة التعارض أحياناً، قد أسفر عن مواجهات مسلحة بين فصائل "معتدلة" يدعمها البنتاغون ("قوات سوريا الديمقراطية")، وأخرى تدعمها المخابرات المركزية (كتيبة "فرسان الحق"). تلك المشاهد كانت مظهر السطح فقط، لإنّ الأعماق كانت تحتوي مشكلات أكثر تعقيداً من مجرّد السجال حول تنفيذ برامج التسليح والتدريب أو إيقافها؛ وكانت تتصل بعجز الأجهزة السياسية للمعارضة السورية، خاصة حين تبدأ عناصر الخلل من خيارات أمريكية في ذاتها (مثل رغبة هيلاري كلنتون في تجاوز صيغة "المجلس الوطني" إلى صيغة "الائتلاف الوطني")، ثمّ تتمدد إلى تشتت ولاءات أطراف المعارضة بين قوّة إقليمية وأخرى، ولا تنتهي بالطبع عند المعضلات الذاتية للقوى والأطراف المهيمنة على تلك الأجهزة.
وهكذا، على نحو متعاقب أقرب إلى سيرورة تطور منطقية، بدا وكأنّ تجميد التسليح أو التدريب، بعد منحه بالقطارة كما يُقال، قد انقلب إلى ما يشبه فسخ العقد الأمريكي مع الفصائل العسكرية "المعتدلة"؛ خاصة حين اهترأت تدريجياً "عقيدة أوباما" في عدم التدخل المباشر، مع تشكيل التحالف الدولي ضدّ "داعش"، ثمّ انزلاق واشنطن إلى شكل بعد آخر من التدخل العسكري المباشر في سوريا. وكان طبيعياً، استطراداً، أن يُدرج البرنامج في إطار الخيارات اللاحقة لإدارة أوباما، في المنطقة عموماً (إيران، تركيا، أفغانستان...)، وفي العراق وسوريا بصفة خاصة.
ومع تحوّل نظرية "الخطّ الأحمر"، بصدد استخدام الأسلحة الكيميائية من جانب النظام، إلى خطّ مجازي وشبه وهمي؛ ثمّ انتقال المساندة الروسية للنظام إلى انحياز عسكري شامل، واسع النطاق وأشبه بالانتداب؛ توجب على إدارة أوباما أن تعود إلى إعلاء كلمة المشككين في البرنامج، وطيّه مؤقتاً، تمهيداً لساعة مواتية تعلن دفنه نهائياً. وهنا، للإنصاف فقط، يصحّ القول إنّ إدارة دونالد ترامب لم تفعل ما يزيد على دقّ مسمار أخير في نعش هذا البرنامج، فهي لم تكن مهندسة إطلاقه، وبالتالي ليست أوّل حفّاري قبره.
وأمّا ما يخصّ التاريخ الأبعد لهذا البرنامج، فإنّ الحصيلة ليست هزيلة وفقيرة ومحدودة الإنجاز، فحسب؛ بل هي فاشلة غالباً، وكارثية أحياناً، حتى في أكثر أمثلتها إيحاءً بالنجاح. ولعلّ "الصناعة الجهادية" في أفغانستان، التي بدا أنها تكللت بالنجاح حين أجبرت الاتحاد السوفييتي على مغادرة البلد، هي المثال الساطع على "نجاح" انتهى إلى كارثة؛ لأنه جلب منظمة "القاعدة" وأسامة بن لادن، ثمّ الزرقاوي في العراق، فـ"النصرة" في سوريا، وصولاً إلى "داعش" شرقاً وغرباً. مثال الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان، في ضخّ أسلحة وذخائر بملايين الدولارات إلى اليونان لوأد الانتفاضات الشعبية هناك، كان يوازي هزيمة الوكالة في خليج الخنازير ضدّ كوبا وفديل كاسترو. وتبقى "إيران ـ غيت" نموذجاً فريداً على إمكانية التعاون بين واشنطن و"خصم" مثل إيران، ظلّ يبدو لدوداً حتى أُميط اللثام وافتُضحت قبائح الصفقة.
ويبقى أنّ الأساس الأكبر، ليس خلف تعثر برنامج التسليح والتدريب وحده، بل بصدد السياسة الامريكية تجاه الانتفاضة الشعبية السورية عموماً؛ هو أنّ واشنطن، وكيفما تقلبت تقديراتها أو تبدلت، لم تستقرّ في أيّ يوم على خيار تغيير النظام، أو اعتناق مبدأ إسقاطه، أياً كانت الوسيلة. ذلك لأنّ الاستقرار على توجّه مثل هذا كان سيُلزمها بالمشاركة المباشرة في صناعته، عبر سلسلة عمليات سياسية واقتصادية وعسكرية ودبلوماسية واستخباراتية. وتلك "سلّة" إجراءات يندر أن تلجأ إليها أية إدارة أمريكية في عوالم ما بعد الحرب الباردة، فكيف بإدارة تعلن "عقيدة أوباما" ناظماً لسلوكها الدولي. كذلك، وعلى صعيد آخر أقلّ أهمية، توجّب أن تعثر الإدارة على حلفاء داخل المعارضة السورية الرسمية، يمكن الاعتماد عليهم فعلياً؛ ليسوا من صنف المعارضة العراقية التي اكتوت إدارات سابقة بنيرانها، ولكن ليسوا أيضاً مجموعة "مزارعين وأطباء أسنان لم يسبق أن حاربوا"، كما صنّفهم أوباما!
والحال أنّ الميزان العسكري الراهن، في ضوء التدخل الروسي الواسع، وتدخلات الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي "حزب الله" والميليشيات المذهبية، وما تبقى من جيش النظام؛ في مقابل مشاركة الولايات المتحدة في معركة مدينة الرقة، واقتصار البنتاغون والمخابرات المركزية على مساندة وتسليح "قوات سوريا الديمقراطية"؛ وكذلك، سياسياً ولكن عسكرياً أيضاً، هوس الغرب بمفهوم أقرب إلى شعار "داعش أولاً"؛ فضلاً، بالطبع، عن تناطح الفصائل العسكرية "المعتدلة" بين بعضها البعض، أو شللها إزاء تناحر الجهاديين الإسلاميين، "النصرة" و"أحرار الشام" بصفة خاصة... كلّ هذه العناصر، وسواها، تحيل برامج تسليح وتدريب "المعتدلين" إلى رفوف الغبار وأدراج الصدأ.
وحَسُنتْ مستقراً، أغلب الظنّ!
3/8/2017