وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 4 سبتمبر 2017

مسرح ونوس: بواكير ما قبل السياسة


في كتابه "نظريات عالمية عن المسرح"، الصادر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات Routledge، يغادر الناقد الأمريكي غلين أودوم النطاق الغربي المعتاد، ليتلمس مفاهيم المسرح في أرجاء العالم الأخرى، وفي القارات خارج أوروبا وأمريكا الشمالية. وهو يوزّع الحصيلة هذه على ثلاثة أجزاء: مسائل نظرية (علم الجمال، المسرح والسياسة، التحرر من الاستعمار والهجنة وما بعد الاستعمار والتلاقح الثقافي والعولمة، الهوية/ الممثل، الحداثة والمسرح، التنظير للجندر في المسرح العالمي)؛ فالجزء الثاني، الذي يتناول التاريخ الثقافي والأدبي (أمريكا اللاتينية، أفريقيا الصحراوية، شمال أفريقيا والشرق الأوسط، أستراليا ونيوزيلندا، شرق آسيا، والهند)؛ ثمّ الجزء الثالث، ويبحث في العلاقات بين النظرية والتطبيق. وهو، في هذا المسعى، يعيد اقتباس نصوص لـ17 كاتباً مسرحياً، بينهم الكاريبي ديريك ولكوت والنيجيري وولي سوينكا والصيني جاو كسنغجيان، حملة نوبل للآداب؛ فضلاً عن مقتطفات من نصّ سعد الله ونوس "بيانات لمسرح عربي جديد"، الذي كان قد صدر سنة 1988، في بيروت، عن دار "الفكر الجديد".
مساهمة ونوس (1941 ـ 1997) أدرجها أودوم في قسم المسرح والسياسة، بالطبع، لأنّ النصّ انتمى إلى حقبة شهدت إيمان الراحل بالرسالة السياسية المباشرة التي يتوجب أن يحملها المسرح؛ وهذا يقين سوف يتطوّر، ويتبدّل جذرياً في الواقع، حين أدرك ونوس أنّ وظائف الخشبة، أسوة بالنصّ المسرحي، تستوجب التوجّه أكثر إلى "حركة تنويرية عامة"، بحيث تخدم "وسيلة معرفية" و"وسيلة جمالية"؛ كما جاء في حوار مع نبيل الحفار، سنة 1986. لكنّ الفقرات التي يختارها أودوم تظلّ ثمينة، وبالغة الأهمية، سواء في إغناء التنظيرات غير الغربية لعلاقة المسرح بالسياسة، أو لاستكمال مشهد أكثر تكاملاً بصدد تحولات ونوس الفكرية.
وهذا الكتاب مناسبة جديدة لكي أعيد التشديد على قناعة شخصية، مفادها أنّ ونوس خضع لإجحاف نقدي ــ فادح، كما يتوجب أن أقول! ــ بصدد بواكير أعماله المسرحية؛ التي اعتمدت جملة خيارات أسلوبية طليعية، بل رائدة: اتكاء اللغة المسرحية على «حرية روائية» في السرد، ليست شائعة كثيراً في مسرح تلك الأيام؛ واستخدام الجوقة لإضاءة الجوانب النفسية والفلسفية والاجتماعية ـ السياسية التي يندر أن يفلح الحوار المسرحي التقليدي في إشباعها.
ففي أواسط الستينيات، قبل عمله الأشهر "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، الذي كتبه على امتداد سنتَي 1967 ـ 1968 وعُرض للمرّة الأولى في دمشق سنة 1970؛ وقبل مسرحيته الأولى "ميدوزا تحدّق في الحياة"، 1963؛ كان ونوس قد نشر سلسلة مسرحيات قصيرة في مجلة "المعرفة" السورية، هي "مأساة بائع الدبس الفقير"، و"الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا" (وحملت المسرحيتان عنواناً موحداً هو "حكايا جوقة التماثيل")، ثمّ "جثة على الرصيف"، و"الجراد". كانت هذه هي أولى أعماله المسرحية، وظهرت فيما بعد في كتاب تحت عنوان "مأساة بائع الدبس الفقير ومسرحيات أولى".
وفي تلك البواكير الثمينة، أبدى ونوس حرصاً بالغاً على إضاءة الدواخل النفسية للشخصية، أكثر بكثير من ملامحها الخارجية؛ التي ترسمها عادة تقنيات مسرحية راسخة مثل الحوار، والتعبير بالجسد، والديكورات الخاصة، والمؤثرات الصوتية، واستخدام الإضاءة لتسليط بقعة ضوء على الشخصية بغرض عزلها أو ضمّها إلى الحركة العامة على الخشبة. ومن المدهش أن هذه المسرحيات الأولى حظيت بالنزر اليسير من الاهتمام النقدي، رغم أنها تتصف بأهمية فكرية وتقنية خاصة في المسار التكويني المتدرج لمشروع ونوس. لقد كانت بمثابة أعمال تأسيسية، ومحورية، للمختبرات المتعددة التي سيشهدها مسرح ونوس فيما بعد؛ وبمثابة هوية أسلوبية مبكرة سوف تلازمه على الدوام، متجلية على نحو صريح تارة، وعلى نحو مستتر طوراً.
وبهذا المعنى فإن تلك النصوص المبكرة تكتسب دلالات نقدية ودراسية لا تقلّ أهمية عن تلك التي اقترنت، وتقترن عادة، بمسرحية مثل «حفلة سمر...»؛ أوبالنقلات الأخرى التي اتخذت شكل محطات أسلوبية أو انعطافات فاصلة في الموضوعات، مثل:
ـ "مغامرة رأس المملوك جابر"، 1971، حين استخدم المادة التاريخية لصناعة حكاية قادرة على إعادة إنتاج الحاضر في شكل إسقاطات سياسية واجتماعية معاصرة؛
ـ و"سهرة مع أبي خليل القباني"، 1973، حين اختار تقنية المسرح داخل المسرح وعالج ألوان "الفرجة" الشعبية ومسرح خيال الظل بمصطلحات التغريب البريختية؛
ـ و"الإغتصاب"، 1990، حين بلغت شحنة الرسالة السياسية في النصّ المسرحي ذروة دراماتيكية جلبت على ونوس تهمة التبشير بالسلام مع إسرائيل؛
ـ و"منمنمات تاريخية"، 1993، حين خضعت صورة المثقف العربي ــ ممثّلاً هنا بالمؤرّخ وعالم الاجتماع ابن خلدون ــ لنقد توبيخي بالغ القسوة؛
ـ وأخيراً "الأيام المخمورة"، 1996، حيث تأخذ المحنة الذاتية (مرض ونوس) شكل يأس داخلي متعاظم، يطمس قدرة الوعي على إدراك وتحليل اليأس الخارجي.
وإذا كان أودوم، في هذا المجلد المكرّس لنظريات المسرح العالمية خارج النطاق الغربي، قد كرّم ونوس، فكان صوته هو الوحيد الناطق باسم مسرح عربي غنيّ وتعددي؛ فإنّ تكريم ونوس الأبكر، ودراسة تلك الخيارات الأسلوبية الطليعية، مهمة ضرورية ملقاة على عاتق النقد المسرحي العربي؛ إذا شئنا أن نستبق أمثال أودوم، في إحقاق حقّ رائد كبير، وتثمين تجربة رفيعة.
13/8/2017