وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 4 سبتمبر 2017

واشنطن والفصائل السورية "المعتدلة": وقف التسليح أم فسخ العقود؟

 
لم يؤكد البيت الأبيض ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، حول إيقاف تسليح بعض "الفصائل المعتدلة" داخل المعارضة المسلحة السورية، وهو البرنامج الذي كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد اتخذه في نيسان (أبريل) 2013، وتمّ تنفيذ بعض مراحله عبر التنسيق مع الأردن وتركيا؛ قبل أن يتراخى تدريجياً، ثمّ يُجمّد عملياً، ويُطوى نهائياً. وإذا كانت الإدارة قد امتنعت عن التعليق على هذا التطوّر، بالنظر إلى أنّ البرنامج اندرج في تصنيف "سرّي"؛ فإنّه تأكد عن طريق غير مباشر: عضو الكونغرس عن الديمقراطيين تولسي غابارد، نصيرة النظام السوري، رحبّت به؛ مقابل استنكار السناتور جون ماكين، وزميله ليندسي غراهام، عن الجمهوريين؛ فضلاً عن انكشافه على الأرض، في سوريا، لدى الفصائل المعنية ذاتها.
وثمة دلالة، ابتداءً، في العودة إلى "فلسفة" هذا القرار، التأسيسية إذا جاز القول، من وجهة نظر البنتاغون والمخابرات المركزية، في ما يخصّ الواقع السوري أولاً؛ قبل مناقشة الحيثيات الأقدم التي اكتنفت قرارات إدرات سابقة بتسليح فصائل عسكرية في أماكن أخرى من العالم. واستناداً إلى معلومات مارك مازيتي، في "نيويورك تايمز"، 14/10/2014، كانت نقاشات حامية قد نشبت داخل إدارة أوباما حول مسألة تسليح المعارضة العسكرية "المعتدلة"؛ بين رافضين للخطوة أو مشككين في جدواها (كانوا أقلية، ولكن كان الرئيس في عدادهم)؛ ومتحمسين لها، دون الارتقاء بها إلى مستوى "ستراتيجية مخرج" تنتهي إلى إسقاط نظام بشار الأسد. ذلك دعا أوباما إلى تكليف المخابرات المركزية بإعداد "مراجعة" لتجارب التسليح السابقة، في جغرافيات أخرى، والإجابة على السؤال الحاسم: هل نجحت، إجمالاً؛ وهل ستنجح في سوريا، بصفة خاصة؟
المعطيات اللاحقة، التي جاءت في مقالات أو مؤلفات بعض ممثلي الإدارة يومذاك (هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية، وليون بانيتا وزير الدفاع، ودافيد بترايوس مدير المخابرات المركزية، مثلاً)؛ أكدت أنّ "المراجعة" خدمت المشككين. ومع ذلك فإنّ المشكك الأبرز، أوباما نفسه، أعطى الإذن ببدء برنامج تسليح عبر قاعدة عسكرية في الأردن، وبرنامج ثانٍ في المملكة العربية السعودية لتدريب 5000 مسلّح سنوياً على قتال "داعش". ورغم أنّ "فلسفة" التسليح كانت تنطلق من تمكين الفصائل "المعتدلة" من قتال النظام السوري، إلا أنّ نقلة كبرى طرأت على هذا التوجه، إذْ انقلب نحو توجيه تلك الفصائل إلى قتال "داعش" فقط.
وليست خافية تلك الوقائع اللاحقة ــ العجيبة، المتناقضة، السوريالية أو تكاد! ــ التي جعلت بعض الفصائل تحجم عن قتال "داعش"، ليس لأنها لا تبغض التنظيم، إذْ كانت بالفعل تعاديه وتناهضه؛ بل لأنّ خيارها الأول هو قتال النظام، خاصة في المواقع التي كانت تتطلب الدفاع عن نقاط ارتكاز هامة أو ستراتيجية. كذلك كان تخبط الترتيبات الأمريكية، وتباينها إلى درجة التعارض أحياناً، قد أسفر عن مواجهات مسلحة بين فصائل "معتدلة" يدعمها البنتاغون ("قوات سوريا الديمقراطية")، وأخرى تدعمها المخابرات المركزية (كتيبة "فرسان الحق"). تلك المشاهد كانت مظهر السطح فقط، لإنّ الأعماق كانت تحتوي مشكلات أكثر تعقيداً من مجرّد السجال حول تنفيذ برامج التسليح والتدريب أو إيقافها؛ وكانت تتصل بعجز الأجهزة السياسية للمعارضة السورية، خاصة حين تبدأ عناصر الخلل من خيارات أمريكية في ذاتها (مثل رغبة هيلاري كلنتون في تجاوز صيغة "المجلس الوطني" إلى صيغة "الائتلاف الوطني")، ثمّ تتمدد إلى تشتت ولاءات أطراف المعارضة بين قوّة إقليمية وأخرى، ولا تنتهي بالطبع عند المعضلات الذاتية للقوى والأطراف المهيمنة على تلك الأجهزة.
وهكذا، على نحو متعاقب أقرب إلى سيرورة تطور منطقية، بدا وكأنّ تجميد التسليح أو التدريب، بعد منحه بالقطارة كما يُقال، قد انقلب إلى ما يشبه فسخ العقد الأمريكي مع الفصائل العسكرية "المعتدلة"؛ خاصة حين اهترأت تدريجياً "عقيدة أوباما" في عدم التدخل المباشر، مع تشكيل التحالف الدولي ضدّ "داعش"، ثمّ انزلاق واشنطن إلى شكل بعد آخر من التدخل العسكري المباشر في سوريا. وكان طبيعياً، استطراداً، أن يُدرج البرنامج في إطار الخيارات اللاحقة لإدارة أوباما، في المنطقة عموماً (إيران، تركيا، أفغانستان...)، وفي العراق وسوريا بصفة خاصة.
ومع تحوّل نظرية "الخطّ الأحمر"، بصدد استخدام الأسلحة الكيميائية من جانب النظام، إلى خطّ مجازي وشبه وهمي؛ ثمّ انتقال المساندة الروسية للنظام إلى انحياز عسكري شامل، واسع النطاق وأشبه بالانتداب؛ توجب على إدارة أوباما أن تعود إلى إعلاء كلمة المشككين في البرنامج، وطيّه مؤقتاً، تمهيداً لساعة مواتية تعلن دفنه نهائياً. وهنا، للإنصاف فقط، يصحّ القول إنّ إدارة دونالد ترامب لم تفعل ما يزيد على دقّ مسمار أخير في نعش هذا البرنامج، فهي لم تكن مهندسة إطلاقه، وبالتالي ليست أوّل حفّاري قبره.
وأمّا ما يخصّ التاريخ الأبعد لهذا البرنامج، فإنّ الحصيلة ليست هزيلة وفقيرة ومحدودة الإنجاز، فحسب؛ بل هي فاشلة غالباً، وكارثية أحياناً، حتى في أكثر أمثلتها إيحاءً بالنجاح. ولعلّ "الصناعة الجهادية" في أفغانستان، التي بدا أنها تكللت بالنجاح حين أجبرت الاتحاد السوفييتي على مغادرة البلد، هي المثال الساطع على "نجاح" انتهى إلى كارثة؛ لأنه جلب منظمة "القاعدة" وأسامة بن لادن، ثمّ الزرقاوي في العراق، فـ"النصرة" في سوريا، وصولاً إلى "داعش" شرقاً وغرباً. مثال الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان، في ضخّ أسلحة وذخائر بملايين الدولارات إلى اليونان لوأد الانتفاضات الشعبية هناك، كان يوازي هزيمة الوكالة في خليج الخنازير ضدّ كوبا وفديل كاسترو. وتبقى "إيران ـ غيت" نموذجاً فريداً على إمكانية التعاون بين واشنطن و"خصم" مثل إيران، ظلّ يبدو لدوداً حتى أُميط اللثام وافتُضحت قبائح الصفقة.
ويبقى أنّ الأساس الأكبر، ليس خلف تعثر برنامج التسليح والتدريب وحده، بل بصدد السياسة الامريكية تجاه الانتفاضة الشعبية السورية عموماً؛ هو أنّ واشنطن، وكيفما تقلبت تقديراتها أو تبدلت، لم تستقرّ في أيّ يوم على خيار تغيير النظام، أو اعتناق مبدأ إسقاطه، أياً كانت الوسيلة. ذلك لأنّ الاستقرار على توجّه مثل هذا كان سيُلزمها بالمشاركة المباشرة في صناعته، عبر سلسلة عمليات سياسية واقتصادية وعسكرية ودبلوماسية واستخباراتية. وتلك "سلّة" إجراءات يندر أن تلجأ إليها أية إدارة أمريكية في عوالم ما بعد الحرب الباردة، فكيف بإدارة تعلن "عقيدة أوباما" ناظماً لسلوكها الدولي. كذلك، وعلى صعيد آخر أقلّ أهمية، توجّب أن تعثر الإدارة على حلفاء داخل المعارضة السورية الرسمية، يمكن الاعتماد عليهم فعلياً؛ ليسوا من صنف المعارضة العراقية التي اكتوت إدارات سابقة بنيرانها، ولكن ليسوا أيضاً مجموعة "مزارعين وأطباء أسنان لم يسبق أن حاربوا"، كما صنّفهم أوباما!
والحال أنّ الميزان العسكري الراهن، في ضوء التدخل الروسي الواسع، وتدخلات الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي "حزب الله" والميليشيات المذهبية، وما تبقى من جيش النظام؛ في مقابل مشاركة الولايات المتحدة في معركة مدينة الرقة، واقتصار البنتاغون والمخابرات المركزية على مساندة وتسليح "قوات سوريا الديمقراطية"؛ وكذلك، سياسياً ولكن عسكرياً أيضاً، هوس الغرب بمفهوم أقرب إلى شعار "داعش أولاً"؛ فضلاً، بالطبع، عن تناطح الفصائل العسكرية "المعتدلة" بين بعضها البعض، أو شللها إزاء تناحر الجهاديين الإسلاميين، "النصرة" و"أحرار الشام" بصفة خاصة... كلّ هذه العناصر، وسواها، تحيل برامج تسليح وتدريب "المعتدلين" إلى رفوف الغبار وأدراج الصدأ.
وحَسُنتْ مستقراً، أغلب الظنّ!
3/8/2017