وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 27 نوفمبر 2011

لؤلؤ الشام وعظام الأباطرة

في "أبرياء على سفر"، 1869، يكتب الروائي الأمريكي مارك توين عن العاصمة السورية: "تاريخ دمشق يعود إلى ما قبل إبراهيم، وهي المدينة الأقدم في العالم. أسسها عوص، حفيد نوح. تاريخها الباكر غارق في ضباب العصور القديمة التي شابت. دعْ جانباً الأمور المكتوبة في الفصول الأحد عشر الأولى من العهد القديم، ولن تجد واقعة مسجلة جرت في العالم إلا وبلغ دمشق خبرُها. عُدْ بالذاكرة إلى الماضي الغامض أنى استطعتَ، وستجد دمشق حاضرة على الدوام. وفي كتابات كلّ قرن، طيلة أكثر من أربعة آلاف سنة، تردد اسمها وصدحت له الأغاني. السنون في ناظر دمشق محض هنيهات، والعقود مجرّد لمحات زمن متطايرة. إنها لا تقيس الزمن بالأيام والشهور والسنين، بل بالإمبراطوريات التي شهدتها تقوم، وتزدهر، وتندثر إلى خرائب".

في الفقرة ذاتها يتابع توين، الذي زار فلسطين وسورية خلال مطلع ستينيات القرن التاسع عشر، أنّ دمشق: "ضرب من الخلود. شهدت إرساء مداميك بعلبك، وطيبة، وإفسوس؛ وأبصرت هذه القرى تتطوّر إلى مدن جبارة، تدهش العالم بعظمتها ـ وعاشت دمشق لتراها بائدة، مهجورة، متروكة للبوم والوطواط. شهدت الإمبراطورية الإسرائيلية في أوج غطرستها، كما شهدتها تُباد. شهدت بلاد الإغريق تقوم، وتزدهر طيلة ألفَيْ سنة، ثمّ تموت. وفي كهولتها أبصرت روما تُشيّد، وتهيمن على العالم بجبروتها، قبل أن تراها تفنى. لقد عاشت دمشق كلّ ما حدث على الأرض، وما تزال تحيا. لقد أطلّت على العظام النخرة لآلاف الإمبراطوريات، وستطلّ على قبور آلاف أخرى توشك على الموت. ورغم أنّ سواها يزعم حيازة اللقب، فإنّ دمشق تظلّ، بحقّ، هي المدينة الخالدة".

لا تنوء هذه السطور، إسوة بغالبية الفقرات التي تخصّ دمشق، تحت أثقال الروح الاستشراقية التي تعاني منها فقرات أخرى من كتاب توين، وتلك التي تتحدث عن فلسطين والأراضي المقدّسة بصفة خاصة؛ بل يلوح أنّ الكاتب، الساخر عموماً، يسير جادّاً متهيباً، على كتفيه أحمال التاريخ، القديم والوسيط والمعاصر، بل تاريخ الإنسانية جمعاء في المحصلة. وإذْ يعيد المرء قراءة تلك الفقرات، ولا سيما المشهد الفريد الذي يضع المدينة في موقع أزلي إزاء امبراطوريات شتى سادت ثمّ بادت؛ فإنّ حاضر المدينة الراهن، بوصفها عاصمة سورية التي تخوض انتفاضة شعبية عارمة، لا يرتدّ بها إلى ذلك الموقع مجدداً، فحسب، بل يعيد إنتاج سلطة دمشق التاريخية في وجه سلطات الاستبداد والفساد والحكم العائلي والعصابات والشبيحة... هذه التي أين منها، على همجيتها، ما تمتعت به إمبراطوريات سالفة من سلطان ونفوذ وسؤدد.

ليس غريباً، في ضوء هذه المعادلة الدمشقية التي تردّ التاريخ الغابر إلى التاريخ المعاصر، أن يحرص النظام على تكرار أكذوبة "صمت" دمشق، وعدم انخراطها في الانتفاضة، ممّا يفيد استطراداً أنها إمّا في صفّ النظام، أو ليست ضدّه تماماً. كأنّ أولى الاعتصامات لم تبدأ في دمشق، حين أشعل النشطاء شموع التضامن مع انتفاضات تونس ومصر وليبيا، وكانوا بذلك يطلقون شرارة الانتفاضة الأبكر؛ أو كأنّ أولى التظاهرات لم تبدأ من سوق الحريقة، في قلب دمشق التجارية، قبل أن تتواصل من الجامع الأموي وسوق الحميدية؛ أو كأنّ أحياء القدم، وكفر سوسة، وبرزة، وجوبر، والحجر الأسود وحرستا، فكيف بأحياء عريقة مثل الميدان وركن الدين والشعلان وعرنوس والمزرعة وساحة النجمة... ليست جغرافية دمشقية!                  

كذلك فإنّ دمشق تمتلك سلسلة أسباب خاصة بها، غير تلك التي تُجمع عليها مختلف المناطق السورية الثائرة، تضعها في قلب الحراك الشعبي، ولعلّها لم تعد تترك أيّ خيار لشرائح من سكانها لاح، خلال أطوار سابقة من عمر نظام "الحركة التصحيحية"، أنها متحالفة مع النظام أو متواطئة لأنها مستفيدة من بعض سياساته، الاقتصادية ـ التجارية بصفة خاصة. ذلك لأنّ أنساق النهب الشمولي، الذي انفلت من كلّ عقال قانوني أو أخلاقي عندما حوّل سورية إلى مزرعة للمافيات الحاكمة، كان محتماً لها أن تنحطّ إلى هذا الدرك الهمجي: تخريب دمشق العتيقة، وهدم أسواقها العريقة، وطمس مجلدات بأسرها من تاريخها القديم، بغية إقامة منشآت سياحية ومجمّعات تجارية، وتخديمها بكلّ ما يتيح اصطياد السائح وإجباره على الإنفاق، دون أي اكتراث بالعواقب العديدة البشرية والتاريخية والآثارية والمعمارية، فضلاً عن تلك الإنسانية والاقتصادية والثقافية التي ستخلّفها هذه الجرائم الصريحة المعلنة. لم يعد يشبعهم أنهم نهبوا في قطاع الاتصالات والهاتف الجوّال والأسواق الحرّة وصناعة الإسمنت والمصارف، وما خفي من أشغال حرام هنا وهناك؛ فكان لا بدّ لهم أن يخرّبوا لكي يشتغلوا بإعمار ما خرّبوا، مع فارق أنهم كانوا يهدمون ما لا يجوز تهديمه، ويقوّضون ما ينقلب المساس به إلى جريمة كبرى بحقّ الإنسان والتاريخ في آن معاً.

"رغم عمرك الذي من عمر التاريخ ذاته، فإنك نضرة مثل نَفَس ربيع، متفتحة مثل براعم وردك الجوري، عابقة مثل زهرة برتقالك؛ أواه يا دمشق، يا لؤلؤة الشرق!"، تابع توين في مديح المدينة الخالدة. فأي علامة في وسع طاغية صغير أن يحفرها على أسوارها العتيقة، سوى أنه ساد هنا هنيهة، فاستبدّ ونهب وتجبّر، ثم اندحر وباد واندثر؟  

الخميس، 24 نوفمبر 2011

وعيد الحرب الأهلية في سورية: زلزال.. في فنجان!

رغم أنهم ما يزالون أقلية بالمعنى النسبي، يلحّ عدد من مراقبي الانتفاضة السورية على أنّ البلد يتجه إلى "حرب طائفية"، لا يتردد بعضهم في استخدام التسمية الأخرى القصوى عند توصيفها: "حرب أهلية"، ليس أقلّ. ويندر، خاصة في صفوف المعلّقين السوريين والعرب، على نقيض من زملائهم الأجانب، أن يقطع الرأي الخطوة التالية الحاسمة، فيتمّ الإفصاح عن فرقاء هذه الحرب الآتية، وأين ستدور، وما هي توازناتها الراهنة المرئية أو القادمة المجهولة، ولصالح مَنْ سوف تنتهي (بعد تجاوز الخلاصة المعروفة: أنها مكروهة في كلّ حال ومآل): الشعب المصرّ على التغيير والمستقبل الأفضل، بوسائل سلمية حتى الساعة، أو محدودة إذا تعكسرت جزئياً؛ أم النظام المتشبث بالسلطة حتى آخر خطوط الدفاع، الأمنية والعسكرية، التي تزداد عنفاً وهمجية كلّ يوم؟

هذا المسكوت عنه، إذْ يجوز اعتباره هكذا في واقع الأمر، يخفي طرازاً من الحرج في استخدام الاسم المناسب للمسميات الفعلية، كأن يُقال إنّ تلك الحرب الأهلية قد تدور بين "دين" وآخر (إسلام مقابل مسيحية)، أو "طائفة" في وجه أخرى (السنّة مقابل العلويين، في المقام الأوّل). وحصر مفردتَيْ "دين" و"طائفة" بين أهلّة مردّه أنّ مثل هذه المصطلحات ذات طبائع دلالية عالية الإشكال ودائبة التبدّل، وليس من الحكمة اعتمادها كمسلمات لمعانٍ متفق عليها، في العموم؛ فكيف إذا كانت روافع تحليل لمسائل بالغة التعقيد، مثل الحروب الأهلية والطائفية. فلا الدين معطى لا خلاف على مضامينه، خاصة عندما يتصل الأمر بفرقاء يخوضون مواجهات مسلحة قد تبلغ حافة الحرب الشاملة المفتوحة؛ ولا الطائفة كذلك، بل هي موضع خلاف أكثر استدعاءً للتفريق والتمييز.

كذلك يشير المسكوت عنه إلى طراز ثانٍ من الحرج، يرتدي هذه المرّة صفة الافتقار إلى توفير عناصر ذلك الاحتراب الطائفي، أو الأهلي، كما سوف تتبدى (وينبغي لها أن تتبدى، منطقياً) خارج النطاق الوحيد المتوفر الآن، أي انتفاضة الشعب السوري ضدّ نظام الاستبداد والفساد العائلي الوراثي الذي يحكم منذ 41 سنة. في صياغة أخرى: هل ستنخرط الأديان أو الطوائف في احتراب داخلي، ضمن صفّين لا ثالث لهما: واحد يناهض النظام، وثانٍ يدافع عنه؟ أم أنها ستتقاتل على هذَين الخطّين، أوّلاً؛ ثم ستنخرط في صراع على الفروقات ما فوق الدنيوية، الفقهية واللاهوتية والمذهبية، بين دين ودين، وطائفة وطائفة؟ وإذا جاز هذا التوسيع لمضامين الاحتراب، فهل يجوز زجّ الناس هكذا في صفّين، أو بالأحرى قالبَيْن، لم يعد فيهما مكان لمطالب الشعب الواحد، في الحرية والديمقراطية والتعددية والعدالة والكرامة ودولة القانون...؟

هذا هو السبب الأوّل في أنّ ذلك الاحتراب، أياً كانت تسمياته الأخرى، ليس مآلاً محتوماً في الطور الراهن من مسار الانتفاضة السورية؛ وهو بالتالي لن يقع إلا في مساحات اشتغال الخطاب الترهيبي الذي يعتمده النظام بهدف كسر روح المقاومة، وردع المواطنين، ودفع "الأغلبية الصامتة" إلى الإمعان أكثر في انعزالها. سبب آخر، هنا، هو أنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس محلّ اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو غاية تستقطب الاتفاق التامّ، وكانت هذه حالهم في الماضي، منذ فجر الاستقلال، كما هي حالهم اليوم أيضاً. وفي المقابل، ليس للنظام طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت رؤوسه قد انخرطت في تجييش محموم لطائفة بعينها، وتقصدت الإيحاء بتمثيل تلك الطائفة، وتعهّد مصيرها؛ وليس له دين أيضاً، مهما أتقن ألعاب التمسّح بالأديان أو التزلف للمتدينين. ولهذا لن يدافع أنصار النظام عن بقائه لأسباب دينية أو طائفية، بصرف النظر عن توفّر هذا المقدار أو ذاك من الولاء العصبوي، بل ستحرّكهم أسباب أخرى أدنى إلى الأرض منها إلى السماء، على رأسها مصالح النهب والفساد، واتقاء الحساب العسير ساعة تنقلب سورية من مزرعة إلى دولة حقّ وقانون.

هذا يفضي إلى السبب الرابع الذي يجعل احتمال الحرب الأهلية أو الطائفية غير وارد اليوم، نتيجة الانتفاضة الشعبية أو بوحي من تطوراتها، أي سؤال الفرقاء، الذي يتمّ غالباً تفادي مناقشته على نحو ملموس. فإذا صحّ أنّ أديان المجتمع السوري وطوائفه لن تقتتل فيما بينها، دفاعاً عن نظام الاستبداد والفساد والنهب والحكم العائلي، وخاصة بعد سلسلة جرائمه بحقّ الشعب والوطن؛ فما الذي سيجعلها تقتتل اليوم، إذاً، ما دامت لم تنجرف إلى حافة مماثلة طيلة تاريخ سورية، القديم والوسيط والحديث والمعاصر؟ وإذا كان الانتداب الفرنسي قد فشل في إقامة دويلات سورية، مناطقية أو طائفية، وتمكّن السوريون من خوض حرب الاستقلال بقائد درزي، ونائب له علوي، ونائب ثاٍن كردي... فكيف لا يكون مصير مشروع التفتيت الذي ينخرط فيه نظام العصابات والميليشيات والشبيحة، على شاكلة المشروع الذي دبّرته إدارة استعمارية، بل أسوأ؟ وأخيراً، إذا كان السوريون المسلمون لم ينخرطوا، البتة، في أي شكل من أشكال المواجهة المسلحة مع السوريين المسلمين؛ وكذلك لم يفعل السوريون السنّة مع السوريين العلويين، فلماذا يتوجب أن يهرعوا الآن إلى الاحتراب الداخلي... الآن بالذات، حينما يصبح قطاف تضحيات بناتهم وأبنائهم، نسائهم وشيوخهم وأطفالهم، دانياً وشيكاً؟

سبب خامس هو الجغرافيا السورية، إذْ أين ستدور تلك الحرب على الأرض؟ بين أية منطقة ومنطقة؟ وهل ستسمح المعطيات الديمغرافية بوقوعها في أية بقعة، لا على التعيين؟ بل هل سيسمح الاختلاط السكاني المركب لأبناء سورية، وفسيفساء توزّعهم الإثني أو الديني أو الطائفي، بتعيين بقعة واحدة يمكن للنظام أن يدير عليها جولات توتير عسكري بين عناصر تلك الفسيفساء؟ واستطراداً، هل ستدور تلك الجولات، أو تُدار، على ركائز انفرادية أم ائتلافية، بمعنى أنّ طائفة واحدة سوف تخوضها ضدّ طوائف أخرى، أم ستتحالف مع سواها؟ ولماذا، ما دمنا في الافتراض المكروه ذاته، سوف يصمد ذلك التحالف إذا كان مجبراً على الانخراط في واحد من أقصَيَْن: مع الشعب، من أجل سورية حرّة كريمة أفضل؛ أو مع النظام، من أجل بقاء الاستبداد والفساد والنهب والحكم العائلي؟

هذه أسئلة جارحة بالطبع، ومثار حرج وتهيّب وتطيّر. بيد أنها ذات طبيعة لازمة تماماً عند نقاش احتمالات حرب اهلية او طائفية في سورية، ولا يكفي إغماض العين عنها والانتقال إلى ترجيح احتمال دون آخر، وكأنّ الاجتماع السوري يكفي بذاته، ولا حاجة إلى الجغرافيا. المراقب الغربي يستهوي لعبة الاختزال هذه، فيقفز مباشرة إلى إحصائيات ديمغرافية صرفة حول نسبة هذه الطائفة أو تلك بالمقارنة مع المجموع السكاني، ثمّ يتخيّل نشوب الصراع بين تلك النِسَب، على النحو الأكثر اعتباطاً، ودونما تمحيص في تمثيلاتها على الأرض، أو تدقيق مفاعيلها الجيو ـ ديمغرافية. لكنّ هذه الرياضة، القاصرة والاستشراقية بامتياز، تصبح فضيحة مدوية عندما يتعلّق بأذيالها مراقب سوري، أو حتى عربي، فينسخها صورة طبق الأصل، ويزجّ برأسه في الرمال، حيث سيناريوهات الحروب الأهلية والطائفية دفينة هناك، في الباطن!

سبب سادس يخصّ توازنات تلك السيناريوهات، من الجوانب العسكرية واللوجستية الصرفة، إذْ كيف سيكون موقف الجيش السوري، وأين سقف، إذا وقع احتراب بين أبناء الوطن الواحد؟ فهذا الجيش، تماماً على شاكلة الأديان والطوائف، ليس كتلة بازلتية صماء، متماسكة في المطلق حول معتقد مشترك، بحيث يسهل زجّه في جولات الاقتتال وكأنه مجرد قطعة على رقعة شطرنج. هنالك، داخل هذا الجيش كما داخل الأديان والطوائف، مصالح سياسية واجتماعية واقتصادية، وتباينات مناطقية وثقافية، بل إثنية أحياناً، تكسر أسطورة حجر البازلت ذاك، وتجعل انخراط الجيش أمراً محتوماً، على صعيد الافراد بادىء ذي بدء، ثمّ على صعيد تشكيلات عسكرية يمكن أن تتوسل غاية توحّد أفرادها. ولهذا يندر أن تجد، في صفوف عرّافي الحرب الأهلية أو الطائفية في سورية، مَنْ يخوض في تفصيل دينامية انخراط الجيش في الصراع؛ والشائع هو تهويل الأخطار وتضخيم العواقب، وهذه كلها واردة بالطبع، ولكن دون رفد التهويل بالوقوف على الحقائق الملموسة.

ويبقى، بالطبع، ذلك السبب السابع الذي يتكيء على اعتبار شائع مسكوت عنه أكثر من سواه، أي الافتراض القائل بأنّ أبناء الطائفة العلوية سوف يسارعون إلى الوقوف خلف النظام، صفاً واحداً متجانساً متماسكاً متماثلاً، إذا اندلعت مواجهات طائفية. وهذا افتراض سطحي تماماً، خامل وبليد، فضلاً عن كونه بالغ الخبث ومسبَق الظنّ بطائفة لم تكن في أيّ يوم أقلّ إسهاماً في معارك سورية الوطنية والسياسية والطبقية. ولا أجدني أتردد في تكرار يقيني بأنه ليس، البتة، منتَظراً من الغالبية الساحقة للسوريين من أبناء الطائفة العلوية أن يخونوا تراث الشيخ صالح العلي، نائب سلطان باشا الاطرش، قائد ثورة الاستقلال ضدّ الانتداب الفرنسي؛ أو أن يُساقوا، رغم كلّ هواجسهم المشروعة، أو تلك التي يغذّيها الرهاب الصرف، إلى حيث تسعى السلطة في ربط مصيرهم بمصير النظام. ليس هذا من باب التمنّي الصرف، كما يمكن أن يلوح عادة؛ أو إغماض العين عن حقائق الجهود المضنية التي بُذلت، وتُبذل على الدوام، من أجل تجنيد شرائح واسعة من أبناء الطائفة العلوية؛ بل هو يقين تسنده سلسلة معطيات فرضها ماضي الطائفة وحاضرها، وحقيقة أنها ليست أداة صمّاء بكماء عمياء يُلقي بها النظام أينما شاء، وكيفما أراد.

وغني عن القول، كما يتوجب التشديد هنا أيضاً، أنّ الطائفة العلوية مجتمع وطبقات وفئات ومصالح وتناقضات، إسوة بغيرها؛ وثمة، في الضيعة الواحدة إياها، فقراء يسكنون بيوتاً ما تزال سقوفها من طين، تتجاور مع قصور خرافية التصميم فاحشة الفخامة، شيّدها كبار الضباط الفاسدين. وثمة، يقتضي التذكير دائماً، مناضلون معارضون للنظام، سبق لهم أن قضوا في السجون عقوداً، وتلقوا عقاباً مضاعفاً عن سواهم من المعارضين أبناء الطوائف الأخرى، لأنهم في تقدير مهندسي التجييش الطائفي شقوا عصا الطاعة، وشاغبوا على "وحدة" الطائفة. وهنالك، بالطبع، أولئك الذين يخدمون النظام من منطلق تأمين لقمة العيش البسيط، تماماً كحال الآلاف في كلّ أرجاء سورية، من كلّ الطوائف، في المؤسسة العسكرية أو الأمنية، أو في مختلف قطاعات الدولة.

وثمة، أغلب الظنّ، أسباب أخرى تجعل تحذير السوريين من احتمالات الحرب الأهلية أو الطائفية محض ترهيب مكشوف، من النوع الذي اعتاد بشار الأسد التهديد به في أحاديثه الصحفية الأخيرة. هو، مع ذلك، وعيد بزلزال، لكنه في فنجان!

الأحد، 20 نوفمبر 2011

حمص القلعة: طائفية أم طروادية؟

تقول النكتة إنّ مواطناً حمصياً استفاق، في عهد الانتفاضة، فلم يسمع أزيز رصاص ودويّ قذائف وصرير مجنزرات، فظنّ أنه استفاق... في هضبة الجولان المحتلة؛ نكتة أخرى تقتبس نداء صادراً عن أحد مواطني حمص، يقول: 'إللي صافف دبابته في نصف الشارع يجي يشيلها، بدنا نمرّ"؛ والنكتة الثالثة تروي أنّ حاجزاً أمنياً استوقف حمصياً وسأله إنْ كان قد شارك في مظاهرة، فأنكر، فطالبه عنصر الأمن أن ينطق بأي عبارة لكي يتأكد من أن صوته لم يُبحّ من الهتاف، فردّد الحمصي: يا درعا حنّا معاكي للموت! وتبقى، بالطبع، تلك "النهفة" الحمصية بامتياز: "مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات: بسبب تكاثر الدبابات في شوارع سورية بشكل عام وحمص بشكل خاص، افتتحنا بعون الله المركز المدني الأول في العالم لصيانة الدبابات. يقوم المركز بكافة أشكال الصيانة من الغسل والتشحيم الى غيار الزيت. خدمتكم تسرّنا"!

ليس الأمر مصادفة، بالتأكيد، ولا تكفي لتفسيره حقيقة أنّ حمص مهد التنكيت الشعبي في سورية (على غرار ما يفعل كلّ بلد حين يختار منطقة ما، دون سواها، لتكون مادّة مفضّلة في تنميط السخرية)؛ إذْ تنطوي علاقة المدينة بالانتفاضة السورية على معطيات شتى تصنع تلك الخصوصية، وتغذّيها، وتنقلها بالتالي من عوالم النكتة المريرة إلى مستويات الواقع... الأمرّ، غالباً. يكفي، على سبيل الأمثلة، أنّ المدينة تتصدّر سجلّ الشرف في أعداد الشهداء (قرابة 1500 شهيد)؛ وكان الحماصنة في طليعة المتظاهرين الذين بدّلوا شعارات الانتفاضة الأبكر، فانتقلوا إلى الشعار الحاسم المطالب بإسقاط النظام؛ كما كانوا بين أوائل أبناء المحافظات في تغيير اسم أهمّ معالم المدينة، ساحة الساعة، إلى "ساحة الحرّية"؛ وهنا، في حمص، شهدت الانتفاضة أوسع اصطفاف ضدّ النظام من جانب الطبقة الوسطى، وبعض التجار الكبار، وشرائح من المنضوين في "الأغلبية الصامتة" عموماً.

ذلك جعل كتائب الفرقة الرابعة، وعناصر مختلف الأجهزة الأمنية، وقطعان الشبيحة، فضلاً عن أزلام النظام وأعوانه داخل المدينة، تنفّذ سلسلة من العمليات الأشرس ضدّ حمص، والأشدّ وحشية همجية؛ وذلك منذ السادس من أيار (مايو) الماضي، حين استُخدمت صنوف الأسلحة كافة، بما في ذلك الحوّامات والطيران الحربي، وفُرض حصار على أحياء حمص وجوارها، من الرستن إلى تلبيسة إلى تل كلخ، ما يزال مفتوحاً حتى اليوم. وكان طبيعياً أن يقترن هذا كلّه بحملة من طراز آخر، قوامها افتعال بؤر احتكاك طائفي بين أبناء المدينة، شاركت في تنفيذ سيناريوهاتها أجهزة النظام ذاتها، قبل أن تتولى تضخيمها إلى ما يشبه السردية المتكاملة: حمص، "قلعة الثورة السورية" كما في التسمية اللائقة بها تماماً، صارت حاضنة أولى لاحتمالات حرب طائفية!

ومن المحزن، والمفاجىء تماماً، أن يقع في أحابيل تلك السردية بعض مناصري الانتفاضة، ممّن اكتفوا بالحملقة في التفصيل الصغير العابر، فزاغ بصرهم عن المشهد الكبير الأهمّ؛ كما انساق إليها بعض أبناء حمص أنفسهم، وعلى رأسهم برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري. ففي بيان صدر عنه، باسمه وباسم المجلس، طغت اللغة الإنشائية على كلّ فقراته ما عدا تلك التي تُلقي باللائمة على الحماصنة، وتجزم بأنّ "دفاعات" بعضهم قد ضعفت في "مواجهة مخاطر الانقسام والتصادم الطائفي"؛ بحيث: "أصبحنا نشهد منذ أسابيع عمليات خطف واغتيال وتصفية حسابات بين أبناء الشعب الواحد، بل بين أبناء الثورة أنفسهم".

ولأنّ النصّ قوبل بردود فعل رافضة، ومستنكرة، فقد سارع المجلس إلى إصدار بيان ثانٍ عن حمص، أراد فيه أن يكحّل بيان رئيسه، فألحق به العمى عملياً؛ إذْ ليس المطلوب تنزيه المدينة عن كلّ فعل طائفي، كما اعتبر البيان؛ ولا تأثيمها على نحو تهويلي يعيد إنتاج سردية النظام، بحسب بيان غليون. هذه مسألة سياسية بامتياز، قبل أن تكون ظاهرة فوات اجتماعي، ولم يكن من الحكمة أن يتخبط المجلس الوطني بين أقصى التنزيه وأقصى التهويل. لا أحد يدفع إلى التجييش الطائفي مثل النظام، من قمّة مؤسسته الحاكمة الأضيق وحتى أوسع قواعده الموالية؛ ولهذا، لا حرب ناجعة ضدّ الميول الطائفية أكثر من تلك التي تُشنّ ضدّ النظام، أوّلاً وثانياً وعاشراً.

وأهل السنّة، في في التاريخ البسيط كما في علم الاجتماع الأبسط، ليسوا "طائفة" في سورية، لأنهم ببساطة أغلبية الشعب الساحقة، ولا يصحّ توصيف ميول الأغلبية استناداً إلى المعايير ذاتها التي يخضع لها سلوك الأفراد، أو المجموعات المصغّرة. هذا، غنيّ عن القول، لا يلغي مفاعيل انتشار التشدد الطائفي لدى بعض أبناء السنّة، إسوة بشيوع التطرّف أو الاعتدال، العصبوية أو التسامح، التديّن أو العلمانية...

وتبقى حمص عاصمة الانتفاضة السورية، "العدية" كما يصفها أهلها، والقلعة الحصينة التي صمدت طيلة أشهر ضدّ غزاة النظام. ومن المهين لأبنائها، ولسجلّها العريق الذي يغطّي معظم التاريخ السوري القديم والوسيط والحديث والمعاصر، أن تُختزل إلى صورة مصغّرة، تصنعها حوادث طائفية متفرقة، وأن تُطمس صورتها الأخرى الأبهى: أنها طروادية في مقاومة الحصار، بل هي طروادة سورية الراهنة؛ وخارج حصونها الشعبية سوف يندحر أكثر من حصار، وعند أسوارها الوطنية سوف يخرّ أكثر من آخيل!

الخميس، 17 نوفمبر 2011

"الحركة التصحيحية" في الذكرى الـ41.. والأخيرة!

الطفل السوري غياث غياث مطر وُلد يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، في الذكرى الحادية والأربعين لـ"الحركة التصحيحية"، ذلك الانقلاب الذي نفّذه حافظ الأسد على رفاقه في حزب البعث، واستولى بعده على مقاليد السلطة كافة، فأطلق تراثاً في الاستبداد، والنهب والفساد، والتجييش الطائفي، وبناء شبكات الولاء والاستزلام والاستنفاع... سوف يُورّث إلى نجله. غياث مطر، والد الطفل الذي أبصر النور في الذكرى هذه، كان قد استُشهد عن 26 سنة، بعد أن اختطفته مفارز مخابرات القوى الجوية، وأعادته إلى أهله جثة هامدة جرى التمثيل بها، وكانت تحمل آثار تعذيب وحشي، وجروحاً في الصدر والوجه، وشقّاً طولياً في البطن تمّت خياطته (ويوحي باحتمال سرقة أعضاء، وهو تقليد صار مؤكداً بعدئذ، ولوحظ في جثث عدد من الناشطين الذين تمّت تصفيتهم داخل المعتقلات).

غياث الأب ولد و"الحركة التصحيحية" في سنتها الخامسة عشرة، وغياث الابن ولد والذكرى ذاتها سوف تكون الأخيرة، ليس أغلب الظنّ كما يُقال عادة، بل استناداً إلى كلّ وأي اعتبار راهن منظور، أو آتٍ منتظَر، يقرّه المنطق البسيط. وفي ساعة ولادة الطفل، كان النظام قد سفك دماء 21 سورياً، بينهم أطفال بالطبع، إذْ لم يعد يملك من "سياسة" أخرى سوى ممارسة عنف مجاني؛ وهذا بدوره لم يعد يؤدّي أية وظيفة أو يُكسب السلطة أيّ مغنم، بل تجرّد حتى من أبسط معادلات العلاقة بين النفع والضرر. وكان، سياسياً، أقرب إلى كتلة عطالة ضخمة مترنحة، تسير خبط عشواء حتى في ناظر أقرب الحلفاء، فما عاد هؤلاء يفقهون سبيلاً إلى مساندته. أمّا قطعان الشبيحة التي ظلّ يتكيء على تعطشها للدماء، وعلى مزاجها الهمجي الذي دُرّب على أرتكاب الجريمة بوصفها طبيعة ثانية، فإنها صارت أكثر مهارة في استعداء الناس على النظام (كما عند مهاجمة السفارات العربية والأجنبية، وحرق أعلام الأمم)، من قبائحها في كسر معارضاته.

مناسبة ولادة الطفل غياث غياث مطر أطلقت في نفسي مشاعر شتى، اختلط فيها الترحم على الشهيد، بالتفاؤل الإضافي والأمل بأنّ هذه المصادفة ذات المغزى الخاصّ لن تكون محض مصادفة عشوائية، فضلاً بالطبع عن الابتهاج لأمّ الوليد وأهله وشعبه وسورية قاطبة. بيد أنها، أيضاً، أعادتني مجدداً إلى مشاهد ثلاثة سبق لي أن توقفت عند دلالاتها، في ما يخصّ تاريخ "الحركة التصحيحية" تحديداً؛ وكيف تبدّلت الحال، بل الأحوال، حتى كاد السحر ينقلب على الساحر، في الميادين ذاتها التي لاح أنها مواطن قوّة النظام ومفاتيح ديمومته، وفي القطاعات التي عُدّت بين الأكثر حساسية في ضبط توازناته الداخلية، وحفظ بقائه. وليس بغير دروس قاسية، من ذلك الطراز الذي يوفّره التاريخ للطغاة أساساً، أنّ أنساق الانقلاب ذاك انبثقت من داخل مؤسسات النظام، ولكن لكي تصير في خدمة انتفاضة الشعب، وليس لتمتين دفاعات النظام!

ومن المعروف أنّ الانتفاضة أكسبت السوريين، والعالم بأسره في الواقع، مئات الأشرطة المصوّرة التي سجّلها شبان شاركوا في الحراك الشعبي، وجرى تحميلها على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، مثل "تويتر" و"فيسبوك" و"يوتيوب"؛ وأنّ هذه الأشرطة كانت العامل الأكبر في أنّ النظام خسر معركة الصورة، رغم استمراره في إبعاد وسائل الإعلام العربية والأجنبية عن موقع التظاهر والإعتصام. ثمة، بينها، ثلاثة أشرطة تصنع تلك المشاهد الثلاثة، وتحمل خلاصات جلية حول مآلات "الحركة التصحيحية" في ثلاثة مستويات من انهماك السلطة في فرض "التربية البعثية"، التي شملت أوساط الأطفال والشباب بصفة منهجية مقصودة.  

الشريط الأوّل صُوّر في ظاهر مدينة إدلب، شمال غربي سورية، ويلتقط أحد مخيّمات "طلائع البعث"، وهو اسم المنظمة التابعة للحزب الحاكم، والتي تشرف على التربية السياسية للأطفال بين 6 إلى 11 سنة. لكنّ المخيّم، المخصّص أصلاً لأنشطة ثقافية وموسيقية ورياضية خلال العطلة المدرسية الصيفية، تحوّل إلى معسكر اعتقال جماعي، بالنظر إلى أنّ السجون وعشرات المعتقلات التابعة لأجهزة الأمن السورية المختلفة، ضاقت بعدد المعتقلين (أكثر من 70 ألف معتقل، حتى ساعة كتابة هذه السطور)، وتوجّب البحث عن بدائل. الشريط الثاني يصوّر مجموعة من الشباب، يتظاهرون في مدينة القنيطرة (عاصمة الجولان، وثمة مغزى إضافي هنا)، أمام مقرّ "إتحاد شبيبة الثورة"، المنظمة التابعة للحزب الحاكم، وتعمل في أوساط الشباب بين 12 إلى 19 سنة. أمّا اللافتة الأبرز في التظاهرة فقد كانت تردّد لازمة الأغنية الساخرة الشائعة: "قالوا عنّا مندسّين، قالو عنّا مسلّحين، قالوا عنّا مخرّبين، قالوا عنّا سلفيين، ونسيوا يقولوا... سوريين!" الشريط الثالث يُظهر جمهرة من طلاب جامعة البعث، في مدينة حمص (وثمة مغزى خاص، هنا أيضاً، في تسمية الجامعة كما في المكان)، يحرقون بطاقات عضويتهم في "حزب البعث"، وفي "الإتحاد الوطني لطلبة سورية"، المنظمة التابعة للحزب في مستوى التعليم الجامعي.

والحال أنّ هذه الأشرطة تحيل المشهد السوري الراهن إلى منقلبه الابتدائي ما بعد 16/10/1970، حين دشّن الأسد الأب سياسات "تصحيح" استهدفت تدعيم أركان حكمه بالطبع، ليس على نحو وقائي مرحلي كما خُيّل للبعض آنذاك، بل على نحو منهجي طويل كانت سيرورة التوريث مظهره الأوضح، وتبدو خيارات قمع الإنتفاضة اليوم، ومجمل خطوط الدفاع التي اعتمدها النظام ويواصل اعتمادها، بمثابة تتويجه الأقصى. بعض تلك التصحيحات شمل إعادة بناء الأجهزة الأمنية، وتبديل بنية الجيش السوري القيادية، وتأسيس وحدات عسكرية مستقلة أشبه بجيوش داخل الجيوش (مثل "سرايا الدفاع"، "الوحدات الخاصة"، "الحرس الجمهوري"، "سرايا الصراع"...)؛ و بعضها الآخر شمل الحياة السياسية، وموقع حزب البعث في المجتمع، وإنشاء "منظمات شعبية" تكفل بناء شبكات الهيمنة والولاء.

أبرز "تصحيحات" الأسد السياسية كانت مقاربته الجديدة لتركيبة حزب البعث، ودوره في الحياة السورية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكيف يمكن تحويله إلى أداة لإدامة النظام، وخدمة أواليات السيطرة والرقابة الأمنية والتغطية الدعاوية، وكان هذا هو الهدف الأهمّ. ذلك لأنّ الحزب لم يكن جماهيرياً في أي يوم، ليس بمعنى افتقاره الى التأييد الشعبي فحسب، بل أيضاً بمعنى بنيته النخبوية ونظامه الداخلي الذي يجعل التنسيب والانتساب عملية معقدة أقرب الى اختبار السحرة. وفي عهد "المجموعة القومية"، أيام ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأمين الحافظ؛ كما في عهد "المجموعة القطرية"، بعد "حركة 23 شباط" 1966 وصعود مجموعة صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين وحافظ الأسد؛ ساد اليقين بأنّ التنسيب الواسع للأعضاء الجدد يؤذي جسم الحزب ويتسبب في تمييع خطه السياسي وتركيبته الطبقية. ولهذا كان التركيز شديداً على ما عُرف آنذاك بـ"المنبت الطبقي" للمرشّح، و جرى تفضيل أبناء الطبقات الكادحة على أبناء الأغنياء من الإقطاعيين والبرجوازيين.

تصحيح الأسد تمثّل في فتح باب الحزب على مصراعيه أمام المنتسبين الجدد أياً كان منبتهم الطبقي، وجعل الانتساب الى الحزب أمراً لا غنى عنه من أجل ضمان دخول المعاهد والجامعات، ومصدراً لتأمين "الواسطة" الأولى للحصول على وظيفة. و كان الغرض الضمني هو، بالضبط، ما سعى "القوميون" و"القطريون" الى تفاديه: تمييع الخطّ السياسي والتركيب الطبقي. وبالفعل، لم يمضِ وقت طويل حتى انقلب الحزب إلى مؤسسة إنتهازية نفعية خاضعة للأجهزة الأمنية، وسرعان ما انخرط الأعضاء في تعامل مباشر أو غير مباشر مع تلك الأجهزة، وأخذوا يعتبرون كتابة التقارير الأمنية واجباً تنظيمياً، فدانوا بالطاعة الى روساء فروع المخابرات المختلفة، أكثر من طاعتهم لأمناء فروع الحزب في المحافظات.

التصحيح الثاني تمثّل في تضخيم دور "المنظمات الشعبية"، ومنحها ميزانيات وصلاحيات وإطارات عمل كفيلة بضمان استقلالها عن الحزب، من جهة؛ و سهولة خضوعها تالياً لتوجيه الأجهزة الأمنية والعسكرية، من جهة ثانية. وهذه المنظمات أخذت تعمل في قطاع العمال والفلاحين والحرفيين والمعلمين والطلبة والشبيبة والرياضة، إلى جانب الاتحادات المهنية التي تضمّ المحامين والأطباء والمهندسين والأدباء والفنانين. وكان من الطبيعي تماماً أن تشرف الأجهزة الأمنية على انتخابات هذه المنظمات، وأن يكون "التقييم الأمني" هو المعيار الأساسي في اختيار المرشحين لقيادة العمل. في موازاة ذاك تمّت عمليات "عسكرة" مباشرة لبعض هذه المنظمات، مثلما جرى في مطلع الثمانينيات حين تولى ضباط "سرايا الدفاع"، تدريب الشبيبة على القفز المظلي مقابل إعفائهم من معدّل الدرجات المطلوبة للإنتساب الى كليات الطب والهندسة. كذلك جرت عسكرة اتحاد الطلبة عن طريق إلزام الطلاب الجامعيين بأداء التدريب العسكري المستمر.

التصحيح الثالث كان الأكثر ذكاءاً ربما، والأشدّ أذىً بالتالي، تمثل في استحداث منظمة شعبية جديدة باسم "طلائع البعث"، تشرف على التربية السياسية للأطفال في سن 6-11 سنة. ولأنّ الانتساب الى هذه المنظمة كان إجبارياً وجزءاً لا يتجزأ من مناهج التعليم في المرحلة الابتدائية، فقد شبّت أجيال كاملة على العبارة/الكليشيه: "بالروح! بالدم! نفديك يا حافظ!" وكان الأطفال يكبرون وهم يستدخلون سلوك عبادة الفرد وكأنه مبدأ وطني وتربوي طبيعي تماماً، يستكمل صورة الأسد بوصفه "الأب القائد"، والوحيد القادر على حكم الأهل والمجتمع والوطن. ولأنّ 49% من سكان سورية كانوا فتياناً أقلّ من 15 سنة، فإنّ منظمة "طلائع البعث" لعبت دوراً حاسماً في تنشئة الأجيال الجديدة على قائد واحد وسياسة واحدة، و زرعت في نفوس الصغار حسّ الطاعة العسكرية والولاء الأعمى للقائد، وجهدت لكي تكون هذه التربية بمثابة لقاح مبكر يحول بينهم وبين التقاط "عدوى" السياسة حين ينتقلون من مرحلة الى أخرى في الدراسة والعمر والوعي.

في قلب عناصر هذا المشهد المعقّد كانت الطبيعة المركبة للمجتمع السوري تفرض معطيات متشابكة ومتقاطعة تزيد التعقيد، وتجعل الموزاييك الإثني والديني والطائفي والمذهبي واللغوي قابلاً لإنتاج الولاءات الكامنة، والانحيازات الخافية أو الغائرة عميقاً تحت سطح تلك "التربية البعثية". بذلك فإنّ السياسة لم تكن هي المنتج الأبرز لاحتقانات الداخل السوري، فانكمشت أو انحسرت او اضمحلت تماماً في مواقع وميادين مجتمعية حاسمة. لكنّ تلك الاحتقانات استلهمت انتفاضات العرب، في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن، وكان طبيعياً أن تنتج "سياسة" من طراز ما في نهاية المطاف، حتى بعد مرور أربعة عقود على نهج "الحركة التصحيحية".

وهكذا، لا بدّ أنّ الفتى الشهيد غياث مطر كان قد خضع لأعراف تلك "التربية البعثية" ذاتها حين ثار عليها وخرج إلى تظاهرات بلدته داريا، قبل أن يصبح ناشطاً فيها، وقائداً لها. وأمّا انتصار الانتفاضة السورية الوشيك، الذي صار دانياً قريباً، ومضرّجاً أكثر من ذي قبل بدماء السوريين للأسف، فإنه لن يكفل للوليد غياث غياث مطر مستقبلاً خالياً تماماً من تشوهات تلك التربية القبيحة، فحسب؛ بل سيجعل عيد ميلاده بمثابة الذكرى الأخيرة لنظام الاستبداد والفساد والنهب والحكم العائلي.

عيد ميلاد سعيد، إذاً، يا ابن جميع السوريات والسوريين!

الأحد، 13 نوفمبر 2011

سورية.. خلسة وعلانية!

تزايدت، خلال الأسابيع الأخيرة بصفة خاصة، محاولات وسائل الإعلام الأجنبية لتغطية الانتفاضة السورية من الداخل؛ وتعددت، بالنظر إلى الحصار الخانق الذي يفرضه النظام على دخول الصحافة المستقلة، أشكال التحايل على الأجهزة الأمنية، وابتداع طرائق ذكية لمخادعة الرقابة اللصيقة، وتهريب المادّة المصوّرة خارج الحدود. تكللت بعض المحاولات بالنجاح (كما في شريط "داخل جحيم القمع" للفرنسية صوفي عمارة)، وتعثّر بعضها وكاد أن يعرّض حياة صانعيها إلى أخطار جسيمة (كما في محاولة البريطاني شون ماكالستر، الذي اعتُقل من أحد مقاهي دمشق، فصار شاهد عيان على ما يتعرّض له نشطاء الانتفاضة من تعذيب وحشي).

لكنني أكتب اليوم في إطراء شريط تسجيلي جديد، أرى أنه ـ ضمن ما شاهدت من أشرطة مماثلة، وكثيرة ـ ليس الأشدّ جسارة على صعيد المجازفة المهنية فحسب؛ بل لعلّه بين الأعلى مخاطرة بالسلامة الشخصية، بهدف بلوغ الصدقية القصوى في التسجيل والتوثيق. الشريط عنوانهUndercover Syria ، قامت بتنفيذه الصحافية البريطانية ـ الإيرانية الأصل راميتا نافائي، وصوّره وأخرجه وائل دبوس، ويقع في 23 دقيقة تتوغل في مشهد سورية الانتفاضة، خلسة كما يشير العنوان، وعبر تفاصيل ترسم مشهد الصراع بين سلطة غاشمة لا تنظر إلا إلى الوراء، وحراك شعبي لم يعد ينظر إلا إلى الأمام؛ بين حدَّيْ القتل الوحشي بكلّ سلاح متاح، والمقاومة العنيدة بالصدور العارية؛ وبين يأس النظام وتخبّط خياراته. وقد عُرض الشريط على القناة الرابعة البريطانية، ضمن برنامجها الشهير Unreported World، الذي يُعدّ بالفعل اسماً على مسمّى لأنه يتناول عوالم خافية أو مهمشة لا تغطيها التقارير عادة، إمّا لأنّ تغطيتها ممتنعة أمنياً، أو لأنّ أخبارها لا تتمتع بجاذبية استهلاكية تبرّر تقديمها.

نافائي دخلت إلى سورية بصفة سائحة (ومن حسن الحظّ أنّ جهاز أمن سفارة النظام في لندن لم يتنبه إلى مهنتها، رغم أنها صحافية معروفة وسبق لها أن أنجزت سلسلة أفلام وثائقية متميزة في السودان وأفغانستان ومصر ونيجيريا والسلفادور وزيمبابوي، وعملت مراسلة في إيران والباكستان والعراق...)؛ ومن جانبه، لم يحمل دبوس سوى آلة تصوير فيديو صغيرة، من النوع الذي يصطحبه السياح عادة، ولا يثير الريبة. وهذا الفريق الصغير استعدّ جيداً، من الوجهة الأمنية تحديداً، وأجرى سلسلة ترتيبات مع تنسيقيات الداخل، الأمر الذي أتاح له إمكانية البقاء قرابة أسبوعين، تضمنت التجوال في دمشق العاصمة، وبلدات حرستا ودوما ومضايا، والمغادرة بعدئذ بحصيلة مصوّرة جيدة، بعضها ممتاز ونادر التحقيق في شروط التقييد الصارمة المفروضة اليوم على الأجانب عموماً.

وبين مشاهد الشريط الجبارة، ويحدث أيضاً أنه بين أكثرها عفوية وصدقاً (إذْ تمّ دون أي تخطيط مسبق، وقادت إليه الصدفة، أو بالأحرى تصاريف أجهزة النظام في مسعى قهر الانتفاضة)، ذلك الذي شهده أحد بيوت الانتفاضة السرّية في بلدة مضايا، منطقة الزبداني، شمال غرب دمشق. كان فريق الفيلم قد قصد البلدة للقاء بعض النشطاء، عندما فُرض حصار عسكري مفاجىء هناك، ونفّذت أجهزة الأمن وقطعان الشبيحة مداهمات للبيوت بحثاً عن أسماء محددة، بينها بعض الذين كانوا في البيت السرّي.

والمشهد يبلغ ذروة درامية خاصة حينما يضطّر النشطاء إلى التخفي، عبر سقيفة البيت، وتوصية نافائي ودبوس بالبقاء في الدار، لأنّ مواجهة الأمن بجواز سفر بريطاني أخفّ عاقبة من المجازفة بالخروج. تُطفأ الأضواء، ويُوضع المفتاح في قفل الباب من الداخل، ويغلق المصوّر جهاز التصوير، ويستخدم هاتفه الجوّال لاقتناص بضع لقطات لاهثة؛ كما يفلح في تسجيل صوت أمّ، من البيت المجاور، تبكي وتتوسل إلى عناصر الأمن لكي لا يعتقلوا ابنها. كذلك لا يتردد دبوس في تثبيت علائم الرعب على وجه زميلته، حين كان الموقف معلّقاً عند احتمالات الخطر كافة!

وفي مشهد أخر بالغ التأثير، يقود النشطاء فريق الفيلم إلى بقعة سقط فيها، قبل يوم واحد، فتى في الرابعة عشرة من عمره، برصاص قناص. خيط الدماء ما يزال مرسوماً على قارعة الرصيف، والرصاصات الفارغة على الأرض، وآثار الرصاصات الأخرى حُفرت في الجدار القريب. تتحدّث نافائي مع والد الفتى الشهيد، فيقول لها ـ بنبرة ثقة مذهلة، ويقين لا يخالجه ارتياب ـ إنّ الثورة قائمة، وهكذا ستبقى حتى يسقط النظام، طال الزمان أم قصر. مشهد ثالث يزور أحد المشافي السرّية، أي تلك التي تُقام في بيوت سرّية لمعالجة الجرحى، بعد أن صار رجال الأمن والشبيحة يخطفونهم من المشافي العلنية، الحكومية أو الخاصة، ويقتادونهم إلى أقبية الأجهزة، أو يبادرون إلى تصفية بعضهم وهم على أسرّة العلاج. أمّا مشهد الفيلم الأخير فيعود بنا إلى مضايا، ولكن ليس إلى البيت السرّي الذي حُبس فيه الفريق 72 ساعة، بل إلى تظاهرة حاشدة في رابعة النهار، تتعالى من صفوفها هتافات المطالبة بإسقاط النظام.

سورية المنتفضة علانية إذاً، وليس خلسة فقط! وشريط نافائي ودبوس شهادة جديدة تفسّر هذه المعادلة العبقرية التي تترسخ كلّ يوم، كما تؤكد ما قاله شون ماكالستر: شجاعة الشعب السوري ليس لها مثيل معاصر، ولن يقوى أي استبداد على كسرها!

رابط الشريط:

الخميس، 10 نوفمبر 2011

"المجلس الوطني" و"هيئة التنسيق": استعصاء الأداة أم اقتسام العجز؟

حمص (المدينة "المنكوبة" حسب التعبير القاصر الذي استخدمه "المجلس الوطني السوري"، وكأنّ زلزالاً ألمّ بالحجر والبشر!) لم يكن ينقصها إلا تلك "النكبة" الأخرى التي شهدتها العاصمة المصرية أمام مقرّ الجامعة العربية. كانت دبابات النظام ومدفعيته وطائراته الحربية تواصل حصد الأرواح بدم بارد، وهمجية منفلتة من كلّ عقال، حين توافد عدد من شخصيات المعارضة السورية إلى القاهرة، بدعوة من نبيل العربي، الأمين العام للجامعة العربية. وكان أن اختلفوا فيما بينهم أكثر ممّا اتفقوا، وأعلن بعضهم الانسحاب من المشاركة دون تبيان الأسباب حتى الساعة، أو مع تبيانها نزر يسير منها على نحو أقرب إلى الغمغمة منه إلى إيضاح سبب واحد مفهوم.

وما زاد في بؤس المشهد أنّ نفراً من غلاة السوريين أنسوا في أنفسهم القدرة على الجزم بأنّ وفد المعارضة السورية يوشك على ارتكاب "خيانة عظمى" بحقّ الانتفاضة السورية، فسارعوا إلى الاعتداء الجسدي على بعض أفراد الوفد، أو رشقوا بعضهم الآخر بالبيض والحجارة. وكان السلوك هذا لا يستدعي الاستهجان الصريح والإدانة القاطعة فحسب، بل يستدرّ الشفقة على هذا التدرّب، الهجين والفجّ، على استخدام الحقّ في التعبير الحرّ، حتى بالبيض والبندورة. كان ممكناً، وربما مشروعاً، استقبال الوفد بهتافات أو لافتات توضح طبيعة اعتراض الحشود على الزيارة، سواء انطوى الاعتراض على وجاهة مقبولة أم بُني على تعسّف، واتصل بمعطيات ملموسة أم تأثر بتسريبات مختلقة، وتحرّك عفوياً وعاطفياً أم سهرت على تحريكه أياد ذات مصلحة...

كل ذلك لا يمسّ، في أية حال، حقّ المرء في الاختلاف مع هذه الكتلة السورية المعارضة أو تلك، وفي الاتفاق مع المجلس الوطني السوري أو "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي"، فضلاً عن هذا أو ذاك من الشخصيات المعارضة المستقلة، أو التي لا تحتسب نفسها إلا على الإطار العامّ للمعارضة، بعيداً عن كلّ وأيّ مجموعة ذات انتظام. خلاف وفد القاهرة كان مدعاة عجب (إذْ يسأل المرء ببساطة: علام تفاهموا، إذاً، قبيل مجيئهم في وفد موحّد؟)؛ وكذلك كان محزناً أن يكون بعض الخلاف قد نجم عن تفسير حسن عبد العظيم، الأمين العام لحزب الإتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي والمنسّق العامّ لـ"هيئة التنسيق"، بأنّ الدعوة موجهة إلى "هيئة التنسيق" وحدها، وهي التي سوف تتولى التمثيل الرسمي والنطق باسم الجميع في اللقاء مع العربي (كما نفهم، على الأقلّ، من بيان "تيار بناء الدولة السورية" الذي انسحب من الوفد).

فإذا جاز استهجان هذه الحال، والله يعلم أنّ ثمة الكثير الذي يستوجب الاستهجان هنا، فقد كان حرياً بغلاة السوريين الذين احتشدوا ضدّ وفد المعارضة، واعتدوا ورشقوا البيض والحجارة، أن يعبّروا عن استهجان مماثل، لأسباب ليست أقلّ وجاهة، حين استقبل الأمين العام للجامعة العربية وفد المجلس الوطني السوري، قبل أيام. صحيح أنّ هذا الوفد جاء موحداً (من حيث المظهر، في أقلّ تقدير!)، وحمل سلّة مطالب واضحة ومتجانسة (حتى إذا كان بعضها لا يُنال بالتمنّي على أية جهة أخرى، عربية أو أجنبية، باستثناء أهل الانتفاضة السورية، بنسائها وأطفالها وشيبها وشبابها). إلا أنّ المجلس ظهر إلى العلن بعد غياب طويل واحتجاب غير مفهوم، مثقلاً بالأخطاء الفادحة، وميادين التقصير الفاضحة، والسبات والخمول والتراخي والاتكال... حين كان النظام يريق المزيد من الدماء السورية الزكية، ويستبيح حمص، ويحيل أفكار الجامعة العربية، إسوة بمبادرتها السابقة المؤودة، إلى أضحوكة.

فهل كان عسيراً، يسأل المرء، أن تذهب المعارضة إلى لقاء العربي بوفد موحّد، بافتراض أنّ نقاط الاختلاف بين "المجلس الوطني" و"هيئة التنسيق" ليست على درجة من التباين تحتّم تشكيل وفدين، وتقسيم المهمة الواحدة إلى اثنتين؟ أم أنّ ذلك الافتراض هو الخاطىء، في واقع الأمر، وكما اتضح على الأرض عملياً؛ والتباين لا يشكّل هوّة فاغرة بين كتلتَيْ المعارضة، فحسب، بل استدعى العنف الجسدي والبيض والحجارة من بعض الغلاة، والتراشق المتبادل ذا الطراز الآخر (نأي المجلس الوطني بنفسه عن الغلاة، ومسارعة بعض ممثّلي "هيئة التنسيق" إلى اتهام المجلس بالوقوف وراء المشهد البائس)؟ وفي كلتا الحالتين، هل هذه هي المعارضة السورية التي تليق بالطور الراهن من عمر الانتفاضة، أو الطور الراهن من خيارات النظام في كسر إرادة الشعب؟ وإذا كان هذا هو الذي يفرّقها، فما الذي يجمعها، أو سيجمعها، اليوم أو غداً أو بعد غد؟

لم يعد سرّاً أنّ ما أثار غلاة السوريين أمام مقرّ الجامعة العربية، هو ذاته ـ وإنْ صيغ بلغة أخرى، أكثر تعقيداً وفذلكة ـ بعض ما يفرّق أطياف المعارضة السورية، في الداخل مثل الخارج، ويأخذ طريقه أيضاً إلى الأداء اليومي لمختلف التنسيقيات ولجان العمل المنخرطة ميدانياً في إدارة الحراك الشعبي. وذاك افتراق يفعل أفعاله، اليومية، على مستوى الأحزاب أو الهيئات أو التجمعات أو المجالس أو الأفراد المستقلين، بصرف النظر عن التلاوين الإيديولوجية الصرفة، بين تيارات يسارية أو قومية أو إسلامية أو ليبرالية، أو تعبيراتها السياسية والمدنية والحقوقية والفكرية، علمانية كانت أم متديّنة أم في منزلة وسيطة. وذاك افتراق ينبغي أن يكون طبيعياً، ابن الحياة التي تغتني بالتعدد والتنوّع لا بالأحادية والامتثال، فلا يلغي الحقّ في الاختلاف، وليس له أن يفسد للودّ قضية كما يسير التعبير الشائع.

بيد أنّ نهج النظام في تغييب السياسة عن الوعي السوري، طيلة أربعة عقود من عمر "الحركة التصحيحية" بين حافظ الأسد ووريثه بشار الأسد، كان كفيلاً بتغييب ثقافة الحوار حتى بين أطراف الصفّ الواحد والحساسية السياسية او الفكرية المتجانسة، من جهة أولى؛ وكان، من جهة ثانية، ميدان تنشئة لثقافة أخرى مضادة، تبدأ من رفض الآخر على قاعدة الاختلاف معه، ولا تنتهي عند تخوينه وتأثيمه، قبيل محاربته بأساليب وذرائع وأسلحة أسوأ ممّا تُجرّد ضدّ الخصم المشترك، الأكبر والأعتى. وإذْ لا يجوز للمرء الارتياب في مقدار ما أضافت أشهر الانتفاضة الثمانية من ثقافة بديلة، مقاومة وتسامحية وائتلافية وديمقراطية، فإنّ الرواسب المتراكمة تظلّ هي الأثقل، وعقابيلها أطول عمراً، وأبعد أثراً، وأشدّ قدرة على إلحاق الأذى.

وبذلك كان وفد المعارضة السورية قد وصل إلى القاهرة، تسبقه مفاعيل ذلك الافتراق وقد اختزلها الوعي المغالي ـ الشعبوي، العنيف أيضاً، العصبوي المتعصّب، ولكن ليس ذاك الذي تنطبق عليه صفة الغوغاء أو الدهماء، كما شاء البعض الإيحاء من قبيل الإفراط في جبر الخواطر! ـ في ثلاثة محرّمات، تمّ افتراضها مسبقاً أغلب الظنّ: أنّ الوفد سيطلب عدم تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية، كما سيرفض أي شكل من أشكال حماية المدنيين، وسيلحّ على ضرورة استمرار الحوار مع النظام لبلوغ الإصلاحات. ورغم أنّ مواقف معظم أعضاء الوفد ـ ولكن ليس كلّهم، للإيضاح الضروري ـ لا تذهب باتجاه تلك المحرّمات الثلاثة، ولم يتوفّر أي دليل بعد على أنّ مواقفهم تبدّلت في الرحلة إلى القاهرة، فإنّ الغليان كان قد بلغ الذروة لتوّه، مسبقاً في الواقع، فاستدعى البيض والحجارة والعنف، بعد أن استولد سلسلة من الأسئلة الافتراضية.

وتلك أسئلة إشكالية، استطراداً، لأنها تنبثق من الافتراض وحده أوّلاً؛ ولكنها مشروعة، في اعتبارات عديدة، ثانياً؛ وتنهض، ثالثاً، على استبعاد أسئلة أخرى رديفة قد تشكّل، في ذاتها، إجابات شافية من وجهة نظر الآخر المختلف. فقد يطرح أحد راشقي البيض والحجارة السؤال التالي: كيف يجيز أعضاء الوفد لأنفسهم طرح هذه المحرّمات، الأشبه بالخطوط الحمر في الطور الراهن من الوعي الشعبي العريض، والنظام يوغل في دماء السوريين بهذه الوحشية؟ وقد يردّ عليه الآخر، بسؤال مضاد: ولكن ألا يتوجّب، في الطور الراهن من الوعي الشعبي ذاته، تفادي تحوّل المواجهات بين الجيش النظامي والجنود المنشقين إلى عسكرة الانتفاضة؟ وقد يُثار سؤال ثالث، كالآتي: هل نترك المدنيين عرضة للقتل والاعتقال والاختطاف والتعذيب والتصفية، دون حماية دولية؛ فتأتي الإجابة: كلّ حماية دولية هي مقدّمة للتدخّل العسكري الخارجي، وهذا مرفوض مطلقاً...

نطاق الأسئلة الأخرى سوف يشتمل على مخاوف الوحدة الوطنية، والحرب الأهلية، وأوضاع الأقليات الدينية والإثنية والطائفية، واحتمالات أسلمة الشارع السوري ومنعكساته على العلمانية والتسامح والتعددية، وآفاق المصالحة الوطنية، ومصائر الشبيحة والميليشات وجماهير النظام عموماً، والتطابق أو التنافر بين المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية، ومستقبل الجيش الوطني، وتحرير الجولان المحتل، والعلاقة مع العدو الإسرائيلي، وهواجس الموقع السوري الوطني في التشكيل الجيو ـ سياسي للمنطقة... وهو، هنا أيضاً، نطاق طبيعي تماماً لو أحسنت أطراف المعارضة تناوله دون تأثيم للآخر يتكيء على تنميطات جاهزة، أو جرّبت الخوض فيه دون خشية مسبقة من عواقب الخطأ والصواب.

وضمان الأمان في هذه السيرورة، الشائكة دائماً والحقّ يُقال، ليس بحاجة إلى اعتمالات أليمة أو مخاضات عسيرة، إذْ تتولى الانتفاضة توفيره كلّ يوم، مع كلّ شهيدة وشهيد، ليس البتة ضمن أية صياغة أحادية تحتكر التمثيل والتعبير والنطق، بل عبر ذلك التنوّع العبقري الذي أدام الحراك الشعبي طيلة أشهر ثمانية، وأطاش صواب النظام بمؤسساته العائلية والأمنية والعسكرية والمالية والسياسية كافة. وإذا صحّ أنه أطاش صواب بعض أطراف المعارضة، أيضاً، وكان قميناً به أن يفعل، في الداخل مثل الخارج، فذلك لأنّ قسطاً كبيراً من خلافات تلك المعارضة تصنعه تلك الحصيلة المزجية بين استعصاء الأداة (تكوينات المعارضة الكلاسيكية، على تنوّعها)، وديناميكة الحراك الشعبي (الذي استبق المعارضة أصلاً، وكان طبيعياً أن تظلّ شعاراته أسبق دائماً، وأكثر جذرية غالباً).

وتلك التكوينات منضوية، كلّها أو تكاد، في واحد من تكتّلَيْ "المجلس الوطني" أو هيئة التنسيق"، ومن المنطقي أن تخضع لعوامل شتى تؤثّر في برامجها السياسية اليومية، وفي تنظيراتها العامة بصدد حاضر الانتفاضة ومستقبلها، فضلاً عن الإجابات التي تقترحها للأسئلة الآنفة. ومن غير المنطقي المساجلة بأنّ تلك العوامل لا تنهض، بدورها، على إرث الماضي السياسي والعقائدي والتنظيمي، وعلى اعتبارات سوسيولوجية تختلط فيها انحيازات الطبقة بوطأة المحيط الإثني أو الديني أو الطائفي؛ وبالتالي ليس من مفاجأة في أن يتفق معارضان، كما يحدث اليوم بالفعل، على هدف إسقاط الاستبداد، ولكن... دون إسقاط النظام!

وثمة، بالتالي، ما يُلقي بفارق مثل هذا في منطقة وسطى مدهشة، بين استعصاء الأداة واقتسام العجز!

الخميس، 3 نوفمبر 2011

منعطف النظام السوري: طوق نجاة عربي أم حاضنة صهيونية؟

ما الذي يجعل بشار الأسد يختار أندرو غليغان، الصحافي البريطاني الذي يُعدّ بين الأشدّ عداء للعرب وانحيازاً لإسرائيل، لكي يجري معه حواراً هو الأوّل مع الإعلام الغربي منذ انطلاقة الانتفاضة السورية، أواسط أذار (مارس الماضي)؟ ولماذا توجّب أن تكون الصحيفة هي الـ"صنداي تلغراف" التي لا يُعرف عنها، ولا عن قرينتها الأمّ، الـ"دايلي تلغراف"، إلا كلّ تأييد أعمى لإسرائيل والصهيونية العالمية واليمين المحافظ؟ وكيف استقرّ الأسد على هذا الصحافي، وهذه الصحيفة، متناسياً أنها كانت منبر الشتائم الأقذع ضدّ حلفائه في صفّ "الممانعة" و"المقاومة"؛ فلم تقف خلف العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان صيف 2006، فحسب، بل أنحت باللائمة الشديدة على رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت لأنه لم يذهب أبعد، فيدمّر أكثر وأشرس؟

ثمة الكثير من الإجابات، بالطبع، ومعظمها يرتدي صفة منطقية بسيطة للغاية، تنهض من معطيات سلام الأمر الواقع مع نظام "الحركة التصحيحية"، في عهد الأسد الأب ثمّ وريثه، حيث سادت في جبهة الجولان المحتل حال اللاحرب التي لا تستتبع أيّ تنازلات إسرائيلية ذات معنى، وذلك منذ حرب 1973 وما أعقبها من اتفاقيات فصل القوات. وهكذا، تنبثق إجابة أولى من يقين إسرائيلي، تتبناه بالضرورة الدوائر الصهيونية العالمية، وبات معروفاً وغير مسكوت عنه البتة، بأنّ النظام السوري الراهن هو الأفضل، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً؛ وبديله (خاصة عند انتصار الانتفاضة، وإقامة  نظام وطني ديمقراطي تعددي، ذي قاعدة شعبية متينة، وجيش وطني يُعنى بمسائل الدفاع عن البلد وليس حماية الاستبداد والفساد...) سوف يكون كابوس "الربيع العربي" الأكثر ضرراً لإسرائيل.

إجابة ثانية تنجم عن "تراث" الخدمات التي قدّمتها "الحركة التصحيحية"، على نحو مباشر وصريح وغير مستتر في أحيان كثيرة، إلى سياسات إسرائيل ذات الطابع الستراتيجي، وليس التكتيكي الصرف وحده، فضلاً عن السياسات الأمريكية والأطلسية. اللائحة هنا تبدأ من لبنان وضرب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية وحرب المخيمات، ولا تنتهي عند مشاركة قوّات النظام في تحالف "عاصفة الصحراء" قبيل غزو العراق، كما أنها تمرّ بهذا الدور الوسيط الراهن الذي يسدي أفضل العون لإسرائيل: علاقة النظام مع إيران و"حزب الله"، بما ترفعه من فزّاعة "ممانعة" زائفة، لكنها تمكّن تل أبيب من استدراج المزيد من المساعدت المالية والأسلحة المتطوّرة الأمريكية. السذّج وحدهم، وفي صفوف "الممانعين" أكثر من غيرهم، كانوا بحاجة إلى تصريحات رامي مخلوف، ابن خال الأسد وكبير تماسيح الفساد في سورية، حول ارتباط المصير بين النظام وإسرائيل، لكي يدركوا أنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأنّ بعض "الممانعة" يخدم إسرائيل أوّلاً، وثانياً، وعاشراً!

إجابة ثالثة يثيرها ذلك الرماد الذي يُذرّ في العيون، حول "علمانية" النظام، مقابل "إسلامية" الانتفاضة؛ الأمر الذي يفضي إلى المعادلة التالية، التبسيطية تماماً، ولكن تلك التي تثير رهاباً شعبوياً عالياً في الغرب: أليست هذه الأنظمة الفاسدة، العسكرية أو الوراثية أو الدكتاتورية، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، أفضل من جماعة "الإخوان المسلمين"، وتطبيق "الشريعة" الإسلامية، وفرض الحجاب والنقاب؛ ثمّ الطامة الكبرى، المتمثلة في "الجهاد" و"القاعدة" و"الإرهاب"؟ الطريف، والأخبث الذي يصبح أحطّ تفكيراً وأعلى استغفالاً للعقول، أن يأتيك مَن يقول، دون أن يرفّ له جفن: صحيح أنّ بشار الأسد دكتاتور، ولكنه ليس ذلك الدكتاتور الذي تألفه في أوساط حكّام العرب، فهو أقام في بريطانيا سنتين (أي أنه، كما يُراد منّا أن نفهم، عاش بما يكفي لكي يتثقف ويتهذّب ويتعلّم آداب السلوك الغربية!)، ويرتدي الجينز، ويسكن بيتاً متواضعاً في دمشق، ولا يصادفك في الطريق إلى زيارته إلا حارس واحد!

هنا، تثبيتاً لتفاصيل الاستغفال السابقة، ما كتبه غليغان في الـ"صنداي تلغراف"، الأسبوع الماضي: "المرأة الشابة التي رتبت اللقاء اصطحبتني في سيارتها الشخصية، فقادتها طيلة عشر دقائق قبل أن نبلغ ما بدا شارعاً جانبياً غير مطروق تحفّ به الشجيرات. لم يكن هنالك أمن مرئي، ولا حتى بوّابة، ما عدا ذلك الحارس الذي كان أشبه بالإنكشاري، الواقف أمام محرس. تقدّمنا صوب بناء من طابق واحد، بحجم بيت ريفي، وكان الرئيس ينتظرنا في قاعة الدخول. جلسنا، نحن الثلاثة فقط، على أريكة جلدية في مكتب صغير. كان الرئيس يرتدي الجينز". وبمعزل عن حكاية الحارس الإنكشاري، الطالعة من الثقافة الشرقية الوحيدة التي يلوح أنّ غليغان قد اكتسبها، فإنّ أيّ سوري سوف يسقط مغشياً عليه من الضحك إزاء هذه الوصف لإجراءات الأمن المحيطة بإقامة الأسد، فهذا المستوى من الحراسة لا يليق بأدنى ضابط في أي فرع من فروع المخابرات في الأزمنة العادية، فكيف اليوم إذْ يعيش النظام مأزقه الأقصى؟

ما سيرويه غليغان بعدئذ ليس أقلّ سخرية من العقول، لأنه ينقل على لسان الأسد تفسير الأخير لشرعيته الشعبية، وليس تلك الانتخابية فقط: "أوّل عناصر الشرعية الشعبية هي حياتك الشخصية. من المهمّ جداً كيف تعيش. أنا أعيش حياة طبيعية. أقود سيارتي الشخصية، ولدينا جيران، وأوصل أطفالي إلى المدرسة، لهذا أنا أحظى بشعبية. من المهم جداً أن تعيش هكذا، فهذا هو اسلوب الحياة السوري". والصحافي العبقري يخرج إلى قلب دمشق لكي يلتمس أسلوب الحياة ذاك، فيجد الشوارع تعجّ بالناس، والمطاعم مفتوحة، والخمور متوفرة، ورجال الدين المسيحين أمام كنائسهم بلا خوف... فلا يتبقى عنده شكّ في أنّ النظام "علماني"، "قوي"، و"مستقرّ"!

من جانبه كان الأسد، في أوّل حديث له مع صحافي غربي منذ انطلاق الانتفاضة، يتابع إيصال رسائل مشابهة لتلك التي أرسلها ابن خالته، رامي مخلوف، في الأسابيع الأولى من الانتفاضة، ولكن على نحو أكثر استهدافاً لهواجس الغرب، حكومات وشعوباً في الواقع، وأعلى نبرة من حيث توصيف المخاوف والهواجس، فضلاً عن نصب الفزّاعات. هنا بعض أبرزها: 1): التحذير، المبطّن بالوعيد، من مغبّة التدخل العسكري في سورية، حيث لن يعيد الغرب إنتاج افغانستان جديدة واحدة، بل "عشرات الأفغانستانات"؛ و2) التذكير بأنّ نظامه يقاتل "القاعدة" والإسلاميين، وبالتالي من مصلحة الغرب أن يقف على الحياد، هذا إذا لم ينخرط في المعركة مع النظام؛ و3): التدخّل في شؤون النظام "سوف يحرق المنطقة بأسرها"، وإذا كانت "الخطة تسعى إلى تقسيم سورية، فإنّ هذا يعني تقسيم المنطقة بأسرها"، هنا أيضاً. سورية هي "محور المنطقة، فإذا شئتم العبث بالأرض فسوف تتسببون في هزّة أرضية"؛ و4): البلدان الغربية سوف تصعّد الضغوطات على النظام، "بالتأكيد"، كما يشدد الأسد، قبل أن يردّ بهجوم معاكس يذكّر بحديثه الشهير مع صحيفة "وول ستريت جورنال" قبيل الانتفاضة: لكنّ سورية مختلفة، في كلّ اعتبار، عن مصر وتونس واليمن. التاريخ مختلف. والسياسة مختلفة".

الرسائل إلى الداخل السوري متعددة بدورها، ولعلّ أبرزها ـ وأدعاها إلى التأمّل من جانب بعض أطراف المعارضة السورية، للمفارقة الصارخة ـ أنّ الأسد ليس لديه وقت للمعارضة، فضلاً عن أنه لا يعرف ماهية المجلس الوطني السوري، ويعرف في المقابل أنّ هذا المجلس لا يمثّل الشعب السوري (الذي، غنيّ عن الاستطراد، منح الشعبية والشرعية للأسد وحده، إلى الأبد!). كذلك فإنّ إيقاع "الإصلاحات" ليس بطيئاً كما يظنّ البعض، إذْ أنّ توقيع قانون "إصلاحي" يستغرق 15 ثانية، أمّا تطبيقه فهنا المعضلة، وهنا تتدخّل العوامل "الموضوعية"، و"تعقيدات المجتمع السوري". المجازفة الأخرى، حسب الأسد، هي عدم انتظار "نضج الرؤية"، والمسارعة إلى إصدار قانون "إصلاحي" لا يناسب المجتمع، فتبدأ عندها "الانقسامات"، خاصة وأنّ مطالب الناس اقتصادية ومعاشية، وليست سياسية بالدرجة الأولى، في يقينه. كذلك فإنّ الانتفاضة الراهنة هي "صراع بين النزعة الإسلامية والقومية العربية العلمانية"، ولهذا يضيف الأسد: "نحن نقاتل الإخوان المسلمين منذ خمسينيات القرن الماضي، وما نزال نقاتلهم"، مفترضاً أنّ نظام "الحركة التصحيحية" لم يبدأ سنة 1970، حين استولى الأسد الأب على السلطة، بل قبل عشرين سنة قبلها!

لافت، مع ذلك، أنّ الأسد اختار هذا التوقيت بالذات لكي يوجّه رسائله إلى الخارج والداخل، عن طريق هذا الصحافي، وهذه الصحيفة؛ ومن الحكمة عدم عزل الواقعة عن متغيرات الحراك الشعبي والأوضاع الميدانية على الأرض، بالإضافة إلى التطورات الإقليمية التي كان أبرزها مقتل معمر القذافي وسقوط نظامه، ثمّ بدء عمليات انسحاب جيش الاحتلال الأمريكي من العراق، وتزايد التلميحات الغربية إلى عدم انتفاء الخيارات العسكرية في سورية. فعلى نقيض ممّا يرّوج النظام، مثلما كان دأبه بين فينة وأخرى طيلة أشهر الانتفاضة، أخذت خيارات الحلّ الأمني والعسكري تضيق أكثر فأكثر حتى وصلت إلى طريق مسدود من حيث حصيلتها الردعية والقمعية، رغم تشديد العنف إلى مستويات جديدة قصوى، واستخدام مختلف صنوف الأسلحة. كذلك صارت الانشقاقات، على تواضعها وتشتت بؤرها وصعوبات تحصينها من البطش المضاد، عامل إنهاك جديد للوحدات العسكرية الموالية التي يستخدمها النظام بصفة حصرية.

ورغم أنّ موافقة النظام على خطة عمل الجامعة العربية لم تكن مفاجئة، خاصة وأنّ الخطة تجبّ تماماً بنود المبادرة العربية التي احتوت على تفاصيل إجرائية وتطبيقة ورقابية على مراحل، فإنّ ملابسات تلك الموافقة تشير إلى أنّ النظام لم يفلح في الفرار من ورطة مزدوجة: إذا لم يوافق، وتعرّض بالتالي إلى أكثر من حرج على صعيد حلفائه، وقد صاروا قلّة قليلة؛ أو إذا وافق ولم يطبّق شيئاً، أو أوحى بتطبيق القليل فقط من بنود الخطة. ومن الواضح أنّ الجامعة العربية، وهي مجمع تناقضات الأنظمة العربية جمعاء، وآخر مَنْ يساند الانتفاضات العربية، لم تكن في وارد التحرّك هذه المرّة، وعلى هذا النحو، لولا أنّ الإشارات الغربية باتت أوضح حول "تدويل" مأزق النظام السوري، مترافقة مع عجز النظام عن كسر الانتفاضة، وفشله في إقناع القوى الإقليمية والدولية الكبرى بأنه قادر على الحسم في أي وقت قريب.

بهذا المعنى فإنّ خطة الجامعة العربية قد تكون طوق نجاة للنظام قبل الشعب السوري، ولكن من واجب الانتفاضة السورية أن تمسك بالطوق قبل إلقائه إلى الغريق، فلا تحاوره حول شروط انتشاله بقدر ما تتفاوض حول أنساق تفكيك النظام بأسره، وصولاً إلى إسقاطه التدريجي التامّ، بمؤسساته ورموزه الأمنية والعسكرية والسياسية والتجارية كافة. هذه، في الإجمال، سياقات تشير إلى برهة قوّة للشعب، ومنعطف انهيار للنظام، وتفرض على جميع تنسيقيات الانتفاضة ونشطائها، إسوة بأطياف المعارضة في الداخل والخارج، تفعيل الحراك الشعبي أكثر من أي وقت مضى، والارتقاء إلى مستوى امتلاك المبادرة بدل انتظار نتائجها. فليس دون أسباب وجيهة أنّ الأسد يهرع اليوم إلى حضن صهيوني عتيق مثل الـ"صنداي تلغراف"، وأن يلقى فيه الكثير من الرعاية والدفء والحنان!