وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 29 سبتمبر 2011

"هيئة التنسيق الوطني" السورية: رهانات قبض الريح


إذا صحّ الخبر، الذي أورده أصحاب الشأن أنفسهم، بأنّ السفير الأمريكي في دمشق، روبرت فورد، طلب الاجتماع مع أعضاء المكتب التنفيذي لـ"هيئة التنسيق الوطني" السورية؛ وأنّ الموعد لم يُضرب في مكان سرّي، بل في "مكتب الهيئة في الحجاز"، كما أشار الخبر؛ فإنّ التطوّر هذا هو الأهمّ، ربما، بعد المؤتمر العام للهيئة، والذي انعقد في إحدى ضواحي دمشق، أواسط أيلول (سبتمبر) الجاري. تلك، في جانب أوّل، جرعة علانية لافتة، لجهة الانفتاح على الولايات المتحدة (والأمر يبدو تطوراً مذهلاً إذا ما تذكّر المرء مقدار حساسية بعض اليساريين، أو بالأحرى "اليسراويين"، من أعضاء المجلس المركزي والمكتب التنفيذي، تجاه اللقاءات أو الحوارات مع القوى الغربية). وهي، من جانب ثانٍ، نقلة مفاجئة تسير على نقيض من روحية البيان الختامي الذي صدر عن المؤتمر، وخاصة لاءاته الثلاث (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الاجنبي)؛ إلا أذا اعتبرت الهيئة أنّ الحوار مع سفراء من عيار فورد، يمثّل القوّة الكونية الأعظم، ورأس الحلف الأطلسي، لا تندرج في فلسفة استدراج التدخل الخارجي.

وفي مقالة سابقة ("القدس العربي"، 15/9)2011) توقفت عند الموقع الراهن لـ"إعلان دمشق" في حركة المعارضة السورية الكلاسيكية، والداخلية عموماً، مستخلصاً أنّ الإعلان يمكن بالفعل أن يتحوّل إلى "بيضة قبّان" في ترجيح أي تجمّع أو ائتلاف يوحّد هذه المعارضة، شرط أن يفلح في استعادة دور المظلة، التي بلا ثقوب بالطبع. كما أرجأت الحديث عن "هيئة التنسيق الوطنية"، التي كان مؤتمرها يوشك على الاجتماع، حتى تتضح خياراتها السياسية، سواء في أدبياتها ومشاريع برامجها، أو من خلال تركيبة مجلسها المركزي ومكتبها التنفيذي. ورغم أنّ عدداً كبيراً من هؤلاء كانوا، ويظلون، في عداد شخصيات المعارضة الكلاسيكية الأبرز، وتضحياتهم لا تحتاج إلى استذكار أو تشديد، خاصة خلال عقد توريث بشار الأسد؛ فإنّ فضيلة وجود هؤلاء، في المؤتمر وفي القيادة، لا تطمس حقيقة وجود آخرين كانوا، ويظلون، نماذج معاكسة من حيث مغازلة النظام، أو مهادنته، أو حتى موالاته.

أيضاً، لا نعدم في صفوفهم مَنْ كانوا، حتى عهد قريب، أصدقاء النظام، لأسباب ليست خافية، وليست انتهازية صرفة فحسب؛ وأصدقاء لبعض "خصوم" النظام، من أمثال رفعت الأسد أو عبد الحليم خدام، في آن معاً، ودون أن يتسبب هذا التأرجح في إزعاج لأيّ من الفريقين، النظام و"الخصوم"! وقد يقول قائل إنّ هذه أيضاً حال بعض معارضي الخارج، الذين تعاونوا مع رفعت الأسد ومع خدام، على هذا النحو أو ذاك، في هذه الحقبة أو تلك، وها هم اليوم يصولون ويجولون باسم المعارضة. وهذا صحيح بالطبع، والأمثلة عليه ليست البتة قليلة، لولا أنّ غالبية هؤلاء يقيمون اليوم في لندن او باريس أو واشنطن، وليس في حال ميسّرة من الحلّ والترحال بين دمشق والخارج، دونما مساءلة أمنية، وربما بكثير من "تطنيش" السلطة الأقرب إلى التسهيل.

وتلك، في الظنّ، معادلة حساسة ومركبة وليست ذات وجه واحد، لأنها ببساطة تتجاوز الطعن في السلوك الشخصي إلى الطعن في المسلك السياسي والأخلاقي لزيد أو عمرو، خاصة إذا تولى موقعاً قيادياً مباشراً، عبر الانتخاب؛ أو أنس في نفسه هذا الموقع فتولاه، طواعية، وصار يقود عبر فضائية تارة، أو مقالة في صحيفة طوراً، أو مؤتمر ينعقد هنا وهناك، وما أكثر هذه! يزيد الطين بلة، رغم أنّ الطين مستنقِع متراخ أصلاً، أنّ هؤلاء بالذات هم الأكثر تمسحاً بأكذوبة "تمثيل التنسيقيات"، حيث يتضخّم الزعم بأنّ شباب الانتفاضة ليسوا مشاركين ومتفقين في الرأي وراضين فحسب، بل هم في هرم القيادة أيضاً! وعلى نحو أقرب إلى الخرافة التشويقية، يروي البعض كيف تمكّن هؤلاء الشباب من حضور المؤتمر في غفلة من الأمن (المنتشر بكثافة، مع ذلك، بحسب بيانات أصحاب الشأن!)؛ وكيف رفضوا المشاركة عبر الـ"سكايب"، وأصرّوا على التواجد باللحم والشحم؛ فضلاً عن الطرائق الجيمسبوندية التي ضمنت إعادتهم إلى بيوتهم، عبر الأزقة والحواري، دون أن تفطن الحواجز الأمنية إلى وجودهم في "السيارات الأربعين" التي أقلّت مندوبي المؤتمر بعد انتهاء أعماله!

وإذا جاز للمرء أن يحيي شجاعة المعارضة الكلاسيكية في عقد مؤتمرات داخل البلد، وهذا هو الإجراء الثوري الأمّ والأهمّ بالطبع، حتى إذا انطوى على مجازفة منح السلطة فرصة الزعم بأنّ في البلد حرّية تعبير واجتماع؛ فإنّ مضارّ التفاصيل السابقة لا تقتصر على تلطيخ صورة هذه المبادرات، ولا تشكل محض شوائب أو مثالب، بل هي تنقلب إلى جزء مكمّل ولا يتجزأ من الروحية السياسية والتنظيمية للمبادرة. وبذلك فإنّ من الجائز للمرء أن يضع تلك التفاصيل، أو بعضها الأشدّ فظاظة (مثل وجود مندوبين من أصحاب البندول المتأرجح أبداً بين النظام والمعارضة)، في قلب الأسباب أو المناخات أو الحقائق التي كانت وراء هذه الإشكالية أو تلك في البيان السياسي الختامي. ليس منطقياً، بالمعنى الصوري الأبسط، أن يكون امرؤ معتدلاً مع النظام، وأن يقبل بإسقاطه في آن؛ وليس منتظَراً منه، بالتالي، أن يضع الجلاد والضحية في مصافّ واحدة من حيث نبذ العنف، إلا إذا كان يؤمن بضرورة التوصّل إلى عناق بين القاتل والقتيل، قبيل برهة الذبح!

وهكذا يجوز للمرء أن يبلغ الخلاصة المنطقية التالية: أليس عجز المؤتمر عن استخدام تعبير "إسقاط النظام"، مردّه أنّ غالبية في صفوف المندوبين ليست موافقة على، وربما غير راغبة في، إسقاط النظام؛ لاعتبارات شتى، تبدأ من مسلك البندول المتأرجح، وتمرّ بهواجس البعض المتقاطعة مع خواف هنا أو رهاب هناك من احتمالات المستقبل، ولا تنتهي عند اتفاق بعضهم مع نقطة أو أكثر في سردية النظام عن الانتفاضة؟ وإذا كان "الشعب يريد إسقاط النظام"، كما يقول الشعار الذي استقرّ في ضمير الانتفاضة منذ أشهر، فمَن الذي لا يتفق مع الشعب في صفوف مندوبي مؤتمر حلبون، ولماذا؟ وإذا صحّ أنه معارض الآن للنظام الراهن، أو كان في الماضي أيضاً، أفلا يبدو على نقيض من المعارضة التي تمارسها غالبية ساحقة من شعب الانتفاضة؟ وهل، حقاً، يستوي هذا المعارض مع شباب التظاهرات، لا سيما أولئك الذين قيل إنهم حضروا المؤتمر، في معارضة النظام ذاته؟

ثالثة الأثافي هي حكاية اللاءات الثلاث، التي لم تكن مصادفة أنها لاقت الاستحسان الشديد من صحافة النظام، والإدانة الشديدة من تنسيقيات الانتفاضة، حتى صارت عنوان مؤتمر حلبون الأبرز، بل صارت هوية أولى لـ"هيئة التنسيق" ذاتها. ففي الـ"لا" التي تخصّ سلمية الحراك الشعبي، تفهّم المؤتمر أنّ "استمرار الخيار العسكري ـ الأمني للسلطة الحاكمة وتغول القوى الأمنية والجيش وعناصر الشبيحة في قمع المتظاهرين السلميين هو المسؤول الرئيسي عن بروز ردود أفعال انتقامية مسلحة"؛ ولكنّ النصّ سكت تماماً عن تحديد هوية الجهة، أو الجهات، التي صدرت عنها ردود الأفعال الانتقامية المسلحة تلك: هل هي التظاهرات؟ هل استخدم متظاهر بندقية أو مسدساً أو قنبلة أو كوكتيل مولوتوف؟ وإذا كان الجواب بالنفي، وهو كذلك في حقيقة الأمر، فما الغرض من هذا التحذير الأشبه بـ"ضربة وقائية"، إذا لم يكن تسليماً ضمنياً بمكوّن أساسي في سردية السلطة عن الانتفاضة، أي وجود "مسلحين" و"مندسين" و"عصابات" في صفوف المتظاهرين؟

ثمّ ماذا يقول النصّ، في المقابل، عن جرائم الفرقة الرابعة وميليشيات أل الأسد وشبيحة النظام؟ تعبير خجول، ورديّ وأجوف وقادم من مجرّة أخرى لا صلة لها بما ارتُكب من فظائع في درعا وبانياس وحمص وحماة ودير الزور وريف دمشق، يحضّ على "المراجعة" ليس أكثر: "لا بدّ للجيش العربي السوري وللقوى الأمنية من مراجعة عميقة لممارساتها حيث أنه لا انتصار لجيش على شعبه، ولا مستقبل لشعب لا يصونه جيشه"! وهذه مقدّمة لـ"لا" ثانية، تعتبر "استمرار النهج الأمني للسلطة تحفيزاً خطيراً" لنزعات "التجييش الطائفي والمذهبي"؛ لكنها تحضّ العباد على على "ضرورة التمسّك بأسلوب النضال السلمي"، بل و"ابتكار" أشكال منه "تحافظ عليه وتمكنه من تحقيق أهدافه". ولسنا نعرف أيّ مندوب أريب أقنع المؤتمر بأنّ الانتفاضة تعتمد أسلوباً آخر غير النضال السلمي، أو أنها كفّت في أيّ يوم عن ابتداع عشرات الأشكال فيه، ومن أجله؛ وما إذا كانت لافتة واحدة، في أية مظاهرة، قد طالبت بإسقاط الخيار السلمي ورفع السلاح في وجه النظام. ليس مفاجئاً، هنا أيضاً، أن يكون أصحاب المواقف البندولية هم الذين دافعوا على الفضائيات عن مشروعية هذه الـ"لا"، إذْ شاهدوا بأمّ العين (وأيّ عين!) شعارات عنف وتجييش وعسكرة!

الـ"لا" الثالثة تتمسك بـ"الثوابت الوطنية"، (ولا ندري من الذي لا يفعل، علانية على الأقلّ)، لكي تربطها بـ"رفض التدخل العسكري الأجنبي" من جهة أولى، و"رفض استخدام العنف في العمل السياسي" من جهة ثانية، وفي جملة واحدة! هذه خلطة عجيبة حقاً، لأنّ "الثابت" في العمل الوطني لا يحتاج أصلاً إلى تثبيت، إلا إذا شاء النصّ الإيحاء بأنّ ثابتاً ما (هو، هنا، الاستقواء بالأجنبي) قد اختلّ في صفوف المتظاهرين، وصار الظاهرة الشائعة وليس الحالة المنفردة المنحصرة. وإذْ يسكت مؤتمر حلبون عن واجب حماية المدنيين إزاء "تغوّل" النظام، والتعبير للبيان الختامي، فإنّ أشكال هذه الحماية المطلوبة تتعدد وتتباين دون أن تتضمن دائماً، وبالضرورة، استدعاء الجيوش الأجنبية والمطالبة بالتدخل العسكري. في وسع المنظمات غير الحكومية، ذات المصداقية والنزاهة، أن ترسل مراقبين دائمين يتولون الإبلاغ عن فظائع النظام، إلى أنصار منظماتهم وإلى الرأي العامّ العالمي؛ ويمكن للصحافة الدولية المستقلة أن تقوم بدور مماثل، بل أبعد أثراً ربما، وأكثر قدرة على تشكيل الضغط. أمّا اعتبار أيّ تفكير في حماية المدنيين بمثابة دعوة للتدخل الخارجي، فهو في الحدّ الأدنى استقالة من هذا الواجب الملحّ، بذرائع زائفة، كما أنها مخجلة أيضاً. وفي كلّ حال، ينبغي على اللقاء مع السفير الأمريكي في دمشق أن يبدّد هذا "الثابت" الذي تتمسك به "هيئة التنسيق"، أو أن يجرّده من ثبات المعنى في أقلّ تقدير!

ولعلّ الخلاصة، الواقعية، التي بلغها مؤتمر "هيئة التنسيق" الداخلي هي، بالفعل، تلك التي يقول بها بعض كبار مهندسيه: هناك معارضة تريد إسقاط النظام، وأخرى تريد تغييره من داخله. وأمّا الدرس، المرير، فهو أنّ النظام ساقط لتوّه، وانهياره الختامي مسألة وقت، والطامحون إلى مصالحته مع الشعب والمستقبل والحياة هم، في أفضل توصيف رحيم، يراهنون على باطل وقبض ريح!

الأحد، 25 سبتمبر 2011

بيت الانتفاضة ومفتاح الشاعر

اتخذ الشاعر السوري الصديق نزيه أبو عفش موقفاً من الانتفاضة السورية، لخّصه (وأرجو أنني لا أختزل تفكيره هنا، ولا أنتقص من عناصره) في هذه العبارة: "لماذا تطلبون منّي أن أكون سعيداً؟ البيت كلّه يوشك أن يتهدَّم فوق رؤوس ساكنيه، وأنتم تختصمون على مَنْ يحق له أن يحمل المفاتيح". وليس غبناً لمعنى هذه الجملة، أو لواحد من أبرز معانيها، أن يفهم المرء هذا المدلول البسيط: هو صراع حول ملكية البيت وهوية حاملي المفاتيح، أكثر ممّا هي انتفاضة حول ماضي البيت وحاضره ومستقبله؛ وحول نمطين، على الأقلّ، من ساكنيه: واحد يراه بيتاً للجميع تتساوى فيه حقوق المواطنين وواجباتهم، وآخر يراه مزرعة للنهب والفساد والاستعباد...

ليس غبناً، كذلك، أن يشكّل الموقف مفاجأة صاعقة، ومحزنة تماماً، ومثيرة للأسى، وبعض السخط، والكثير من العتب؛ إذْ يصدر عن شاعر لم نعرف عنه ممالأة لاستبداد، أو استهانة بالكرامة الإنسانية، أو تسليماً بالأمر الواقع الذي يفرضه طاغية وتشرّعه طغمة وتسنده عصابة. وحتى حين اتخذ أبو عفش موقفاً سابقاً، مدهشاً بدوره، إزاء انسحاب قوّات النظام السوري من لبنان، ربيع 2005، وتمثّل في مقالته الشهيرة "يوميات العار"؛ فإنّ حوافز أبو عفش لم تكن تدافع عن النظام السوري، رغم أنها كانت تنقل المياه إلى طواحينه بذرائع يكتنفها الالتباس والإبهام، ولا تتفادى تماماً الوقوع في قسط من المثلبة ذاتها (الفخار القومي، أو القومجي بالأحرى)، التي تتنطح لمساجلتها. كان صديقنا ينتصر لـ"العرق السوري"، و"عظام يوسف الخال ودماء كمال خير بك"، و"أشلاء وغصّات ودماء الجنود السوريين الذين ماتوا" دفاعاً عن لبنان، ضدّ "عنصرية الضمير والعقل"، و"أبلغ الصيحات العنصرية وأشدّها دموية وسفاهة وسعار عقل"، لدى عدد من كتّاب ومثقفي لبنان.

شخصياً، ومن موقع تثميني العالي لمكانة أبو عفش في المشهد الشعري العربي، وليس السوري وحده، لم يصدمني موقفه من الانتفاضة (رغم أنني كنت، وأظلّ، في عداد المندهشين من، والعاتبين على، والمخالفين تماماً لذلك، الموقف الركيك والاختزالي)، فهذا حقّ مشروع له؛ بقدر ما راعني تصريف الموقف ذاته إلى قصائد وشذرات شعرية، كانت تضيف الإهانة إلى الجرح، كما أجيز لنفسي القول. وكنت، وأظلّ أظنّ، أنّ على طراز الشعر الذي يكتبه أمثال أبو عفش أن يتأنى طويلاً، وأن يحفر ويتشرّب ويختزن ويختمر أطول فأطول، قبل أن تولد قصيدة تخصّ انتفاضة شعبية عارمة، في أسابيعها الأولى، تنفتح على مآلات معقدة ليست البتة مرشحة لاستيلاد خواتيم سريعة، مرئية، مبسطة، أو قابلة لأي تبسيط.

وهكذا قرأت، ليس دون مرارة وتوجس، قصيدة أبو عفش "ربيع المآتم"، التي نشرها أواسط نيسان (أبريل) الماضي، وفي مطلعها: "نعم، أعرفُ أنّ نيسان أقسى الشهور/ لكنْ، يا الله/ إنْ كنتَ تعرف ذلك أيضاً/ فلماذا أوفدتَ كلّ هذه الأزهار إلى وليمته؟". جرعة إضافية من التشاؤم يحملها المقطع الثاني: "نطلّ على الربيع/ كمنْ يطلّ على سرادق مأتم/ كأنما لا أحد يعرف طريقاً إلى عرس!/ الأزهار كلّها محمولة إلى مقابر موتى:/ حمراءُ موتى. صفراءُ موتى. بيضاءُ موتى. ذبائحُ موتى/ الحياة كلّها ماشية خلف نعوش موتى/ يا إلهي! خلف جنازة مَنْ/ يهرول هذا الربيع كلّه؟". أمّا المقطع الأخير فهو ذروة دراماتيكية، في يقيني، تنقل قصيدة أبو عفش إلى مصافّ اللافتة التي ترفع شعاراً مثلما تعلن نعوة: "افرحوا!/ افرحوا واطمئنوا!/ عمّا قريب/ كلّ هذه الأزهار/ ستغدو عتيقة وفاسدة/ تُرى، كم يتوجّب علينا أنْ ننتظر/ لنشهد ولادة ربيعٍ آخر؟".

طرائق التأويل، وتلك التي تخصّ القارىء العريض بصفة خاصة، جبارة ومتجبرة في آن، ولعلّ سواي لا يرى في هذه القصيدة ما رأيته من تشاؤم إزاء ربيع (الثورات العربية، والانتفاضة السورية... أليس هو ذاك؟) مكتظ بالمآتم والمقابر والنعوش والجنازات، ولكن دون بصيص أمل واحد من جهة؛ وضمن مساواة صاعقة، لا تتمسّح حتى بالتسامح الميتافيزيقي المعتاد الذي يطبع مزاج أبو عفش، بين القتيل والقاتل، والضحية والجلاد، والمواطن الثائر والطاغية المستبدّ، من جهة ثانية. فإذا أجزتُ لنفسي تنزيه صديقي الشاعر عن ممالأة جرائم الفريق الثاني، فكيف أجيز له صمته عن عذابات الفريق الأوّل؟ وكيف، في مبتدأ الأمر ومنتهاه، يمكن لانتفاضة يتقابل فيها الصدر المفتوح مع سبطانة الدبابة، أن تكون محض صراع على مفاتيح البيت؟

نتذكر ذلك السجال الكبير، والخطير، الذي دشّنه الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور أدورنو ذات يوم، حين أطلق عبارته الرهيبة "كتابة الشعر بعد أوشفتز أمر بربري"، حول ما إذا كان الشرّ المطلق يفرض قيوداً على الفنّ المسلّح بالوجدان، أو المتكيء على الضمير. فهل كان ربيع الانتفاضة قاسياً في نظر أبو عفش، إلى درجة التسبب في احتباس القصيدة، وعزوف الشاعر عن كتابتها، كما يشير صمته المطبق طيلة أسابيع؟ أم، كما يساورني الأمل شخصياً، كان جزّ حنجرة الزجّال الحموي إبراهيم القاشوش، أو تكسير أصابع رسام الكاريكاتير علي فرزات، أو الاعتداء الوحشي على والدة ووالد الموسيقي مالك جندلي... كفيلاً بإقناع أبو عفش أنّ "الخصومة" لا تدور حول امتلاك المفاتيح، بل هي انتفاضة من أجل استرداد الحقّ في الصوت، والتعبير، والإبداع، والكرامة؟

الخميس، 22 سبتمبر 2011

قشّة رفعت الأسد: منقذة الغريق أم قاصمة الظهر؟

إذا صحّت الأنباء عن إعادة تأهيل أمثال علي دوبا (المسؤول الأبرز عن المخابرات العسكرية في عقود حكم حافظ الأسد)، ومحمد الخولي (نظير دوبا في جهاز مخابرات القوى الجوية، والأثير عند الأسد رغم أخطائه الفادحة، وأشهرها المحاولة الفاشلة لنسف طائرة "إلعال" في مطار هيثرو، ربيع 1986)؛ فإنّ المأزق الذي يقود بشار الأسد إلى الاتكاء على هؤلاء، بحثاً عن الخلاص، يمكن أن يقود منطقياً إلى اتكاء آخر مواز، لا يتكامل مع الأوّل بل قد يتناقض معه: بحث ماهر الأسد عن قشة تنفذ النظام الغريق، في شخص رفعت الأسد، عمّه وقدوته ومثاله الأعلى. وإذا كانت الأسباب التي دفعت الأسد الأب إلى إبعاد أمثال دوبا والخولي وعلي حيدر وشفيق فياض وإبراهيم الصافي (أي كفّ يدهم عن أي نفوذ يمكن أن يعكر سيرورات توريث الفتى بشار)، قد طُويت اليوم لأنّ الانتفاضة تضع جميع القتلة والطغاة والمستبدين والفاسدين في سلّة الحساب ذاتها؛ فلماذا، إذاً، يُستثنى العمّ من لائحة المنقذين؟

ذلك لأنّ أرصدة العمّ السياسية والأمنية والعسكرية والمالية، سواء داخل صفوف الضباط أو المدنيين، في الحزب أو الدولة أو المجتمع، ليست محدودة، وليست مجمدة البتة؛ وهي بالتالي قابلة للتوظيف الفوري، سواء جرى استثمارها من داخل سورية لكي تعطي ثمارها في الداخل السوري وتُرحّل إلى الخارج في آن معاً، أو جرى العكس: استثمار من الخارج إلى الداخل، حيث تكتسب من اسباب القوّة ما يجعلها قابلة للتصدير مجدداً إلى الخارج! إنه ما يزال يتمتع بولاء شرائح واسعة من كوادره القديمة (السياسية والعسكرية، الرسمية وغير الرسمية) التي صعدت منذ أوائل الثمانينيات على يديه، بفضل منه، وحين كان الرجل الثاني في البلاد. وتلك الكوادر اضطرت ـ بعد تقليص سلطاته، وإبعاده خارج سورية إثر صراعات عام 1984، وحلّ "سرايا الدفاع"، ذراعه العسكرية الضاربة ـ إلى التقاعد أو الإنزواء أو التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وهي، أيّاً كانت مواقعها الراهنة، في شُعب التجنيد أم في فروع المخابرات المختلفة أم في ألوية الفرقة الرابعة، مستعدّة إلى الإنضواء من جديد في كنف "القائد"، ولعلها أيضاً قادرة على العودة السريعة إلى احتلال مواقع متقدمة في الترتيبات الجديدة.

كذلك فإنّ رفعت الأسد قادر على مصالحة النقائض، وتقريب الهوّة بين شيوخ السلطة وكهولها وشبّانها، وبين الخاسرين منهم والرابحين، وحيتان الفساد إسوة بالقطط السمان، والجوارح التي تقتات على الجيف مثل تلك التي تستأثر بالطرائد الأدسم. وهو عسكري سابق امتهن الـ "بزنس" ذا العيار الثقيل، واستثماراته داخل سورية وخارجها تُحسب بالمليارات، وتحالفاته وثيقة مع التجّار ورجال الأعمال حتى جاء زمن عُدّ فيه "حامي التجّار" بامتياز. وحين كان قويّاً، على رأس جيشه الخاصّ، النخبوي تماماً في تسليحه وامتيازات أفراده، يقود تحالفاً عجيباً من العسكر والتجّار والأكاديميين (إذْ لا ننسى أنه "دكتور" في العلوم السياسية، ورئيس سابق لـ "رابطة خرّيجي الدراسات العليا")؛ أشاع رفعت الأسد ثقافة "عسكرة التجارة"، التي تجعل العسكر شركاء دون رساميل في أيّ وكلّ تجارة، أو "تَجْرَنة العسكر"، حيث ينقلب الضباط إلى تجار في كلّ وأيّ صنف، وسط ابتهاج مختلف فئات البرجوازية السورية الطفيلية، واستسلام أو استقالة البرجوازية الكلاسيكية.

وليس من المستغرب أن يبلغ تحالف مافيات النهب العسكرية ـ التجارية التي تحكم سورية اليوم ذلك الطور المأزوم الذي يحصر قشة الخلاص في شخص رفعت الأسد، لأنه حامي الفاسدين وسيّد الناهبين، منحاز إلى الليبرالية الاقتصادية، النظيفة أو الرثة أو التي بلا هوية؛ عسكري التكوين والمزاج، مستعدّ دائماً للبطش والضرب بيد من حديد؛ تحالفاته العربية (التي تشهد عليها زياراته واتصالاته وصداقاته وشراكاته) لا يستهان بها، بل هي تؤهلّه لأداء دور صمّام الأمان في المراحل القادمة من تطوّر الحياة السياسة والإقتصادية السورية. وبمعزل عن الترهات التي ينطق بها نجله رئبال، الذي يدير من لندن "منظمة الديمقراطية والحرية في سوريا"، فإنّ التبدّل الدراماتيكي الذي أدخله رفعت الأسد على خطابه، بحيث صار شيخاً في الديمقراطية وحقوق الإنسان (قد لا ينافسه إلا شيخ/ رفيق درب سابق من طراز عبد الحليم خدام!)، يمكن بالفعل أن ينطلي على البعض ممّن يبحثون عن الذريعة الأدنى للسير في ركابه.

بيد أن احتمالات أدوار قادمة لرفعت الأسد في الطور الراهن من اهتراء النظام ترجحها، أيضاً، ثلاثة تطورات نشأت في حقبة غيابه عن السلطة، لكنها ما تزال قيد التأثير، وهي مرشّحة لمزيد من التفاعل، أو بالأحرى: التفاعل المضادّ، في حال استدعائه مجدداً إلى القصر الرئاسي. التطوّر الأوّل هو أنّ برامج "التغيير" التي اقترنت بصعود وتوريث بشار الأسد، خصوصاً تلك التي اندرجت تحت مسميات "الليبرالية الإقتصادية" و"تحديث المؤسسات" و"محاربة الفساد"، و"إحكام الرقابة"، و"تقديم الكوادر الشابة"... اقتضت، بالضرورة، إنقسام بنية النظام إلى فريقين: رابح، وخاسر. المشكلة، مع ذلك، أنّ المرشّحين للخسارة لم يكونوا على هوامش السلطة بل في قلبها أو ربما في قمّة هرمها، وأنّ وتائر "التغيير" لم تتكفل أصلاً بإقصاء هؤلاء إلى الهوامش.

الوجه الآخر لهذه المشكلة هو أنّ المرشّحين للربح بدأوا يصعدون من منتصف الهرم أو من قواعده السفلى، وبعضهم كان في الهوامش أو في الصفوف الخلفية، وأنّ الوتائر لم تكن، هنا أيضاً، كافية لترقيتهم سريعاً إلى الصفوف الأولى. وهكذا، في ضرب مثال عملي: كيف سيجري توليف توأمة مسالمة بين أعمال رامي مخلوف، ابن الخال، وأعمال سومر الأسد، ابن العمّ، ولكلّ منهما أتباع في صفَّيْ الربح والخسارة؟ وكيف لضابط سابق في "سرايا الدفاع"، مثل معين ناصيف، صهر رفعت الأسد، أن يتصالح مع ضابط أكبر في المخابرات العامة، مثل حافظ مخلوف، ابن خال الرئاسة، وبينهما ما صنع الحدّاد طيلة سنوات؟

التطوّر الثاني أنّ توريث الأسد الابن اقتضى إقامة تعاقد أكثر متانة بين عناصر التحالف العسكري والأمني والتجاري ـ الاستثماري الذي يحكم سورية، ولكنه اقتضى أيضاً المسّ، برفق تارة أو بخشونة طوراً، بشروط تعاقد أقدم بين العسكر ومختلف فئات وشرائح البرجوازية السورية خلال عقد السبعينيات وأواسط الثمانينيات. فهذه البرجوازية، التجارية والصناعية أساساً، طالبت بالمزيد من الليبرالية والإنفتاح واستحداث القوانين التي تكفل صون رأس المال وتحصين المؤسسة الإستثمارية وإصلاح الأنظمة المصرفية. واستحداث مثل تلك القوانين سار على نقيض تامّ مع مصالح عشرات الضباط الذين "تبرجزوا" وكدّسوا ثروات هائلة، لأنّ بنية تقاسم القوّة داخل النظام أتاحت لهم تحويل البرجوازية السورية إلى بقرة حلوب، راضية تارة أو مضطرة طوراً.

التحالف بين الفريقين سار على وئام حتى ساعة الانتفاضة، حين بدأت الأعمال تتعطّل، وظهرت آثار العقوبات الأوروبية والأمريكية المباشرة، فتوجّب على العسكر أن يختزنوا ما لديهم من سيولة وعملات، تتناقص حتماً لانها لم تعد تزداد؛ وتوجّب على كبار التجار والمستثمرين أن يدفعوا رواتب الشبيحة ونفقات القمع اليومي للانتفاضة، من رساميلهم السائلة التي أخذت تشحّ يوماً بعد يوم. هل من "منقذ" هنا، في شخص رفعت الاسد ومؤسساته، يملك مليارات في الداخل ومثلها في الخارج، كما ينعم بمرونة عالية في تحريك تلك المليارات، سائلة أو صيرفية، بالنظر إلى أنه خارج العقوبات، فضلاً عن كونه من آل بيت السلطة، بل هو العمّ فيها، والعميد؟

التطوّر الثالث نجم عن اجتماع عناصر التطوّرين السابقَين. ذلك لأنّ الإنقسام إلى صفّيَن، رابح وخاسر، أفضى في المقام الأوّل إلى وقوع شرخ بنيوي عميق في تجانس الإئتلاف الأكبر الذي ظلّ ركيزة معادلات السلطة منذ أواسط السبعينيات: التحالف العسكري ـ التجاري. ولا يفهمنّ أحد أنّ الشطر الثاني من هذا التحالف يعني فئة التجّار الكلاسيكية وحدها، بل شمل أيضاً عشرات من كبار المسؤولين السوريين الذين مارسوا ويمارسون مختلف أنواع الأعمال، مباشرة في حالات محدودة، أو عن طريق أبنائهم في معظم الحالات (الأمثلة كثيرة بالطبع، ومعروفة). وليس تراث رفعت الأسد في هذا سوى المثال الأعلى كعباً وسطوة، من جهة؛ والأشدّ رثاثة وانحطاطاً ومافيوزية، من جهة ثانية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أمرَين جوهريين: أنّ هذا الإئتلاف كان نخبوياً على الدوام، ومقتصراً على فئات محدودة للغاية سواء في داخل السلطة أو خارجها؛ وأنه بدأ، وما يزال، عابراً للتصنيفات السوسيولوجية التقليدية (الطبقية أو المهنية أو الطائفية)، ومتمحوراً في الأساس على ما يسمّى "مصالح الجماعة"Group Interests، أكثر بكثير من مصالح الطبقة أو المهنة أو الطائفة. فإذا تعارضت المصالح بين الشطر العسكري والشطر التجاري من الإئتلاف النخبوي هذا (كما يحدث بقوّة في الأطوار الراهنة من عمر الإنتفاضة)، فإنّ خطوط التحالف القديمة لن تتمكّن من الصمود طويلاً، والعاقبة المنطقية هي انكشاف التناقضات داخل تلك الخطوط، وانقلابها إلى تفكك وانهيار، قبيل التناحر والتصارع. وهكذا يتكرر السؤال: هل من "منقذ"، أو "وسيط"، أو... قشّة يتشبث بها الغرقى؟

بيد أنّ حكمة التاريخ البليغة، وهذه التطورات ذاتها بما تنطوي عليه من جدل وجدل مضادّ، تفيد بأنّ القشّة ذاتها يمكن أن تقوم بالدور النقيض تماماً: أن تقصم ظهر هذا الديناصور، الثقيل المتهالك المترنّح، الذي انتهى إليه النظام السوري، بعد 41 سنة من الاستبداد والفساد والنهب، وبناء شبكات الولاء والاستزلام والاستخبار؛ واعتماد أقصى السياسات التمييزية والطائفية والعنصرية للحفاظ على بقاء النظام، أياً كانت المخاطر الوطنية؛ فضلاً عن الدخول في شتى التحالفات الإقليمية أو الدولية التي تقيم أود النظام، ليس دون ادعاء "المقاومة" و"الممانعة" ومناهضة الإمبريالية...

ذلك، أغلب الظنّ، هو السبب الذي جعل بشار الأسد يتردد في طلب النجدة من عمّه، وهو السبب ذاته الذي سيجعل شقيقه ماهر الأسد يقوم بخطوة معاكسة؛ ليس لأنّ لكلّ من الشقيقين قراءة مختلفة لمآلات النظام السائرة إلى الهاوية، بل لأنّ بلوغ ذروة قصوى في اليأس تجعل من القشة أمل الغريق الأخير، مثلما تجعلها قاصمة ظهر الديناصور. والأرجح أنّ صمت العمّ عن مجريات الانتفاضة لا يفيد تضامنه الضمني العميق مع الاسرة الأسدية في محنتها الأخطر، والختامية النهائية، فحسب؛ بل كذلك تأهب الوحش الرابض، قبيل برهة الإنقضاض والفتك!  

الأحد، 18 سبتمبر 2011

قناة "الدنيا" الموسكوفية

خطاب الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف عن الإنتفاضة السورية، واستسهاله إطلاق صفة "الإرهابيين" على بعض المتظاهرين، واستنكاره عزوف المعارضة عن الحوار مع النظام، يذكّر المرء بمفردات الحرب الباردة، حين كان القاموس أشبه بطبول تهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنها في نهاية المطاف لا تقرع إلا اللغة الخشبية التي تجرّدت من الدلالة، ولم تعد تكترث بتظهير أيّ معنى. وهكذا وجدتني أنساق إلى زيارة واحد من أشهر المعاقل الإعلامية والدعاوية في تلك الحرب، وأعرقها تاريخاً، وأغربها مآلاً: صحيفة الـ "برافدا" الروسية.


.. أو ما تبقى منها الآن في الواقع، إذا كان قد تبقى فيها شيء من أعراف ماضيها الزاخر الحافل!

ذلك لأنّ زائر موقع الصحيفة على الإنترنيت، في الطبعة الإنكليزية، سوف يجد التالي على الصفحة الأولى: في الخبر الرئيسي تقرير عن ثقة الروس بالمواهب العقلية والسياسية والفلسفية لرئيسهم الراهن، وآخر عن قيام الحلف الأطلسي بتشديد الخناق على روسيا، وثالث عن إخفاق الغرب في ليبيا، ورابع عن رغبة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في تدمير صربيا، وخامس عن ساره جيسيكا باركر... الزائر يلاحظ، أيضاً، طغياناً غير عادي للموضوع الليبي، ومن زاوية تمتدح نظام العقيد معمر القذافي، علانية أو استبطاناً، حتى يخال المرء أنّ الـ"برافدا" هي الملحق الروسي لصحيفة "الزحف الأخضر" الليبية، أيام اللجان الثورية!

أمّا أذا تصفّح المرء المادّة المخصصة للشأن السوري، فإنّ الـ"برافدا" تنقلب إلى طبعية موسكوفية من قناة "الدنيا" السورية، فلا تغيب أخبار المندسين والعصابات المسلحة والإرهابيين، ولا تعدم محللاً أريباً يحذّر الكرملين من مغبّة التهاون مع "العرعوريين" في صفوف المعارضة السورية، كما لا تفتقر أعمدة الصحيفة إلى الـ"منحبكجية" على الطريقة الروسية. على سبيل المثال، يرى سيرغي بالماسوف أنّ ردّ الفعل الحادّ الذي صدر من الغرب ضدّ بشار الأسد كان ناجماً عن "حقيقة أنّ الأسد، في سعيه إلى تصفية الإسلاميين، أدخل المزيد من قوى الأمن والدبابات إلى شمالي درعا في بلدة نافا والمنطقة الحدودية مع لبنان في مقاطعة تل كالاح غرب حمص"!

وإلى جانب عدم اهتمام هذا المحلل العبقري بتدقيق أسماء بلدات نوى وتل كلخ، أيّ سخف في الزعم بأنّ الغرب غاضب من الأسد، دفاعاً عن الإسلاميين! وأيّ سماكة دماغ في مساجلة بالماسوف اللاحقة، من أنّ الأسد لا يُلام في قرار نشر الدبابات ما دامت "المعارضة ترفض السلام معه، بزعم أنه يطلق النار عليهم من مدافع الدبابات. ولكن، ماذا يمكن للأسد أن يفعل سوى هذا، حين تقتل المعارضة جنوده؟"؛ أو، في "سحبة" أخرى أين منها مآثر مذيعي ومذيعات "الدنيا"، اتكاء صاحبنا على بيانات وزارة الداخلية السورية، لتكذيب التقارير عن مقابر جماعية، وللردّ على "الحملات المغرضة" التي تشنها قناة "الجزيرة" وسواها.

هل هذه هي الـ"برافدا"، دون سواها؟ كلا، بالطبع، ومن العبث أن يبحث المرء فيها عن رسوبات باقية من أيام زمان، ليس لأنّ العالم تبدّل في روسيا، وحيثما توزّع هذه الـ "برافدا" الجديدة، فحسب؛ بل لأنّ المعارك المالية والقانونية الشرسة التي توجّب أن تُخاض من أجل بقاء الصحيفة واستمرار الاسم ذاته اقتضت مثل هذه الخيارات في التحرير، وفي الخبر والرأي والتغطية. ومن الإنصاف القول إنّ قلّة قليلة فقط من أهل الحنين إلى الماضي والمتباكين على الأطلال هم وحدهم الذين يعيبون على هذه الـ"برافدا" أنها لم تعد تمثّل تلك الـ"برافدا".

المرء، من جانب آخر، لا ينصف هؤلاء أنفسهم إذا لم يتفهم الأسباب العميقة، الوجدانية والتاريخية والعقائدية، التي تدفعهم إلى مقدار هائل من مشاعر النوستالجيا كلما قلّبوا صفحات الجريدة الراهنة، فلم يجدوا فيها ما هو أشدّ جاذبية للقرّاء من طرائف هذا المحلل الشبيح. ذلك لأنّ الـ"برافدا" التاريخية لم تكن محض صحيفة سياسية، بل كانت أشبه بسجلّ وأرشيف وخزّان ذاكرة، سيما عند أولئك الذين ما تزال حميّة الماضي تغلي في عروقهم. ولعلّ الصحيفة عرفت من المصائر المتقلبة مقداراً يكاد يفوق ما عرفه الحزب الشيوعي السوفييتي ذاته، وحين كانت أرقام توزيعها تتجاوز 11 مليون نسخة يومياً، كانت مصداقية الصحيفة تهبط إلى الحضيض في يقين الرأي العام، وكانت تحكمها علاقة تناسب معاكسة: كلما طبعت المزيد من النسخ، ازدادت الهوة بينها وبين الشارع.

والمرء يتذكر أن الإعلام الرسمي السوفييتي كان يتوزع على صحيفتين أساسيتين: "البرافدا" (أي: الحقيقة) و"الإزفستيا" (أي: الخبر)؛ وأمّا النكتة الشعبية، الذكية والصائبة تماماً، فكانت تقول: في الـ"برافدا" لا يوجد "إزفستيا"، وفي الـ"إزفستيا" لا توجد "برافدا". والترجمة: جريدة الحقيقة لا تنطوي على الخبر، وجريدة الخبر ليس فيها حقيقة!

وبعد عام 1991، حين بلغت "بيريسترويكا" ميخائيل غورباتشوف مآلاتها المنطقية الأخيرة، وقعت الصحيفة ضحية معارك شتى، وتنقّلت بين مستثمرين كثر، وتقلّبت توجهاتها، لكنّ ثابتها الوحيد في غمرة هذا التاريخ الصاخب المتبدّل كان ذلك القاموس الأشبه بالطبول، حيث لا حقيقة في الخبر، ولا خبر عن الحقيقة. وكيف، إذاً، لا تجد الـ"برافدا" توأمة تامة مع شقيقتها "الدنيا"، على مبعدة آلاف الأميال، إذا كان الطبل هو الطبل؟

الخميس، 15 سبتمبر 2011

"إعلان دمشق": بيضة القبّان أم المظلة ذات الثقوب؟

في وسع المرء أن يضع جانباً (مؤقتاً، في الأقلّ، وحتى تتضح حدود الغابة المخفية خلف الشجرة) شراهة معارضي الخارج السوريين إلى عقد المؤتمرات والملتقيات والمشاورات، لتشكيل مجالس وطنية أو إنقاذية أو انتقالية، عُقدت في أنطاليا أو بروكسيل أو إسطنبول أو الدوحة أو القاهرة، وضمّت محاربين قدماء وآخرين انضموا إلى النادي مجدداً، بينهم مَنْ عارض النظام طيلة عقود، ومَنْ كان مقرّباً من دوائر السلطة حتى ساعة انطلاق الإنتفاضة، وبعدها، والآن أيضاً. ليس عجيباً، والحال هذه، أن تنتهي جميعها إلى فشل ذريع معلن، أو آخر ذريع بدوره ولكنه مقنّع، أو الاستعاضة عن الإقرار بالفشل بما هو مزيج من ذرّ الرماد في العيون وقطع الوعود الخلّبية والآمال السديمية.

هذه السيرورة تكفّلت، كما يليق بها أن تفعل منطقياً، بكشف العورات هنا وهناك، وفضح هزال الغابة التي ينتظرها السوريون خلف شجرة هذا المؤتمر أو ذاك، وإسقاط أسطورة "الإجماع" على زيد أو عمرو من "نجوم" تلك الغابة (وهم، في الغالب، صناعة آلة المماحكات على الفضائيات، وليس السجال الحيوي النزيه والصادق، حول مسائل أصيلة وحيوية وملحّة). لكنها، من جانب آخر وثيق الارتباط وجدلي، كانت السبب غير المباشر، بل كانت عند البعض هي أمّ الأسباب المباشرة، في إشاعة خرافتَين: أنّ نجوم الخارج أقدر من سواهم على تمثيل حاجات الإنتفاضة في الداخل، من حيث التمثيل والتنظير والقيادة، وتسطير الدساتير والعهود والمواثيق، وما إلى ذلك؛ وأنّ معارضة الداخل الكلاسيكية، المؤلفة من الأحزاب والمنظمات والنشطاء خارج "اتحاد التنسيقيات" و"لجان التنسيق" والتنسيقيات المهنية المختلفة، ينبغي أن تمتثل للجهود التي يبذلها نجوم الخارج في مؤتمراتهم، تحت طائلة تخريب وحدة المعارضة وتفتيت الحراك الشعبي.

جرى هذا طيّ المسكوت عنه بالطبع، وكان ديدن السلوك الخفيّ للتحركات والمشاورات والمداولات، إذْ أنّ أحداً من النجوم لا يتجاسر على إغفال الداخل أو الزعم بأبوّة متعالية على الانتفاضة، بل كان العكس هو المشاع دائماً وأبداً: أنّ الأصل هناك، ونحن الفرع والامتداد. وتلك حال انتقلت، بالعدوى الفطرية، إلى بعض مبادرات الداخل (مثل "هيئة التنسيق الوطنية" في المقام الأوّل)، فبدا وكأنّ المبادرين لا يعوّلون على قوى الداخل (رغم تفاخرهم بأعداد هائلة من "الأحزاب" المنضوية في صفوفهم)، بقدر ما يتوكأون على بعض نجوم الخارج، أو كلّ ما يمكن حشده من هؤلاء. ولهذا شهدنا، تماماً كما حدث في مهازل إعلان مجالس وطنية وانتقالية وإنقاذية، شكوى بعض النجوم من أنّ الهيئة أضافت أسماءهم دون علمهم، ودون التشاور معهم؛ وأنهم قبلوا على مضض، أو جنحوا إلى الصمت حرصاً على... وحدة المعارضة!

وفي المناسبة، من الحكمة للمرء أن يؤجّل السجال مع "هيئة التنسيق الوطنية"، إلى ما بعد انعقاد ما أسمته "المجلس الوطني الموسع"، بعد أيام، في إحدى ضواحي دمشق، حيث من المقرّر أن تناقش وتقرّ سلسلة من أدبياتها، وتنتخب مجلسها المركزي. سوف يتضح، كذلك، ما إذا كان ماراثون المفاوضات في الدوحة قد أسفر عن تقارب الهيئة مع أية مجموعة محدّدة، أو مع أفراد بعينهم، بحيث يكون انعقاد المجلس مناسبة لانكشاف حجم غابة جديدة خلف الشجرة الواحدة؛ أو أنّ الدوحة ردّت الهيئة إلى سابق مبادرتها الأولى، التي أعلنها حسن عبد العظيم، المنسق العام للهيئة والأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، أواخر حزيران (يونيو) الماضي. وثمة، في كلّ احتمال، حسابات متقاطعة أو متضاربة تستوجب انتظار الخلاصات التي سينتهي إليها المجلس، ليس أقلّها دلالة أن توافق السلطة على انعقاده في الأساس.

ما هو، في المقابل، جدير بالنقاش هذه الساعة، ولعلّه سوف يطغى كذلك على وقائع الأيام القليلة القادمة، من إعلان اسطنبول أمس إلى انكشاف أسرار ماراثون الدوحة، هو موقف "إعلان دمشق" من مسائل شتى تخصّ الانتفاضة والراهن السوري، مثلما تتصل بمشاريع المجالس الوطنية أو الإنقاذية أو الانتقالية. وليس سرّاً أنّ "إعلان دمشق" صار أشبه بـ"بيضة القبان" في غالبية تلك المشاريع، من حيث ترجيح مقدار أعلى من تمثيل الداخل، أو إسباغ معنى أوضح على مفهوم "الشرعية"، وصارت غالبية المبادرين تراهن على خطب ودّ أهل الإعلان، أو اتقاء الخلاف معهم، في العلن على الأقلّ. وفي هذا جوانب إيجابية بالطبع، لأنها تفضي إلى صيغة تفاعل وحوار أياً كانت عوائقه، من جهة؛ ولكنه ينطوي، من جهة أخرى، على تسليم ضمني بأنّ إطارات المعارضة الكلاسيكية (التي لم تكن أداة انطلاق الانتفاضة في الأساس) هي مرجعيات أولى لتمثيل الانتفاضة، وليس إحدى مرجعياتها (بالنظر إلى أنّ مواقعها في تاريخ المعارضة ترشحها لأن تكون ضمن المرجعيات).

والحال أنّ الإعلان سعى، منذ انعقاد مجلسه في خريف 2005، إلى أن يكون مظلة عريضة لفصائل المعارضة الوطنية والديمقراطية كافة، في مختلف أطيافها اليسارية والقومية والليبرالية والإسلامية، فضلاً عن اجتذاب موشور عريض من المستقلين ذوي المزاج المعارض. فهل ما تزال المظلة على حالها، صامدة بصفتها هذه على الأقلّ، أم اعترتها ثقوب وشقوق شتى تطعن في قدرتها على تأمين ظلّ مشترك للجميع، على نحو الحدّ الأدنى؟ آخر ما يزجّ بهذا السؤال إلى واجهة الاحداث ما أُعلن في اسطنبول، أمس، عن عضوية أنس العبدة (الذي يترأس مجلس "إعلان دمشق" في الخارج) في أحدث طبعات المجالس الوطنية السورية، رغم أنّ الأمانة العامة للإعلان لم تتخذ بعد موقفاً محدداً من مقترحات مجموعة اسطنبول؛ إذْ لا يعقل أنّ العبدة يمثّل جماعته (وهو رئيس "حركة العدالة والبناء") وحدهم، ولا تشمل عضويته في المجلس الجديد تمثيل الإعلان أيضاً.

ذلك ثقب جديد يُضاف إلى ثقوب أخرى تجلّت في البيان الذي صدر مؤخراً عن قيادة الإعلان، تحت عنوان "أسس عامة لرؤية سياسية لعمل المعارضة الديمقراطية"، وتضمّن عشر نقاط شاملة للمسائل المطروحة على ساحة العمل الوطني إجمالاً، والتي تنسحب أيضاً على حال الإنتفاضة إذْ تدخل شهرها السادس هذه الأيام بالذات. ثمة انحياز إلى ثورة الشعب، وتمسّك بالطابع السلمي للإنتفاضة، ونبذ للعنف أو اللجوء إلى السلاح، وحرص على الوحدة الوطنية، وتكريس جزء كبير من الشعارات للإعراب عن رفض الطائفية والفئوية، والتعويل على اللحمة الوطنية للشعب السوري من أجل إنجاز التغيير. وثمة تشديد على أنّ موضوع وهدف السوريين الآن، والمعارضة جزء مسؤول منهم، هو الانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية، عبر إسقاط النظام الحالي الفاقد للشرعية...

بناء الدولة المدنية الحديثة، يتابع البيان، يتأسس على عقد اجتماعي، ودستور جديد تضعه جمعية تأسيسية منتخبة وتطرحه على الاستفتاء العام، ليكون أساساً لنظامٍ برلماني، يضمن الحقوق المتساوية للمواطنين ويحدّد واجباتهم من دون تمييز قومي أو ديني أو مذهبي، كما يكفل التعدّدية وتداول السلطة واستقلال القضاء وسيادة القانون، واللامركزية الإدارية، واحترام حقوق الإنسان والالتزام بالشرائع الدولية ذات الصلة. ويرى البيان أنّ النظام يعتمد طريقتين للخروج من مأزقه: استخدام أجهزته الأمنية المتوحشة وملحقاتها، وتوريط الجيش الوطني في مواجهة شعبه، وتقطيع أوصال البلاد والمدن، وضرب وحدة الشعب الكيانية من خلال التعامل معه كإثنيات وطوائف؛ والطريقة الثانية هي تشتيت القوى المعارضة، والمناورة لتخفيض سقف طروحاتها، وإشغالها بمسائل متشعبة ومبادرات مرتجلة تنتج عنها مواقف متعارضة.

وإذ يقرّ البيان بضرورة عقد مؤتمر وطني سوري في المستقبل، يتولى بحث آليات الانتقال وتشارك فيه القوى المعارضة وممثلو الشعب، فإنّ عبارة "بما في ذلك مَنْ يقبل من أهل النظام، ولم تتلوث يداه بدم السوريين أو بالفساد" تعيد المرء إلى عاقبة الثقوب في المظلة، فلا تفوح منها نبرة التنطّح إلى تفصيل غير مطروح أصلاً فحسب، بل تبدو متكلفة وجوفاء، لكي لا يرى المرء فيها دغدغة لشريحة من "أهل النظام" لا يعلم احد أين تقع، أو كيف ولماذا لم تتلوّث بدماء السوريين. ثقب آخر هو العبارة التي تقول: "وسيتحقق هذا [أي الانتقال إلى دولة ديمقراطية حسب المعايير الدولية المعروفة] حين يقتنع النظام بأنّ الشعب هو مصدر كل شرعية، وهو مَنْ يحدد موازين القوى". هل ينتظر الإعلان من النظام أي "اقتناع" بهذا، في أي وقت قريب؟ وماذا سيفعل النظام، إذا وقعت المعجزة فـ"اقتنع"؟

ثقب الثقوب، إذا جاز القول، هو التيارات الخلافية التي تتفاعل داخل قيادة الإعلان، لا على نحو تعددي صحّي يجعلها منبع إغناء وثراء، وهذا حاصل جزئياً لحسن الحظّ؛ بل على نحو يزيد الشقة تباعداً، يوماً بعد يوم، ويحيل نقاط الخلاف إلى متاريس للتكتل تارة، أو إلى منابر تعويم غائم للمسائل الملموسة والعاجلة والحساسة تارة أخرى. وليس هذا سرّاً يُهتك، بالطبع، كما أنّ انتهاكه ـ حتى إذا وقع ـ لا يُلحق الأذى بالإعلان وأهله وقيادته، بل هو واجب أمام الشعب، وحقّ للإنتفاضة، وتعبير عن احترام التضحيات المشرّفة التي بذلتها القيادات ذاتها المنخرطة في الخلاف على أيّ نحو.

ذلك ينقذ الإعلان، والمعارضة السورية بأسرها، من مغبة تلك التقديرات الأمنية ـ السياسية، التي آمنت بها أجهزة النظام ذات يوم، وكانت تذهب إلى الخلاصة التالية: إذا واصل "إعلان دمشق" حضوره الهلامي، سياسياً واجتماعياً وإيديولوجياً وثقافياً، عدداً وعدّة وأنشطة، كما بدأ في 16/10/2005؛ ثمّ إذا انقلب، أكثر فأكثر، إلى مظلة عريضة (أي: منفلشة، مفلطحة، غامضة، شائهة التكوين...) تدلف تحتها، وتحتمي بها، وتتعطّل معها مختلف تيّارات المعارضة السورية (بما في ذلك مكوّن المعارضة الأمّ والأقدم، "التجمّع الوطني الديمقراطي" الذي تأسس أواخر 1979)، وكفى الله المعارضين شرّ المجابهة... فلا ضرر على السلطة، والحال هذه، ولا ضرار!

ولا ضرر، هنا أيضاً، من استذكار حقبة كان مأمول السلطة خلالها ـ أو على نحو أدقّ: كان مطلوباً ـ من "إعلان دمشق" أن يفاقم عطالة المعارضة السورية، لا أن يرفدها هلى نحو جدّي وملموس، لكي ينشّطها وينتقل بها ومعها إلى طور أرقى في العمل السياسي والمجتمعي والمدني المعارض. وكانت تقديرات السلطة، الأمنية ـ السياسية ذاتها، تذهب إلى أنّ الوقت لن يطول قبل أن يغرق أهل الإعلان في سفسطة نظرية طاحنة بين مكوّنات الإعلان القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية، فتنشب حروب داحس والغبراء حول أولوية مسمّى الأجندة الوطنية (التي لا مناص من أن تخدم "نظام الممانعة والتصدّي" في آخر النهار) مقابل مسمّى الأجندة الديمقراطية (التي تزعج النظام بالضرورة لأنها تضع الاستبداد في رأس المخاطر التي تتهدّد استقلال البلد ووحدته الوطنية)؛ وحول الفارق بين "الديمقراطية الليبرالية" و"الليبرالية الديمقراطية" (نعم، هكذا!)، أو حتى بين "الليبرالية الوحشية" و"الليبرالية الإنسانوية"!

بيد أنّ الانتفاضة جبّت هذا كلّه، في ما يخصّ قوى المعارضة وقياداتها، فضلاً عن أنساق الاحتجاج ومعنى التغيير الجوهري، فلم يعد مسموحاً لـ"إعلان دمشق" أن يكون بيضة قبّان هنا، ومظلة ذات ثقوب هناك، أو في آن معاً!

الاثنين، 12 سبتمبر 2011

حوار أسبوعية "أخبار الأدب" المصرية

نائل الطوخي  
في حوار سابق مع أخبار الأدب، وصف صبحي حديدي نفسه بأنه "منفي وليس مهاجراً طوعا"، لذا كان لابد من سؤاله في البداية: هل تنوي العودة لسوريا إذا سقط نظام الأسد؟ فأجاب:

بالتأكيد، بل أرجو ان أعود قبل أن يسقط النظام تماماً ونهائياً، أي حين يضطرّ إلي تقديم سلسلة تنازلات بينها إصدار عفو عام شامل عن جميع المعتقلين والملاحقين والمنفيين لأسباب سياسية. لقد غادرت سورية سرّاً، منذ 23 سنة، بعد ملاحقة لأسباب سياسية صرفة وعيش في الحياة السرّية، جعلت المنفي الطوعي خياراً وحيداً مقابل الزنزانة. ولم أكن مستعداً لإعطاء النظام فرصة كمّ فمي وضميري وقلمي، فاخترت صيغة تتيح لي مقارعة الاستبداد علي نحو مختلف، من موقع مختلف. وقبل خمس سنوات، في حوار مع الصديق محمد شعير نشرته "أخبار الأدب" أيضاً، قلت إنني لن أعود إلي الزنزانة بالطبع، ولن أعود ضمن صفقة فردية بالتأكيد، لأنّ الإلحاح علي عفو عام شامل ينبغي أن يظلّ جزءاً لا يتجزأ من حزمة مطالب المعارضة السورية، والصفقة الفردية ـ وأنا لست ضدها بالمناسبة، فلكلّ حريته في هذا ـ تُسقط عن النظام واجب إصدار العفو المطلوب. سوي ذلك لن أضع شروطاً علي أحد لكي أعود، ولكني أيضاً لن أقبل شروطاً من أحد!

الحالة السورية تبدو محتملة مقارنة بالحالة العراقية أيام صدام حسين، وبالتالي لم نشهد تلك الموجات من نزوح المثقفين السوريين للخارج كما حدث لمثقفي العراق، هل تتضح لذلك آثار سلبية اليوم؟ بينما يتحدث مثقفو وغير مثقفي الوطن العربي كله عن الانتفاضة السورية فصوت المثقف السوري غائب عن المشهد؟

أصارحك القول أنني لست من هواة المقارنة بين أنظمة الاستبداد العربية، لأنها تتماثل في الكثير ولا تتباين إلا في القليل، وهذا يخصّ طبائع "التثقيف" القمعي الذي يمحضه ذلك النظام أو ذاك لأجهزته الأمنية. وبهذا ففي الوسع الحديث عن حال المثقفين السوريين مع النظام السوري دونما حاجة إلي المقارنة مع النموذج العراقي، باستثناء القول مثلاً إنّ غالبية ملموسة من المثقفين العراقيين تمكنت من مغادرة العراق إلي المنافي، وغالبية ملموسة من المثقفين السوريين نُفيت داخلياً إذا جاز القول، أي زُجّ بها في السجون والمعتقلات. ذلك لا يعني أنّ صوت المثقف السوري كان غائباً تماماً في الداخل، ففي عهد حافظ الأسد توفّر مثقفون كبار تحلوا بشجاعة نقد النظام دون أن ينخرطوا مباشرة في تنظيمات المعارضة، بينهم أنطون مقدسي وعلي الجندي وسعد الله ونوس وبوعلي ياسين وممدوح عدوان وهاني الراهب. كذلك تمكن الأدباء والفنانون من تطوير آداب وفنون رفيعة المستوي، في المحتوي والشكل علي حدّ سواء، كما سعوا إلي التحايل علي تدابير النظام ذاتها فاستغلوا دوريات مثل "المعرفة" و"الموقف الأدبي" و"الحياة السينمائية" و"الحياة المسرحية"، أو أنشطة حكومية مثل مهرجان السينما ومهرجان المسرح، لتمرير خطاب معارض.
وفي عهد الوريث بشار الأسد، وبعد أن خرج عشرات المثقفين من السجون لأنهم أتموا أحكام سجن تراوحت بين 6 و12 سنة، تزايدت أعداد المثقفين المعارضين، وأخذت تلمع أسماء شابة تجمع بين العمل الفكري والتنظيمي، وبين الكتابة السياسية والنشاط المعارض. واليوم، إذْ أقرّ بأنّ صوت المثقف السوري غائب نسبياً عن مشهد الانتفاضة الداخلي، أو لعله ليس حاضراً بما يليق بحجم تضحيات الشعب وزخم الحراك الجماهيري، فإنّ ذلك الصوت الغائب ليس مؤيداً للسلطة، وليس متفرجاً فقط للإنصاف، ولكنه أشبه بالترقّب الحذر أو الصمت الإيجابي. هذه حال سلبية، لا ريب، ولكني لا أردّ أسبابها إلي ضعف تواجد المثقفين السوريين في المنافي، مقارنة بالنموذج العراقي، خاصة وأنّ متغيّرات العراق نجمت عن احتلال عسكري خارجي قادته القوّة الكونية الأعظم، وليس نتيجة انتفاضة شعبية عارمة.
ولكن لعلّ ما تشير إليه من غياب هو، أيضاً، مثال جديد علي تلك المقولة الكلاسيكية التي طرحها الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا منذ عشرينيات القرن الماضي، حول "خيانة المثقف" بسبب طبيعة موقعه الإيديولوجي الوظيفي والاجتماعي، مع الاعتراف بأنّ المواطن السوري يخرج إلي التظاهرة وهو يضع روحه علي راحته، فعلياً وليس مجازاً، ومن المعيب ألا يقابله المثقف بأداء ثقافي ملائم ونظير.
  
هناك دائماً آليات للتآلف مع الوضع الراهن في أي نظام دكتاتوري، في مصر مثلاً كان مسموحاً بحرية التعبير وانتقاد الرئيس المخلوع وعائلته بينما الحركة السياسية نفسها مقيدة لأبعد الحدود، وبالتالي فقد استطاع المثقفون التكيف مع هذا الوضع. كيف تآلف فنانو ومثقفو سوريا مع الوضع الذي فرضه عليهم نظام الأسد؟ ما آليات الاستيعاب التي انتهجها النظام ليضمن ولاء المثقفين السوريين، وكيف تكيفوا هم مع هذا؟

لعلك تعلم أنه لم يكن مسموحاً في سورية أن تصدر أي جريدة مستقلة، حتي لو كانت رياضية، وأنّ الأحزاب ذاتها المتحالفة مع السلطة كان محظوراً عليها إصدار الصحف، وبالتالي كان الإعلام الحكومي هو المصدر الوحيد للمطبوعات السياسية والثقافية والأكاديمية والفنية والرياضية، وإذا توجّب علي كاتب أن ينشر شيئاً في مطبوعة محلية، فإنّ رقابته الذاتية علي ما يكتب إنما تسبق رقابة السلطة. لكنّ النظام لم يكن قادراً علي تأمين كوادر ثقافية أو إعلامية من داخل صفوفه، تدير تلك المؤسسات وتحظي في الآن ذاته بحدّ أدني من الاحترام أو المصداقية في ناظر الرأي العام السوري. ولهذا اضطرّ النظام إلي الاستعانة بعدد من المثقفين الذين عُرف عنهم ذلك المقدار أو ذاك من حسّ المعارضة، وتلك كانت بعض منافذ التعبير المختلف، خصوصاً في النصوص الإبداعية الشعرية والسردية التي تضمر أكثر ممّا تصرّح، وكان من مصلحة النظام أن يتجاهلها وكأنّ مضامينها لا تنتقد طبائع استبداده. كذلك شكلت وسائل الإعلام الخارجية، من صحف ومجلات وفضائيات، منفذاً لاستيعاب كتابات المثقف السوري المعارض، ولكن النطاق ظلّ ضيقاً ومحدوداً، وكان كذلك محفوفاً باتهام الكاتب بـ"العمالة" لقوي "أجنبية" افترض النظام أنها معادية له.
وفي عهد الوريث جري الترخيص لبعض الصحف والمجلات، لكنها سرعان ما فُرزت إلي مطبوعات معارضة (مثل صحيفة "الدومري" التي أصدرها رسام الكاريكاتير علي فرزات)، وتلك أُغلقت بقرارات حكومية؛ وإلي وسائل إعلام موالية، يملكها شركاء النظام أو رجالاته، مثل رامي مخلوف مالك صحيفة "الوطن" وقناة "الدنيا". وبالطبع، مع تطوّر النشر علي الإنترنت، أنشأت المعارضة عدداً من المواقع التي صارت تستوعب الكتابة الأخري وتصنع المنبر المعارض.
أتباع النظام من المثقفين لم يكن استيعابهم يختلف عن استيعاب الأتباع من الفئات الأخري، ولعلّ تلك الحال تنطبق علي أنظمة الاستبداد جمعاء، رغم أنّ التنويع الذي أدخله النظام السوري تمثل في تكليف الأجهزة الأمنية بتطويع عدد من المثقفين، وتوزيع المهامّ عليهم، وتوجيه أدائهم في ذلك الميدان أو ذاك (تلك، علي سبيل المثال، كانت إحدي وظائف اللواء بهجت سليمان، أحد كبار ضباط جهاز المخابرات العامة حتي تقاعده). وبالطبع، كانت هناك أيضاً وسائل الترغيب ومنح الامتيازات والمناصب، فضلاً عن وسائل الترهيب عندما تقتضي الحاجة.
 
هل لك أن تحدثنا قليلاً عن وسائل الترهيب المباشر؟

بالطبع، من بينها مثلاً، خلال الانتفاضة تحديداً، ما جري للزجّال والمغنّي الحموي إبراهيم القاشوش، الذي استحقّ سلسلة صفات، بينها "حنجرة الثورة السورية"، و"بلبل حماة"، و"عندليب العاصي"، تنطلق من أدائه الجميل والمميّز في اعتصامات ساحة العاصي، بمدينة حماة. ولقد حرصت الأجهزة الأمنية، بالتعاون الوثيق مع قطعان الشبيحة، علي اعتقاله، وإخضاعه لتعذيب وحشي تبدّي علي أطراف جسده، قبل اغتياله بدم بارد، وإلقاء جثته في نهر العاصي، بعد ممارسة الطقس البربري الأهمّ في نظر القتلة: جزّ حنجرته، لأنها صدحت طويلاً ضدّ بشار الأسد شخصياً، وضدّ عدد من شخوص النظام الأبرز.
واقعة أخري هي خطف رسام الكاريكاتير علي فرزات في ساعة متأخرة من الليل، ولكن من ساحة الأمويين التي تقع علي مبعدة أمتار من وزارة الدفاع ومبني الإذاعة والتليفزيون، والاعتداء عليه بالضرب الوحشي، وتركه مرمياً علي الطريق في منطقة نائية خارج دمشق، أقرب إلي جثة هامدة. هنا أيضاً، لم يغادره الشبيحة قبل أن ينذروه بأن يتوقف عن التطاول علي "أسياده"، وأنّ "صرماية الرئيس تسوي أهلك يا عميل"، بعد أن ظنّوا أنهم بالفعل كسروا له أصابعه التي يرسم بها. المفارقة أنّ فرزات كان المثال الأثير الذي اعتاد بشار الأسد أن يستشهد به كلما أراد التفاخر أمام الصحافة الأجنبية بأنه رئيس انفتاح وحريات، فكان يقول ما معناه: أنظروا، ها هو علي فرزات، صديقي الشخصي، وأنا الذي أعطيته رخصة إصدار جريدة مستقلة!

يبدو لي أن بعض المثقفين السوريين (أدونيس نموذجاً) يختارون الحديث بلا انقطاع عن الدولة العلمانية في مقابل الدولة الدينية، لتجنب الحديث عن المشكلة الأخطر وهي العدالة في مقابل انعدام العدالة أو القمع في مقابل الحرية. هل يصنف النظام السوري نفسه كنظام علماني، ما معني علمانيته في تلك الحالة؟ أو هل يشجع الحديث عن العلمانية لتخويف الشعب من الثوار بزعم أنهم يريدون إقامة إمارات إسلامية وكلام من ذلك النوع؟

أدونيس وأمثاله يعلمون أنّ الشعب السوري في غالبيته الساحقة علماني المزاج، تعدّدي الأديان والطوائف والإثنيات، تسامحي ومتسامح، وكانت هذه حاله قبل عقود طويلة من انقضاض حزب البعث علي السلطة، وهكذا سوف يظلّ. وأن يزعم أحد اليوم أنّ انتصار الإنتفاضة سيجلب إمارات إسلامية أو أنظمة دينية، أمر يتجاوز الجهل إلي ما هو أدهي: أي النطق باسم النظام، والتطوّع لترويج أكاذيب السلطة. ذلك، للتذكير، بلد قدّم أوّل رئيس مجلس نوّاب، وأوّل رئيس وزراء مسيحي، هو فارس الخوري. وكان قائد الثورة السورية ضدّ الاستعمار الفرنسي هو الدرزي سلطان باشا الأطرش، ونائبه في المنطقة الساحلية هو العلوي الشيخ صالح العلي، والكردي إبراهيم هنانو كان رجل الثورة في حلب. وفي سورية ولدت أول تجربة برلمانية عربية، كما مُنحت المرأة حقّ التصويت للمرّة الأولي علي نطاق العالم العربي... أدونيس نفسه، حين كان طفلاً يعيش في قرية علوية فقيرة ونائية، كتب قصيدة في مديح شكري القوتلي، رئيس الجمهورية السنّي، وردّ عليه الأخير بأن أمر بتدريس الفتي علي حساب الدولة.
ومن المؤسف أنّ علمانية البلد لم تتعرّض لتهديد جدّي إلا في عهد نظام الأسد، الأب والابن، عن طريق اشتغال السلطة المنهجي علي التجييش الطائفي، والإيحاء لأبناء الطائفة العلوية بأنّ مصيرهم صار مرتبطاً إلي الأبد بمصير النظام، وصار البيت الأسدي هو وحده ضامن بقاء الطائفة، وضامن ما حظيت أو تحظي أو ستحظي به من امتيازات. 

ما المقصود في سوريا بـ"الفن السياسي الملتزم"، أو "الفن المقاوم"، مقاوم لمن: إسرائيل وأمريكا، النظام، سلبيات الحكومة؟

لست واثقاً من وجود "فن سياسي ملتزم" أو "فن مقاوم" في سورية، وهناك في المقابل تنويعات شتي لما يمكن أن أسمّيه "ثقافة المعارضة"، التقدّمية أو اليسارية عموماً، الديمقراطية غالباً، التعددية إجمالاً، التي أنتجتها سلسلة من الفنون سعت إلي الاستقلال عن مؤسسات السلطة، وعن فنون السلطة استطراداً. وتلك ساهمت في تطوير وعي جمالي وسياسي يستحقّ، حقاً، صفة المقاومة: ضدّ الاستبداد في المقام الأول، ومن أجل الديمقراطية والحرّية والعدالة الاجتماعية في المقام التالي، الأمر الذي يجعلها ثقافة مقاومة ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة لأسباب وطنية تخصّ القضية الفلسطينية والقضايا العربية القومية عموماً، ولأسباب وطنية سورية تخصّ تواطؤ واشنطن وتل أبيب علي مساندة النظام.
من جانب آخر، أري أنّ الانتفاضة الشعبية الراهنة أخذت تستولد ثقافة احتجاج جديدة تعيد السياسة إلي المجتمع، بعد أن تعمّد النظام وأدها طيلة أربعة عقود، وتستعيد وعياً كان مغيّباً حول ضرورات التغيير وطاقاته، وحول مضامين الفعل الثقافي وأشكاله وأنساقه، وتلك كلها تنتج بالضرورة فنون التزام ومقاومة من طراز مركب ربما، هو بعض عبقرية الانتفاضات الشعبية.

كيف تتوقع آثار سقوط نظام الأسد علي الوضع الإقليمي، بالتحديد فيما يخص حزب الله وإسرائيل؟

سقوط النظام السوري سيقلب الموازين في المنطقة بأسرها، وسيعيد صياغة تحالفات لاح أنها راسخة ومديدة العمر، ويمكن للمرء أن يلحظ المتغيّرات منذ الآن، سواء علي الصعيد العربي والإقليمي، أو علي النطاق العالمي. وبصفة عامة يمكن القول إنّ الربيع العربي ليس في صالح إسرائيل، لأنّ الاستبداد صديقها والديمقراطية خصمها، وحين تكون الشعوب العربية هي صانعة قرارها الوطني، فإنّ وجود إسرائيل في ذاته، ككيان غاصب صهيوني العقيدة ومخفر أمامي للإمبريالية الأمريكية، سيصير محطّ مراجعة جذرية، ومثله "عملية السلام" التي فقدت كلّ معني. أمّا "حزب الله" فهو تنظيم مسلّح أدّي قسطاً مشرّفاً في تحرير الأرض اللبنانية من المحتلّ الإسرائيلي، وسورية الديمقراطية ستظلّ معادية لإسرائيل، وحليفاً لكلّ وأيّ مقاومة لإسرائيل، تماماً كما كانت عليه حال الشعب السوري الأصيل طيلة عقود، بمعزل عن مواقف النظام الذي اعتبر "الممانعة" تجارة رابحة وهامش مناورة لتحسين أوراق التفاوض مع إسرائيل والولايات المتحدة. لكنّ عقيدة "حزب الله" الفكرية، واعتناق مبدأ "ولاية الفقيه" بصفة خاصة، مسألة أخري تسبغ علي الحزب سمة مذهبية رجعية، لا تنسجم مع الحياة المعاصرة، وتتنافي مع مستقبل عربي في كنف أنظمة ديمقراطية حقة. وذلك يقين شخصي أعربت عنه مراراً في مناسبات سابقة، كما أنّ اصطفاف قيادة "حزب الله" خلف النظام السوري، وبالتالي ضدّ الانتفاضة الشعبية، لا يترك مجالاً للشكّ في كيل تلك القيادة بمكاييل عدّة حين يتصل الأمر بالثورات العربية.


الأحد، 11 سبتمبر 2011

شبّيح ما قبل المسيح!

بتاريخ 7 تموز (يوليو) الماضي أصدر عادل سفر، رئيس مجلس وزراء النظام السوري، تعميماً تحت تصنيف "فوري وسرّي"، يبدأ هكذا: "وردتنا المعلومات التالية: ستقوم عصابات دولية محترفة بدخول القطر بعد ان قامت تلك العصابات بإدخال حزء من معداتها التكنولوجية وأجهزة اتصالات عبر الأقمار الصناعية إلى القواعد. وهذه العصابات متخصصة بسرقة المخطوطات والآثار والمتاحف والخزائن والبنوك، وسبق أن دخلت هذه الشبكة إلى العراق وليبيا لأنّ هناك إستراتيجية تهدف خلال الفترة القادمة إلى اقتحام البنوك والمراكز البريدية". وينتهي التعميم بطلب "تشديد الإجراءات الأمنية من خلال تركيب بوابات أمنية وأجهزة إنذار وكاميرات مراقبة مخفية، وتشديد الحراسة على المباني وإعادة النظر بعناصر الحراسة غير الكفوءة".

التعميم موجّه إلى وزراء الإتصالات والتقانة، والثقافة، والمالية، فضلاً عن حاكم مصرف سورية المركزي؛ وهذه، بالطبع، ليست جهات أمنية أو استخباراتية، وأدوارها في مقارعة "عصابات دولية محترفة" سوف تكون بائسة ومضحكة في آن. بيد أنّ ما يختفي طيّ التعميم هو الحقائق المفزعة عن تكاثر حوادث نهب وتزوير وتهريب آثار سورية ثمينة، وهذه أعمال معقدة لا يعقل أن تتمّ دون تسهيل من جهات أمنية عليا، لعلّها السادنة الأولى لهذه التجارة القذرة. تناسى رئيس وزراء النظام، كما ينبغي له أن يفعل صاغراً أو طائعاً، حقيقة أخرى جلية تشير إلى عصابات من طراز آخر تمارس تخريب الآثار السورية، ولا تعمل تحت جنح الظلام هذه المرّة، بل في وضح النهار، بمباركة النظام، وتهليل أبواقه.

فماذا يقول سفر في دبابات ماهر الأسد، التي اخترقت دوّار السباهي في مدينة حماة، حيث الأعمدة العتيقة، فأخذت تخبط فيه خبط عشواء، وكأنها تسير في أرض يباب؛ ومن نقاط تمركزها هناك قامت بقصف أحياء المدينة، فألحقت الأضرار بالكثير من معالم المدينة الأثرية، بما في ذلك القلعة الآرامية؟ وماذا يقول في قصف الجامع العمري (الذي أمر ببنائه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، عند مروره في حوران)، مرّة بعد مرّة، على رؤوس اللاجئين إليه؟ وماذا عن النهب اليومي الذي يتعرّض له تل الأشعري، أحد سقوف وادي اليرموك الحوراني، والذي تعود مكتشفاته الأقدم إلى العصر الحجري؟ وماذا عن التشبيح الآثاري الذي يجري في إدلب ومعرّة النعمان وسائر جبل الزاوية، حيث مملكة إيبلا وتل مرديخ (الألف الرابع قبل المسيح)، ودير سنبل البيزنطي، ودير سيتا الروماني؟ وماذا عن النبش العشوائي، تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية، في تل حموقار، في منطقة الجزيرة، حيث تقع مدينة تعود إلى 3500 سنة قبل الميلاد، ويتفق الآثاريون على أنها واحدة من أقدم مراكز العمران؟

ما لا يفاجيء أنّ قطعة أثرية كبيرة سُرقت بعد أيام من صدور تعميم رئاسة مجلس وزراء النظام، وفي مدينة سورية ليست البتة مفتقرة إلى الرموز الكبرى: حماة، دون سواها! القطعة المسروقة هي تمثال ذهبي نادر لآلهة آرامية، وقد سُرق من داخل متحف المدينة، حيث اتضح للمحققين أنه لم تقع عمليات خلع لأبواب المتحف أو كسر للزجاج، وأنّ السارق تجوّل في المكان بحرّية تامة، وتوفّر له كلّ الوقت اللازم لنزع التمثال من قاعدته ونقله خارج المتحف. سلطات الأمن الجنائي سارعت إلى توقيف موظفي المتحف، دون التوصل إلى نتيجة بالطبع، لأنّ السارق الشبيح كان ويظلّ في حماية سادته الشبيحة الكبار، حيث لا قانون يردع ولا سلطة تمنع.

ولقد سبق لهؤلاء الشبيحة الكبار أن عاثوا فساداً في دمشق العتيقة، ولم يتورعوا عن تخريب أسواقها العريقة، وطمس معالم كبرى من تاريخها الأيوبي والمملوكي، بغية إقامة منشآت سياحية ومجمّعات تجارية، دون أي اكتراث بالعواقب العديدة، البشرية والتاريخية والآثارية والمعمارية والاقتصادية والثقافية، التي ستخلّفها هذه الجرائم الصريحة المعلنة. وهكذا، لم يعد يشبعهم أنهم نهبوا وينهبون ـ مثل ضباع شرهة جشعة، لا تشبع ـ في قطاع الاتصالات والهاتف الجوّال والأسواق الحرّة وصناعة الإسمنت، وما خفي من أشغال حرام هنا وهناك؛ فتوجّب أن يخرّبوا لكي يشتغلوا بإعمار ما خرّبوا، مع فارق أنهم يهدمون ما لا يجوز تهديمه، ويمسّون ما ينقلب أيّ مساس به إلى جريمة كبرى بحقّ الإنسان والتاريخ في آن معاً.


لا يفاجيء، أيضاً، أنّ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تبدي من القلق على كنوز سورية الآثارية والتاريخية والعمرانية، أكثر بكثير ممّا تبديه السلطات السورية، ليس السياسية أو الإدارية وحدها، بل السلطات الآثارية أيضاً! وكيف ستفعل هذه، أو هل تتجاسر أصلاً، إذا كانت جهات التخريب والنهب والسرقة هي ذاتها عصابات التشبيح العاملة لدى رجال النظام؛ وهؤلاء يمارسون النهب الشمولي على نحو وجودي أو غريزي، لأنهم ببساطة بعتبرون سورية مزرعة لهم ولأبنائهم، كما كانت لآبائهم!

وثمة، لا ريب، فارق في نوعية الألم إزاء ما يقترفه ضابط أمن بحقّ شهيد، مثل الناشط الشابّ غياث مطر، قضى تحت التعذيب؛ وما يقترفه شبيح آخر بحقّ آلهة آرامية، أو رقيم سومري، أو مسجد عمري. ثمة، في المقابل، على ضفّة الشعب، فارق المقاومة الذي يستولد الأمل، من قلب الألم...

الخميس، 8 سبتمبر 2011

قيادات الأسد وقانون السقوط: ما طار طير وارتفع...

أشارت تقارير حديثة العهد إلى أنّ حلقة النظام السوري الأضيق، بشار الأسد وشقيقه ماهر بصفة خاصة، أخذت تميل أكثر فأكثر إلى إعادة تأهيل قيادات أمنية شائخة، تولّت مسؤوليات أجهزة أمنية رئيسية طيلة عقود، منذ أواسط السبعينيات وحتى الأشهر الأخيرة قبيل وفاة حافظ الأسد. يتصدّر هؤلاء اللواء المتقاعد علي دوبا (الأمن العسكري)، واللواء المتقاعد محمد الخولي (مخابرات القوى الجوية)، وأفادت التقارير أنهما عُيّنا مؤخراً بصفة مستشارَين للشؤون الأمنية، والتحقا بمكتب خاصّ في القصر الجمهوري، ومُنحا التخويل باستدعاء أو فرز عدد من الضباط المتقاعدين أو الإحتياط أو العاملين في مواقع أمنية وعسكرية أخرى، للإنضمام إلى ذلك المكتب.

وكان الأسد الابن يرفض هذا الحلّ بشدّة، لثلاثة أسباب تبدو مرجحة من زاوية انطباقها مع مزاجه، ومع المنطق السليم أيضاً: 1) أنّ هذه العودة تشكّل "إهانة" لصورته الشخصية، التي سُوّقت ضمن صفات "الشباب" و"الحداثة" و"الإنفتاح" و"التجديد"، ومن غير المعقول، أو المقبول، أن يلجأ إلى الديناصورات، خاصة في هذه المرحلة القاتلة من أحوال نظامه؛ و2) هي طعنة، فضلاً عن كونها إهانة، للفريق الأمني ـ العسكري الذي صعد معه بعد التوريث، أو جرى تصعيده في حياة الأسد الأب، لكي يتحمّل مع الوريث الشابّ أعباء مرحلة بالغة الخطورة، وحافلة بالمخاطر، بعيداً عن أطماع "الحرس القديم" في اقتناص الحصّة الأدسم من مغانم نظام كانوا في عداد كبار صنّاعه وحماته؛ و3) كيف للوريث أن يعيد الثقة بأناس شاء المورِّث نفسه، الأسد الأب، أن يبعدهم عن مواقعهم، خشية أن ينقلبوا على سيرورة التوريث، أو يستغلوا نفوذهم في غير صالح الوريث؟

قبول الأسد اليوم بإعادة تأهيل أمثال دوبا والخولي هو، إنْ صحّ وتحقق في الميدان العملي، مزدوج الدلالة: أنه تسليم بفشل الحلّ الأمني ـ طبعة بشار وماهر الأسد، وترحيل حاضر هذا الحلّ إلى طبعة أخرى يتولاها الديناصورات (وكأنّ الزمن هو أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات!)، قد لا تكون البتة أقلّ وحشية، من جهة، ولكنها أيضاً قد لا تكون أقلّ فشلاً، من جهة أخرى؛ وأنه، في الدلالة الثانية، أقرب إلى التسليم القدري بأنّ عجز النظام عن كسر الإنتفاضة، التي تدخل شهرها السادس أكثر تجذراً ونضجاً وتصميماً، يمكن أن يذهب إلى أكثر الخيارات يأساً، وأدناها إلى سلوك الإنتحار. فما الذي يمكن لدوبا أن يجترحه من "معجزات"، أفضل ممّا فعل ويفعل ضبّاط من أمثال ماهر الأسد وذو الهمة شاليش وحافظ مخلوف وعلي مملوك وعبد الفتاح قدسية ومحمد ديب زيتون وجميل حسن وعلي يونس وزهير الحمد وتوفيق يونس وعاطف نجيب وثائر العمر وناصر العلي وإياد محمود وعلاء سعّود وغسان بلال...؟

 وسوى هذه وتلك، ثمة ما يذهب بالدلالة إلى مستوى المقامرة المفتوحة التي تعمّم معضلات الفرقة الرابعة (وهي "جيش النظام" الأوحد، حتى الساعة، في مواجهة الإنتفاضة)، بحيث تنسحب على فصائل النظام كافة، من الكتائب الأمنية ـ العسكرية، إلى الشبيحة والميليشيات، مروراً بـ"اللجان الشعبية" المسلحة. وتلك المعضلات تنطوي على الهجنة مقابل الإنتخاب الطائفي والعشائري، واختلاط الولاءات بين تلك القديمة الراسخة والأخرى الجديدة الهشة، وتضارب المصالح بين بندقية على هذا الكتف وأخرى على الكتف الثاني، واهتراء المعنويات إلى مستوى يجعل القتال إلى جانب النظام بمثابة طغيان أقصى لغريزة في البقاء عمادها السلوك الوحشي وحده...

فإذا احتسبنا على مكتب دوبا والخولي ذلك المؤتمر الذي عقده، قبل نحو شهر، وزير الإعلام الأسبق محمد سلمان، ونفر من البعثيين القدماء الذين تقاطروا إلى بيته لاقتراح حلول إنقاذية، فإنّ الحال تردّنا إلى مطلع وراثة الأسد الابن، حين كانت القاعدة الذهبية تقول التالي: ما لا يخسره "الحرس القديم"، بفئاته العسكرية والأمنية والحزبية، لا يكسبه "الحرس الفتي" بفئاته الموازية في المواقع ذاتها؛ وما يكسبه أمثال ماهر الأسد وآصف شوكت وذو الهمة شاليش، في الشريحة الثانية من معمار السلطة التوريثي، ليس بالضرورة خسراناً مبيناً وبائناً لأمثال دوبا والخولي وعلي حيدر وشفيق فياض (ورفعت الأسد، قبلئذ وبعدئذ!) في معمار السلطة ما قبل التوريث.

أجدني، في هذا السياق، مدفوعاً إلى إعادة مناقشة مصطلح "القيادة السورية"، بالمعنى المفهومي والمؤسساتي، وليس بمعنى الأسماء في حلقات السلطة الأضيق، إذْ أنّ من الطبيعي أن تتبدّل تلك الحلقات بمرور الزمن، وأن تتغيّر مكوّناتها طبقاً للمعضلات والمشكلات التي جابهها النظام. فالمصطلح ذاته بات غائماً ومبهماً وغير ملموس بعد وفاة الأسد في حزيران (يونيو) 2000، فاكتنفته الأسئلة التالية: مَن هي هذه القيادة على وجه التحديد؟ كيف تشكلت، ومتى؟ ومَن، وما الذي، يمنحها سلطة اتخاذ القرارات بلا أساس دستوري؟ هل هي متماسكة منسجمة متفاهمة، سياسياً وأمنياً وعلى مستوى المصالح والتوازنات بين أطرافها؟ هل بقيت على الحال التي بدأت عليها حين تشكّلت، أو أعادت إنتاج نفسها، بعد غياب الحاكم الوحيد الأوحد حافظ الأسد؟

وفي تلمّس بعض الإجابة على هذه الأسئلة، ثمة تفسير أوّل، هو أيضاً ذاك الذي اعتمده أنصار السلطة، يقول ببساطة إنّ النظام متماسك ومستقرّ، وما جرى ساعة وفاة الأسد الأب لم يكن سوى محاولة بارعة لتطويق الأمور سريعاً، وتنفيذ القرارات والإجراءات التي كانت "القيادة السورية" قد أجمعت عليها في الأساس، ومنذ وقت طويل، في عهد الأسد الأب، وبرعايته. وهذا التفسير يضرب صفحاً تاماً عن طبيعة جولات التطهير التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة قبيل رحيل الأسد، ويغفل المغزى السياسي والأمني لاستبعاد رجال من أمثال دوبا وحكمت الشهابي (رئيس الأركان الأسبق، وأبرز أعضاء مجلس الأمن القومي حينذاك)، واللواء علي حيدر (القائد التاريخي لـ"الوحدات الخاصة")، وقادة فرق عسكرية من أمثال شفيق فياض وإبراهيم الصافي وعلي الصالح، فضلاً عن انتحار محمود الزعبي (رئيس الوزراء الأسبق، والأطول ولاية في عهد الأسد).

التفسير الثاني يقول إنّ الحرس الفتي (الذي توجّب أن يمثّله الأسد الابن، مبدئياً) تصالح سريعاً مع الحرس القديم الذي مثّله عبد الحليم خدّام في الواجهة، وضمّ جميع الذين يطالبون بحصّة في الإرث، من قادة الأجهزة الأمنية الأربع (المخابرات العسكرية، المخابرات العامة، مخابرات القوى الجوية، الأمن السياسي)، إلى رئاسة أركان الجيش وقادة الفرق العسكرية، وصولاً إلى الأفيال والتماسيح الكبار والصغار في قيادة الحزب ومؤسسات القطاع العام. وإذا صحّ هذا التفسير فإنّ سورية تكون قد فقدت حافظ الأسد جسداً فقط، وليس منهجاً أو سياسات: مات الأسد! عاش الأسد! وبالطبع، سوف تتكفّل السنوات اللاحقة بتفكيك هذا التفسير إلى مستويات أبسط، وأدقّ، مفادها أنّ نظام الابن محض استمرار لنظام أبيه، وليس ما تغيّر إلا ذاك الذي استوجبته فوارق الزمن والشخوص والوقائع، داخل سورية وخارجها.

التفسير الثالث يقول إنّ الحرس القديم سارع إلى "امتطاء" حدث الوفاة، وسعى مباشرة إلى تطويق الموقف بما ينطوي عليه من احتقان في المشاعر وتضارب في الولاءات، فوضع الأسد الابن في قلب السيناريو الذي كان يدور على الألسن منذ ستّ سنوات. وإذْ بدا ذلك بمثابة "وفاء" لنهج الأسد الراحل، وتنفيذ لوصيّته غير المعلنة، فإنه في الآن ذاته أسفر عملياً عن وضع الأسد الابن في فوهة المدفع مباشرة، وأظهر البلاد وكأنها ملكية فردية لأسرة حافظ الأسد وحدها (وليس حتى لآل الأسد مجتمعين، بدليل ما وقع آنذاك من مطالبة رفعت الأسد بحصّته الشخصية في الكعكة). ذلك الوضع كان كفيلاً بإثارة المزيد من مشاعر السخط على مستوى القواعد التحتية في السلطة والجيش، وعلى مستوى الشارع السوري، وكفيلاً بوضع الوريث وفريقه في موقف دفاعي صرف، بدلاً من الموقع الهجومي الذي كانوا يرتاحون إليه لأنه الأفضل من الناحية التكتيكية. وفي سياق هذا التفسير، كان من الطبيعي أن ننتظر من الحرس القديم شنّ هجوم معاكس لاحق، بعد أن تهدأ الخواطر وتصبح وفاة الأسد مجرّد ذكرى، وهذا ما جرى بالفعل عند وأد "ربيع دمشق".

التفسير الرابع يقول إنّ القوى التي تمكّن الأسد الأب من حشدها خلف نجله، بما توفّر له من وقت آنذاك، هي التي تحرّكت بسرعة قصوى وفرضت سيناريو التغيير كما تابعه العالم بدهشة. وتلك القوى كانت تبدأ من وحدات الحرس الجمهوري ذات الولاء المطلق لشقيق الوريث، ماهر، قبل الوريث نفسه؛ وكانت تمرّ بعدد من الفروع الأمنية، في المخابرات العسكرية والمخابرات العامة تحديداً؛ وكانت تنتهي عند هذه أو تلك من أفواج القوات المسلحة، وهذا أو ذاك من كبار ضباط الأركان. والتفسير هذا بدا وكأنه يصف انقلاباً عسكرياً وليس مرحلة انتقال "سلسة"، ويصحّ فيه ما يصحّ في الإنقلابات العسكرية من سيادة منطق داخلي خاصّ، متقلّب تماماً، ليس الإستقرار ضمن خصائصه.

وفي مناسبات سابقة، أو بالأحرى في انعطافات حاسمة شهدها نظام التوريث، خضع مفهوم "القيادة السورية" إلى اختبار عناصره التكوينية الكبرى، من حيث الأشخاص والسياسات، فبدا أنّ فتيانه مثل شيوخه يخضعون بالتساوي للقانون الذي تختصره الحكمة الشهيرة: ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع! خذوا، في مثال واحد فقط، تركيبة هذه "القيادة السورية" عشية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري: الأسد، شقيقه ماهر، اللواء غازي كنعان وزير الداخلية، واللواء آصف شوكت رئيس الإستخبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان الرجل الأقوى في جهاز أمن الدولة، وعبد الحليم خدّام النائب الأوّل للرئاسة. وخذوا ما انتهت إليه "حلقة الستة" هذه: خدّام بدّل تجارة الفساد بتجارة "الإنشقاق"، وسليمان سفير في الأردن عاجز عن تنظيم وليمة يحضرها صحافي أردني واحد شريف، وكنعان نُحر أو "انتُحر" كما في التعبير الطريف، وشوكت صار خارج الحلقة يزعم "الحرد" لكنه يشتغل لحساب مشروعه الخاص، فلم يبق في الميدان إلا... الشقيقان! 

واليوم، كما في الماضي ساعتئذ، في وسع المرء اختيار أيّ من تفسيرات مفهوم "القيادة السورية"، أو تركيب عناصرها في كلّ متداخل أقرب إلى تحصيل الحاصل، وسينتهي المرء دون عناء إلى أنّ مصالح الحرس القديم التقت بمصالح الحرس الجديد، وكان لا مناص من استيلاد تحالف كهذا لكي لا تُصاب بنية النظام بشقوق وصدوع وانكسارات قاتلة تذهب بشوكته، وتخلّ بتوازناته الداخلية، ومحاصصات النهب التي تُبقي أواصر الولاء المشترك حيّة في نفوس أهل النظام ودوائر السلطة الأعلى والأضيق. فهل من غرابة، إذاً، أن يعود الأسد الابن إلى تراث أبيه، على ما فيه من مخاطر ومزالق، فيتكيء على الديناصورات في الميمنة، مثلما يُبقي على الفتيان في الميسرة؟

لا غرابة، ولا غريب يمكن أن ينتظره المرء من نظام متهالك سائر إلى مأزق شامل تامّ، ولن تزيده الحلول المتناقضة التي يعتمدها ـ ويستبدلها أو يستعيدها بين يوم وآخر، في صورة مموّهة أو في نسخة طبق الأصل ـ إلا السقوط أكثر فأكثر نحو هاوية سحيقة دانية.