وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 29 أبريل 2013

من الحبّ ما استتر!

 خلال حواره الأخير مع قناة 'الإخبارية' التابعة لنظامه، قال بشار الأسد، في اشتراط ما يسمّيه 'الحوار الوطني': 'يمكن أن نتحاور مع أي جهة. نحاور من يغار على سورية. ومن لم يتعامل مع إسرائيل سرّاً أو علناً. وكل من لم يغازل إسرائيل'. وللمرء أن يدع جانباً حكاية 'الغيرة' على سورية، لأنّ قاذفات الأسد وصواريخ الـ'سكود' والبراميل المتفجرة والمدفعية الثقيلة وغاز السارين، تفصّل تلك الطبعة الأسدية من غيرة وحشية تواصل تدمير البشر والحجر في سورية؛ وحرب بقاء، يائسة مذعورة، تمزّق عُرى السوريين الوطنية؛ وتلقي بمئات الآلاف منهم إلى العراء والتيه والنزوح، إذا أخطأهم الموت أو التشوّه أو الإعاقة...

وللمرء، بعد هذا، أن يذهب إلى شرط التعامل مع إسرائيل، أو مغازلتها، فيبادر ـ على الفور، دون إبطاء، ودون تردد ـ إلى إقصاء اسم أوّل سبق له أن صافح إسرائيل علناً، لا سرّاً، على رؤوس الأشهاد، وأمام عدسات التلفزة. حامل هذا الاسم هو بشار الأسد، ليس سواه، مصافح الرئيس الإسرائيلي السابق موشيه كتساف، في روما، خلال جنازة البابا يوحنا بولس الثاني، ربيع 2005. وقد يقول قائل، على غرار ما فعل يومذاك 'مصدر رسمي' في تصريح لوكالة أنباء النظام، سانا: الحادثة 'جاءت في اطار حالة عرضية وليس لها اي مغزى سياسي'، و'المراسم والشعائر المتبعة اقتضت ان يصافح المشاركون بعضهم بعضاً مصافحة شكلية'. ولكن، إذا لم تُصنّف المصافحة في باب التعامل والغزل، حتى في مستوياته 'الشكلية'؛ فهل تُعدّ سلوكاً مناوئاً لإسرائيل، 'ممانعاً'، 'مقاوِماً'، رافضاً لأيّ 'تعامل' معها؟

طريف، مع ذلك، أنّ أحد شبيحة النظام، وكان آنذاك يشغل موقع 'رئيس مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية'، علّق على خبر المصافحة، حين أذاعته وسائل إعلام إسرائيلية، هكذا: 'إسرائيل تسعى لترويج أكاذيب توحي بازدواجية الموقف السوري'. أطرف من هذا أنّ النظام اضطُرّ بعدئذ إلى الإقرار بالواقعة، بعد أن بُثّت لقطاتها على شاشات التلفزة، فابتلع الشبيح لسانه، دون أن يفلح في حفظ ماء الوجه. والأطرف، طرّاً، كانت روية كتساف نفسه للواقعة: 'قلت صباح الخير للرئيس السوري ومددت يدي لمصافحته وهو ردّ عليّ السلام ومدّ يده لمصافحتي'؛ ثمّ، بعد انتهاء المراسم، 'تبادل الجميع المصافحة وهذه المرّة الرئيس السوري هو الذي مدّ يده وأنا سررت جداً بهذه المبادرة'.

وفي أواسط العام 2003، كانت صحيفة 'معاريف' الإسرائيلية قد أماطت اللثام عن اجتماع سرّي بين ماهر الأسد، شقيق بشار والقائد الفعلي للفرقة الرابعة؛ وإيتان بن تسور، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، شهدته العاصمة الأردنية عمّان. ولأنّ الأوّل لم يكن يتولى أي منصب رسمي سياسي، وإنْ كان يشاطر شقيقه قسطاً لا بأس به من مقاليد السلطة والحكم؛ فقد ارتأى أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، إيفاد بن تسور. كانت الرسالة مزدوجة، تقول إنّ إسرائيل لم تعد تهوى مفاوضات الأروقة السرية؛ وتقول، في وجه ثانٍ، إنّ شارون يأبى التعاطي مع 'ختيار' عتيّ رفيع التجارب عالي المراس مثل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، فما الذي يجبره على التعامل مع هواة من أمثال ماهر الأسد؟ فهل يجوز للأخير أن يشارك في 'الحوار الوطني'، بافتراض أنه تنازل واستهوى هذه المسرحية الركيكة، أصلاً؟

حكاية ثالثة بطلها رجل الأعمال الأمريكي السوري الأصل إبراهيم سليمان، الذي زار القدس المحتلة سنة 2007، وألقى كلمة امام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، شرح فيها تفاصيل مفاوضات غير رسمية أجراها مع ألون ليئيل المدير العام السابق لوزارة الدفاع الإسرائيلية، بمساعدة الوسيط السويسري نيكول لانج. ولقد تردّد أنّ أنشطة سليمان جرت بعلم الأسد، وشارون (ثمّ إيهود أولمرت، لاحقاً)، وانبثقت عنها وثيقة تقترح صيغة للسلام بين سورية وإسرائيل. وكالة سانا نقلت عن مصدر مسؤول تصريحاً يؤكد أن 'ما يدلى به [سليمان] من تصريحات وما يعبّر عنه من آراء لا يعكس وجهة نظر سورية'، ولكن المصدر لم ينفِ أنّ الرجل زار البلد مؤخراً، و'من الطبيعي أن يقوم أو سواه من المغتربين من أصل سوري بزيارة وطنه الأم'!

وبالطبع، لم يجزم أحد أنّ سليمان ـ المقرّب من الأسد ووزير خارجيته وليد المعـلم، كما أجمعت تقارير صحفية عديدة ـ كان ممثّلاً شخصياً أو رسمياً، إذْ أنّ في هذا الزعم (الأخرق) ما يشبه النسف المسبق لأيّ طراز من المهامّ غير الرسمية التي يمكن للرجل القيام بها هنا بالضبط: محادثات فى الظلام، أو عبر أقنية غير رسمية! غير أنّ 'الحيثيات'، لكي لا نقول البراهين، التي اقترنت بخطاب الرجل لم تكن تُسقط عنه احتمالات الكذب وادعاء الدور وتمثيل الذات وحدها فحسب، بل تسبغ عليه مصداقية عالية مدهشة.

هذه ثلاث حكايات عن حبّ سرّي عتــــيق بين النظام وإسرائيل، بدأ منذ مفاوضات مبكرة أدارها أمثال حكمت الشهابي وفاروق الشرع ومحمد عزيز شكري ورياض الداودي، في واشنطن وشبردزتاون وكامب دافيد وعمّان واسطنبول؛ وتعاقبت فصوله، وما تزال، في أمكنة أخرى كثيرة. من الحبّ ما قتل، بالطبع، ومنه ما استتر؛ ومنه ما حرم من ملذات 'الحوار الوطني'، أيضاً!

الاثنين، 22 أبريل 2013

إرهاب بوسطن وذئب موسكو

 قبل ثمانية اسابيع توقفت، في هذا العمود، عند تضخيم وجود الشيشان ضمن بعض الكتائب الإسلامية المقاوِمة لنظام بشار الأسد في سورية؛ وأستعيد، هنا، فقرة أخالها تتصادى مع العملية الإرهابية التي شهدتها مدينة بوسطن الأمريكية مؤخراً، ويُتهم بتنفيذها شابان من أصول شيشانية: "يتوجب فتح ملفّ المسألة الشيشانية ذاتها، في قلب بلاد الشيشان، وفي عمق المواقف الإقليمية منها، وحيث لا يستهدف الترحيل والتضليل إلا إلى إغماض الأعين عن مأساة الشعب الشيشاني ذاته. هنا، أيضاً، لا تنام القضية الشيشانية بضعة أشهر، إلا لكي تستيقظ بغتة، أو بالأحرى يستيقظ العالم عليها بعد طول سبات، وكأنّ هذه البلاد موجودة في مجرّة أخرى منسية".

ولقد اقتبست العملية الإرهابية الرهيبة التي شهدها مسرح موسكو، سنة 2002، والتي أسفرت عن مصرع العشرات من الرهائن، بسبب الطرائق العنيفة التي استخدمتها وحدات التدخّل الروسية؛ ثمّ وقعت مأساة ماراثون بوسطن لتضيف مناسبة جديدة، إلى ملفات المسألة الشيشانية، التي بدأت دامية، وهكذا سوف تتواصل أغلب الظنّ، حتى إشعار طويل آخر. ودسّ الرؤوس في الرمال هو الخيار، شبه الوحيد، الذي يسوّغ عزل إشكاليات هذه المسألة عن أيّ واقعة إرهابية يتورط فيها شيشاني، أو داغستاني، أو أي مواطن قوقازي بصفة عامة. وهذا خيار يقترن بمقدار هائل من خداع الذات، فضلاً عن النفاق والتبسيط والتنميط والتعميم، قوامه افتراض سطحي يجزم بأنّ "ضعف اندماج" الأجانب في المجتمعات الغربية، وهيمنة "القِيَم الإسلامية" على عقول المهاجرين المسلمين خاصة، وأحاسيس الاغتراب والدونية والاضطهاد... هي التي تحرّك "أزمة الهوية"، فتدفع إلى سلوك الانعزال والتقوقع وكراهية الآخر، قبل أن تفضي إلى ذلك الطور الأقصى المتمثل في ارتكاب العمل الإرهابي.

فإذا صحّ، من جانب أوّل، التذكير بأنّ يد الإرهاب عمياء غالباً في ما يخصّ الضحايا، لأنها عشوائية في إقامة الموازنة بين الغاية والوسيلة؛ فإنّ من الضروري التذكير، تالياً، بأنّ المنخرطين في مختلف مستويات الإرهاب ليسوا دائماً قتلة محترفين، تخرّجوا من مدارس الجريمة المنظمة. كذلك فإنّ من الحماقة الاتكاء على ذلك التصنيف، العشوائي والأعمى والعنصري، الذي يحشر إرهابيين من طراز الأخوَين الشيشانيين تيمورلنك وجوهر تسارناييف في "نمط" متماثل متشابه جامد وساكن، لأفراد بهم مسّ من جنون متأصل، يجعلهم في حال من البغضاء المطلقة ضدّ الإنسانية جمعاء (كما يوحي أمثال دانييل بايبس مثلاً)؛ أو ضدّ "النموذج الحضاري الغربي" كما توحي الرطانة المألوفة التي تتكاثر وتصطخب في مناسبات كهذه، فيرددها عالم الاجتماع أسوة بالشرطي، وصحافي الحوادث الجنائية مثل نطاسي التحليلات الجيو ـ سياسية!

ولقد شهدت بلاد الشيشان احتلالاً روسياً مارس العقاب الجماعي والقتل والاغتصاب والتمثيل بالجثث وسرقة الأعضاء البشرية، باتساق تامّ بين الرئيس الروسي بوتين، وجنرالات الجيش، ومعظم الأحزاب السياسية؛ وكأنّ السلطات الروسية تقصدت إعادة إنتاج حلقات العنف ذاتها التي حكمت علاقة السلطة المركزية بالشيشان طيلة عقد التسعينيات، وكأنّ المفارقات ما تزال هي ذاتها، أو تكاد. وذاكرة الشيشان لا تفرغ البتة من حروبهم السابقة ضدّ الطغيان منذ القرن السادس عشر في زمن "إيفان الرهيب"، مروراً بالقرن الثامن عشر على يد الجنرال أليكسي يرمولوف الذي كان يتلذذ بحرق القرى الشيشانية، وانتهاء بالقرن العشرين الذي وضعهم على أعتاب قرن جديد من مسار مشابه. روسيا يوتين، وقبله بوريس يلتسين، استنهضت ضدّهم ذئباً عسكرياً كاسراً متعطشاً للدماء، بدت كتائب جوزيف ستالين ألعوبة أطفال أمامه؛ وأمّا في واشنطن، فقد كان صمم الآذان هو ردّ الفعل الأمريكي.

فهل يصحّ طمس مفردات هذا التاريخ الدامي من الذاكرة (الشخصية، ولكن الوطنية أيضاً) للأخوَين تسارناييف، بذريعة أنّ عشر سنوات من الإقامة في الولايات المتحدة، وحيازة الجنسية الأمريكية، وارتياد مدارس راقية... كافية، في ذاتها، لكي ينسلخ المرء نهائياً عن ذلك التاريخ؟ لا أحد، حتى الساعة، يتجاسر على تشخيص الدوافع الحقيقية التي كانت وراء تنفيذ عمل إرهابي في بوسطن، لا في أية بقعة روسية؛ وقد يلفظ الفتى جوهر أنفاسه دون أن تتكشف، أو تُكشف للرأي العام، نوازع هذا الهدف الرياضي تحديداً، بهذه التقنية التفجيرية العجيبة. ولكن، في العودة إلى باطن سياسي واجتماعي أعمق: يد الإرهاب عمياء في كلّ ما يخصّ التمييز بين الغاية والضحية، وبين الوسيلة والجريمة، والمآل والمآل المضادّ المعاكس تماماً؛ ولكنها يد ليست خارج التاريخ، وليست سابحة في سديم مطلق من االتنميطات المسبقة والتصنيفات الجاهزة، وليست منعزلة عن تلك السياقات العميقة ذات الارتباط الوثيق بما يجري على الأرض من وقائع، وما يُصنع من تواريخ، خاصة في ميادين القهر والظلم والغزو والإخضاع.

وهكذا، بصدد ما شهدته بوسطن من إرهاب، ورهاب جَمْعي، وفورة شعبوية هستيرية ساعة إلقاء القبض على الفتى الشيشاني؛ وكذلك بصددالحوافز التي تدفع شيشانياً إلى قتال الأسد في سورية؛ أو قتال الاحتلال الأمريكي في العراق، أو قتال الروس أينما أُتيحت فرصة، أو استهداف قوى الطغيان العظمى كيفما اتفق... ثمة ذلك العبث الأسود الذي وصفه جورج برنارد شو ذات يوم: "أرى بعض ما يجري، فأقول: لماذا؟ وأتخيّل وقوع ما لا يمكن أن يقع، فأقول: ولِمَ لا؟"...

الجمعة، 19 أبريل 2013

أواني الأسد المستطرقة: تغييب الجولان بعد تجميل احتلاله!

 الجولان، هذه الأرض السورية المحتلة الغالية على قلب كلّ سورية وسوري، مفردة غابت، تماماً، عن سبعة آلاف كلمة ونيف، حسب تفريغ وكالة أنباء النظام السوري، سانا، لحديث بشار الأسد الأخير مع قناة "الإخبارية" المقرّبة من السلطة. غاب الجولان المحتلّ، رغم أنه في قلب ما تشهده سورية من انتفاضة دخلت الآن سنتها الثالثة، وفي خضمّ ما تتعرّض له مختلف المناطق السورية من وحشية آلة النظام العسكرية، وفي طليعة ممارسات النظام اللاوطنية من حيث تحويل الجيش السوري إلى ميليشيات احتلال وتدمير ونهب وارتهان. وغاب الجولان، رغم أنه شهد ويشهد عمليات من جانبَيْ النظام والاحتلال الإسرائيلي، متكاملة ومتناغمة: الأوّل يسحب قطعات عسكرية ثقيلة العدد والعدّة، من جبهة الجولان إلى الداخل السوري، للمشاركة في دعم النظام؛ والثاني يتابع إقامة الساتر الأمني، ويواصل التنقيب عن النفط، بأمان واطمئنان، ودون وازع أو رادع.

المرء، غنيّ عن القول، لا ينتظر من مذيعة "الإخبارية"، ولا من زميلها، أن يتجاسرا على طرح أي سؤال غير تلك الأسئلة التي طُلب منهما طرحها على الأسد؛ والأمر، استطراداً، ليس فيه جديد على تقاليد إعلامية رسّخها حزب البعث منذ انقلابه الأوّل، سنة 1963؛ وزادها رسوخاً بعد الانقلاب الثاني، سنة 1966؛ ثمّ مسخها نظام "الحركة التصحيحية"، 1970، إلى ما يترفع عنه البوق أو الببغاء. ولكن، ما دام الأسد قد استأنف عاداته الأثيرة في التفاصح والتفلسف والفذلكة، أمام عدسات التلفزة خاصة؛ وأتى على حديث "القاعدة" و"حرب بكل ما تحمل الكلمة من معنى" تشنها الولايات المتحدة ضدّ نظامه، و"مجموعة من المرتزقة تأخذ الأموال من الخارج"، و"مجموعة من اللصوص"، و"قوى تكفيرية"، ودول إقليمية عربية وغير عربية يفضحها "الدور السوري الشفاف تجاه القضايا المختلفة"... فلماذا تغييب الجولان، إذاً؟

أكثر من هذا، اجترح الأسد نظرية تقول إنّ "سورية في مثل هذه الظروف تتعرض لمحاولة استعمار جديدة بكل الوسائل وبمختلف الطرق. هناك محاولة لغزو سورية بقوّات تأتي من الخارج من جنسيات مختلفة ولو أنها تتبع تكتيكاً جديداً يختلف عن التكتيك التقليدي للاستعمار الذي كنا نسميه الاستعمار الحديث، الذي كان يأتي بقوّاته إلى المنطقة وآخره كان الاحتلال الأمريكي للعراق ولأفغانستان". وبموجب هذه النظرية، فإنّ قوّات النظام لا تقاتل "الإرهابيين" و"المرتزقة" و"القاعدة"، فحسب؛ بل هي تقوم بعمليات عسكرية تقليدية على سبيل "تحرير الأرض"، قبل متابعة تطهيرها من الأعداء. فماذا عن الجولان، إذاً: أهو محتلّ، أم محرّر، أم في منزلة ثالثة أو رابعة او خامسة، لا يمتلك فقه توصيفها إلا الأسد؟

ثمّ إذا كانت مناسبة الإدلاء بهذا الحديث هي ذكرى الجلاء، التي تعني "ماضي العزة وحاضر الكرامة" حسب الأسد؛ فلماذا يلوح أنّ الأكثر تذكيراً بجلاء القوّات هي، تماماً على النقيض، تلك الواقعة اللاوطنية المتمثلة في جلاء قوّات سورية عن... الجولان المحتلّ؟ هنا يقفز إلى التفلسف الأسدي طراز جديد من التنظير، مفاده أنّ بقاء الاحتلال الإسرائيلي في الجولان خير لسيادة سورية وعزّتها، من تحرير الجولان؛ نعم... صدّقوا ما تقرأون! يقول الأسد: "إذا كانت هناك أرض محتلة ولكن شعبها حرّ، أفضل بكثير من أن يكون لدينا أرض محررة وشعب فاقد للسيادة ودولة فاقدة للقرار الوطني". في صياغة أخرى، كان الشعب السوري حرّاً منذ خسران الجولان سنة 1967، في عهد حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك؛ وصار حرّاً أكثر بعد انقلاب الأخير على رفاقه، خريف 1970؛ وحرّاً أكثر فأكثر، بعد خسران المزيد من أرض الجولان سنة 1973، وتوقيع اتفاقية سعسع لفصل القوّات؛ وحرّاً، في المطلق ربما، بعد توريث بشار الأسد، سنة 2000... فلِمَ تحرير الجولان، وفقدان الحرّية والسيادة، إذاً!

من جانب آخر، ورغم أنه لا يتردد في تحقير تركيا، ممثلة برئيس وزرائها رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيتها أحمد داود أوغلو (رغم أنهما كانا، قبل سنتين فقط، في عداد الأحبّ إلى قلبه وعقله)؛ فإنّ الأسد لا يستذكر ـ البتة، هنا أيضاً ـ أرضاً سورية أخرى، عزيزة وسليبة، هي لواء الإسكندرون، المنطقة الواسعة التي قامت تركيا بغزوها سنة 1938، قبل أن تسلخها سلطات الانتداب الفرنسية عن الجسم السوري، وتضمّها إلى تركيا. أيكون السبب، الأوّل، هو أنّ نظام "الحركة التصحيحية"، الأسد الأب مثل الأسد الابن، سكت كلّ الوقت عن سلخ اللواء؛ بل بلغ الأمر بالوريث أنه أقرّ، ضمنياً، بالسيادة التركية التامة على الإسكندرون، خلال سنوات شهر العسل بين النظام وحكومات "حزب العدالة والتنمية" التركي؟ أم يعود السبب، الثاني، إلى النظرية الأسدية ذاتها، المشار إليها أعلاه، حول احتلال أفضل للسيادة من تحرير ينقض الحرّية؟      

لافت، إلى هذا، أنّ الأسد يستسهل استلاب ذاكرة السوريين، والعالم بأسره، حين يكيل الشتائم إلى أردوغان: "الخسائر التي مُني بها سياسياً داخل تركيا على خلفية فشله بما سمي سياسة صفر مشاكل والتي تحولت إلى صفر سياسة وصفر رؤية وصفر أصدقاء وصفر مصداقية وصفر أخلاق. أصفار بكل الاتجاهات الأخرى ما عدا صفر مشاكل". ولكن، مهلاً... أليس هذا هو أردوغان، نفسه، شريك الأسد الستراتيجي، والصديق الصدوق، والوسيط في المفاوضات السرية مع إسرائيل؟ ألم يكن الميزان التجاري بين البلدين (الرابح تماماً بالنسبة إلى تركيا، والخاسر على نحو فاضح من الجانب السوري)، قد بلغ 2,5 مليار دولار في سنة 2010، بزيادة تقارب 43 بالمئة، وكان يُنتظر له أن يبلغ خمسة مليارات في السنتين القادمتين؟ ألم تكن الاستثمارات التركية في سورية قد تجاوزت 260 مليون دولار، واحتلت الشركات التركية المرتبة الأولى من حيث عدد المشاريع التابعة لجهات أجنبية؟

وفي العودة إلى الجولان، كان الوسيط التركي شاهداً على إمعان النظام السوري في جعل الأراضي المحتلة مادّة بورصة مفتوحة، أقرب إلى مزاد غير علني بين مختلف الأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية، من جهة أولى؛ والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، مثل فرنسا وبريطانيا، من جهة ثانية؛ فضلاً عن توظيف المرتفعات المحتلة في الخطاب الديماغوجي الموجّه للاستهلاك، الداخلي السوري وكذلك العربي والإقليمي، حول "الصمود" و"التصدّي" و"الممانعة". وفي أواخر 2008 كان الوسيط ذاته، التركي الذي يذمّه الأسد اليوم، هو حامل مذكّرة النظام السرّية حول ترسيم حدود الجولان، أو بالأحرى ترسيم ما يمكن أن يصبح الحدود الدولية بين سورية وإسرائيل في حال التوصّل إلى اتفاقية سلام نهائية. والصحافة الإسرائيلية والتركية، ولكن ليس السورية بالطبع، كشفت النقاب عن ستّ نقاط جغرافية ترتكز إليها تلك الحدود، ونقل مسؤولون غربيون على لسان الأسد أنه "يريد أن يعرف وجهة نظر إسرائيل حول ما يشكّل أراضٍ سورية محتلة، قبل إحراز أيّ تقدّم".

تلك كانت خطوة عجيبة، من حيث المبدأ والتوقيت والغرض، قريباً كان أم بعيد المدى. فهل صارت حدود الجولان الوطنية الرسمية التاريخية، أو كما هي بحسب خرائط 4/6/1967 في أقلّ تقدير، مجهولة لدى الجانب الإسرائيلي، أو غير واضحة الخطوط والتضاريس والمعالم؛ ولهذا فإنّ المذكّرة السورية الجديدة تؤكد عليها، مجدداً؟ وإذا كان هذا الافتراض سوريالياً، وكانت مفاوضات سابقة قد تناولت الحدود السورية للجولان بالمتر الواحد وليس بالكيلومتر (كما قيل في الخلاف الشهير بين إيهود باراك وحافظ الأسد، مطلع سنة 2000 وقبيل رحيل الأخير، حول بضعة أمتار على الضفة الشمالية ـ الشرقية لبحيرة طبريا)؛ فأيّ حدود هذه التي كانت ترسمها، أو تعيد ترسميها، المذكرة السورية؟

كانت إجابة أولى تنبثق من احتمال أوّل يخصّ لعبة الردّ والردّ المضاد بين الأسد وأولمرت، إذْ تناقلت التقارير خبراً عن رسالة إسرائيلية، عبر الوسيط التركي دون سواه، تسأل دمشق عمّا ستكون عليه علاقات النظام السوري مع إيران و"حزب الله" و"حماس" في حال التوصّل إلى اتفاقية دائمة؛ وأنّ خلاصة ردّ الأسد كانت التالية: لا يحقّ لأحد أن يملي علينا سياساتنا الخارجية، ولكن من الطبيعي أن تتبدّل الخريطة السياسية للمنطقة بموجب سلام سوري ـ إسرائيلي. الاحتمال الثاني هو اقتناع الأسد بأنّ المؤسسة السياسية الإسرائيلية قد تأخذ على محمل الجدّ توصية جاءت في التقرير السنوي الدوري لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، نصحت بالانسحاب من الجولان (كان التقرير قد أوصى، كذلك، بشنّ ضربة جوية تدميرية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية!).

وأمّا في سوق البورصة الفعلي، حيث تناقش المؤسسة السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية مسائل احتلال الجولان بمنطق مختلف تماماً، فإنّ مذكّرة النظام السوري حول ترسيم الجولان كانت وثيقة استهلاك للوقت، أو لعب في الضائع منه. ولهذا فإنّ حدود الجولان الوحيدة ظلت تلك التي يعتمدها الاحتلال، والتي تقول التالي، بين إحصائيات أخرى: إسرائيل تستولي على مياه نهرَي اليرموك وبانياس، وتعتمد على الجولان في تأمين 50% من احتياجات المياه المعدنية، و41% من احتياجات اللحوم، و21% من كروم العنب المخصصة لصناعة الخمور (38% منها تصدّر للخارج)، وقرابة 50% من احتياجات الفاكهة وهنالك 18 ألف مستوطن إسرائيلي، يقيمون في 33 مستوطنة، ويحتكرون استغلال الغالبية الساحقة من الأراضي الصالحة للزراعة. وهي حدود تقول، هذه الأيام، إنّ قوّات الأسد تغادر الجولان المحتلّ، لتنتشر في دوما وداريا، وأحياء جوبر وبرزة والقدم ومخيم اليرموك في دمشق...

وفي وصلة تفلسف، علمية ـ مخبرية هذه المرّة، زوّد الأسد مستمعي "الإخبارية" بالمعلومة الخطيرة التالية: "لا بد أن ننظر إلى سورية ككتلة واحدة على طريقة الأواني المستطرقة. إذا وضعنا سوائل في عدد من الأوعية ووصلنا بينها بأنابيب فتغير منسوب الماء في مكان يؤثر في كل الأوعية الأخرى". حسناً، فماذا وقد غابت سوائل الجولان عن كلّ الأوعية، ولم يرتفع أي منسوب آخر سوى مقولة "إنْ لم ننتصر فسورية تنتهي"، التي تطابق شعار "الأسد، أو نحرق البلد"؟ وبعد تجميل احتلال الجولان، واتهام "الإرهابيين" بهدم مئذنة الجامع العمري، وأنّ "الجزء الأكبر من المظاهرات مدفوع"، و"المنصب ليس له قيمة"، و"الأولوية دائماً بالنسبة لنا هي حماية أرواح المواطنين"... أيّ سوائل أخرى سوف يضخّ الأسد، وفي أية أوانٍ مستطرقة!  

الاثنين، 15 أبريل 2013

بضاعة الوحش وعمود التاريخ

 حين تشترك مجموعة موالية للنظام السوري في إطلاق صاروخ "سكود" على قرية أو بلدة أو مدينة أو حتى بقعة خالية من السكان، فإنها ـ ابتداء من الآمر الأوّل في أعلى الهرم، وانتهاء بآخر ضاغط على زرّ الإطلاق ـ تعرف جيداً أنّ حفرة بعمق 3 ـ 5، وقطر 8 ـ 10 أمتار، سوف تنجم عن سقوط الصاروخ. فإذا وضع المرء جانباً مسألة إشفاق عناصر هذه المجموعة على البشر، إذْ قد لا تحرّك ضمائرهم إلا نوازع البغضاء والكراهية والحقد؛ أفلا يشفقون على الحجر والشجر والزرع والضرع والأرض... باطنها، لا سطحها وحده؟

ألا يخطر في بال أحدهم أنّ هذا الصاروخ لن يذهب بأرواح الأحياء، بل سيقضي على ما يختزنه التراب من آثار وأوابد وكنوز متحفية؛ وسيطمس، مرّة وإلى الأبد، وثائق لا تُقدّر بثمن، حول أزمان غابرة حافلة، لا تضيء تاريخ سورية فحسب، بل تاريخ العالم بأسره، بالنظر إلى ما تشغله سورية من صدارة كبرى في أرشيف الإنسانية، وفي ألفيات الماضي الكونيّ وقرونه؟ ولكن، قد يقول قائل، إذا كانت علاقة أولئك بالوطن السوري يحرّكها مبدأ "الأسد، أو نحرق البلد!"؛ فأنّى لهم الإحساس بالمسؤولية تجاه أية قيمة أخلاقية او إنسانية أو مجتمعية أخرى، غير تلك التي تقترن بذلك المبدأ؟ والذي فقد حسّ الانتماء إلى أيّ تاريخ آخر سوى 43 سنة، شغلها النظام في عمر بلد قطنه الإنسان منذ 750 ألف عام، كيف له أن يثمّن روح التواريخ؟

قصف بالصواريخ والمدفعية والطائرات، أهوج عشوائي أعمى، وحاقد يائس مذعور، في آن معاً؛ تسبب، ويتسبب كلّ يوم، في تخريب عشرات المواقع الأثرية القائمة (من قلعة صلاح الدين إلى قلعة الحصن، ومن الجوامع العمرية والأموية إلى كنيسة أمّ الزنار ودير سيدة صيدنايا...)؛ وتلك التي ما تزال مطمورة تحت الأرض، قيد التنقيب أو تنتظر، في طول سورية وعرضها. لكنه ليس الوجه الوحيد للتدمير الذي يتعرّض له تاريخ سورية، القديم والوسيط والحديث، جرّاء استهتار أهل النظام، أو أحقادهم، أو انحطاطهم أدنى فأدنى في الخيارات العسكرية العنفية. ثمة، أيضاً وبالتوازي، أعمال النهب المنظّم لآثار سورية، وتهريبها خارج القطر، وبيعها بأبخس الأثمان، في أردأ أسواق مافيات الآثار.

وإذا صحّ القول بأنّ هذه التجارة القذرة تنزلق إليها، أيضاً، بعض المجموعات المسلحة داخل صفوف المعارضة، والتي لم تلتحق بجبهات قتال النظام كرمى للحقّ والحرية والديمقراطية، بل لكي تمارس بدورها بعض أسوأ قبائح النظام؛ فإنّ هؤلاء اللصوص، الأفراد القلّة المبعثرين، ليسوا البتة في محلّ مقارنة مع عصابات النهب الكبرى، المنظمة المتمكنة المخوّلة أمنياً وعسكرياً، والمرتبطة بمافيات السلطة وكبار ضباع الفساد النهب. هنالك "تشبيح آثاري"، جرى علانية وبتسهيل وتواطؤ من ضباط جيش النظام وأجهزته، في إدلب ومعرّة النعمان وسائر جبل الزاوية، حيث مملكة إيبلا وتل مرديخ (الألف الرابع قبل المسيح)، ودير سنبل البيزنطي، ودير سيتا الروماني؛ وكذلك في تل حموقار، في منطقة الجزيرة، حيث تقع مدينة تعود إلى 3500 سنة قبل الميلاد، ويتفق الآثاريون على أنها واحدة من أقدم مراكز العمران.

وخلال أشهر الانتفاضة الأولى، حيث كانت جميع مناطق سورية في قبضة النظام، شهد متحف مدينة حماة سرقة قطعة ثمينة للغاية، هي تمثال ذهبي نادر لآلهة آرامية. وقد اتضح للمحققين أنه لم تقع عمليات خلع لأبواب المتحف أو كسر للزجاج، وأنّ السارق تجوّل في المكان بحرّية تامة، وتوفّر له كلّ الوقت اللازم لنزع التمثال من قاعدته ونقله خارج المتحف. وقبل أيام أعلنت لبانة مشوح، وزيرة ثقافة النظام، أنّ 18 لوحة فسيفسائية، تصوّر مشاهد من أوديسة هوميروس، استُخرجت من أحد مواقع التنقيب ونُقلت خارج القطر. الطريف، والفاضح كذلك، أنّ مشوح تؤكد، في تصريحات لصحيفة "تشرين" الحكومية، أنّ "المتاحف مؤمّن عليها بشكل جيد"، وعناصر هيئة الآثار والمتاحف "يقومون برصد يومي لما يحدث في المواقع الأثرية"!

ولكي يحتكم المرء إلى جهة ثالثة، بين النظام والمعارضة، تفصل في أمر الاتهامات المتبادلة حول هذا الجزء بالذات من تخريب تاريخ سورية (إذْ لا يعقل أن يُتهم الجيش الحرّ بقصف أعمدة تدمر بصاروخ "سكود"، أو قصف أعمدة بصرى بقاذفة "ميغ" مثلاً!)؛ ثمة هذه الشهادة الأممية. ففي تقرير رسمي رفعه مؤخراً إلى منظمة اليونسكو والاتحاد الأوروبي، قال الإسباني رودريغو مارتين، الذي سبق له أن ترأس مجموعات تنقيب في سورية: "لدينا حقائق تُظهر أنّ الحكومة تعمل مباشرة ضدّ تراث البلد التاريخي. وهنالك مجموعات عديدة قامت بتنفيذ حفريات سرّية، أشرفت عليها قوى أمنية. وهنالك مجموعات أخرى تمارس النهب، تحت سمع وبصر الجيش الحكومي".

وهكذا فإنّ فاقد التاريخ يمقت التاريخ، على نحو غريزي وبهيمي ربما، فيقصف صروحه كأهداف معادية تارة، أو يهرّب شواهده كبضاعة مجزية طوراً، ويقزّم أحقابه، جاهلاً أنه هو الذي يتقزّم. طبيعيّ أن يستوي عنده الوطن والعالم والإنسانية، مثل الماضي والحاضر والمستقبل، هو القابع خلف صاروخ، أو المنكمش في قمرة طائرة، أو المختبيء في سراديب محصّنة معتمة؛ المنقلب، في كلّ حال، إلى وحش أعزل نازف، على عتبة اندثار.

الجمعة، 12 أبريل 2013

من سورية إلى دارفور: قواعد متغايرة في "لعبة أمم" متماثلة

 في سورية تتعاقب فصول "لعبة أمم" كبرى، كلاسيكية من حيث اختلاط الأوراق المحلية والإقليمية والدولية، واصطدام أو التقاء مصالح القوى الكبرى والوسيطة والصغرى، وهيمنة السياسات الذرائعية في أشدّ مضامينها ابتذالاً وقذارة. أو تتعاقب فصول "لعبة أمم" حداثية، أو حتى ما بعد ـ حداثية، من حيث أنّ قواعدها تنفلت من أيّ عقال عقلاني، فتتبدّل قواعدها من قضية شعب يطالب بالحرية والديمقراطية والكرامة، ويخوض منذ سنتين ونيف انتفاضة دامية في وجه نظام يائس مستميت في البقاء، لا يعفّ عن سلاح فتاك أو سلوك عنفي وحشي. وهذه لعبة لا تدور في الخفاء أو في الكواليس أو تحت جنح الظلام، كما جرى العرف في تصوير سرديات التآمر ونظرياتها، بل هي تدور في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع العالم، بالصورة والصوت والوثيقة.

وهكذا، ينصرم نهار على سورية شهد مقتل أكثر من 150 سورياً، بينهم أكثر من 30 طفلاً وامرأة وشيخاً ذُبحوا بالسلاح الأبيض خلال مجزرة جماعية في بلدة الصنمين؛ وأمّا العالم خارج سورية (ولكن في داخلها، أيضاً، لدى بعض قطاعات "المعارضين"!)، فإنه منشغل بكلمة زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري، وبيان قائد "جبهة النصرة" أبي محمد الجولاني، والدعوة إلى إقامة "الخلافة الإسلامية"، وتطبيق الشريعة، وإعلان قيام "الدولة الإسلامية في العراق والشام"... وهذه المرّة لن يكون بشار الأسد، أو أيّ من أبواقه الإعلامية الداخلية والخارجية، في حيرة من الأمر حول طرائق تدبير الأكاذيب الكفيلة بتشويه صورة الانتفاضة وأهدافها؛ فها أنّ الظواهري، زعيم "القاعدة" بجلال قدره، هو الذي يخاطب "شام الرباط والجهاد"، حيث "في كل شبر من ثرى الشام نصرةٌ"!

لنا، في مقال قادم، عودة أكثر تفصيلاً إلى هذه الحال، إذْ لعلّ الكثير من غشاواتها تكون قد انقشعت، بما يجعل الصورة أوضح، وأقلّ احتشاداً باللغو والترهات الديماغوجية. غير أنّ ما استدعى الفقرتين التمهيدتين السالفتين، وحديث "لعبة الأمم" وقواعدها المتغايرة، هو أنّ لعبة أخرى كانت تُدار في الآن ذاته؛ ليس في أيّ من ساحات انتفاضات العرب، وإنْ كان المشهد يوحي بأنّ تلك الساحة لن تكون بمنأى بعيد عن التقاط روحية الاحتجاج التي صنعت وتصنع الحراكات الشعبية العربية. الساحة المعنية هي السودان، وإقليم دارفور تحديداً، حيث فُتحت الملفات مجدداً في العاصمة القطرية، الدوحة، وانعقد "مؤتمر إعادة الإعمار والتنمية في دافور"، ثمّ اختتم أعماله باعتماد أكثر من مليار دولار (تعهدت قطر بنصفه، ولم تتردد البرازيل في المساهمة بثلاثمئة مليون دولار، وألمانيا بمئة مليون دولار!).

ولا يُلام الشيخ أحمد معاذ الخطيب، زعيم "الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة والثورة"، إذا عاد عن عودته عن استقالته، فاستقال مجدداً احتجاجاً على هذا السخاء العالمي (والعربي، في المقام الأوّل)، تجاه دارفور؛ مقابل ممارسات الشحّ والتلكؤ والمماطلة والتملص... التي يعتمدها الغرب تجاه مؤسسات المعارضة السورية، من الائتلاف ذاته، إلى "المجلس الوطني السوري"، دون إغفال حكومة غسان هيتو العتيدة. ثمة، مع ذلك، ما يعزّي الشيخ معاذ، ويعيد حكاية السخاء هذه إلى جذرها الأصلي، في "لعبة الأمم" دون سواها. ذلك لأنّ المبالغ المعلَن عنها، والتي تصل إلى مليار دولار أمريكي، لن تُصرف إلا بعد ان تفي حكومة السودان المركزية بتعهدها توفير مئتي مليون لأغراض "الإنعاش" و"إعادة الإعمار" و"التنمية" ذاتها، وهيهات أن تؤمّن خزانة الخرطوم هذا المبلغ، خاصة وأنّ موارد النفط قد هبطت بنسبة 75 في المئة بعد انفصال الجنوب!

وفي تفكيك ملفات دارفور، بعيداً عن اللغو والترهات الديماغوجية إياها، هل من المبالغة أن نأخذ بعين الاعتبار حاجة العالم إلى إقليم دارفور، لأسباب نفطية ـ ستراتيجية؟ ألا يتردد، منذ سنوات، ذلك الحديث عن مشروع أنبوب عملاق عابر للقارّات، ينقل الذهب الأسود من العراق والخليج إلى ميناء ينبع السعودي، ثمّ ميناء عروس السوداني، مارّاً بإقليم دارفور، وحقول دبا التشادية، وصولاً إلى المحيط الأطلسي؟ أهي مبالغة أيضاً، ومن جانب آخر، أن نرتاب في أنّ الشركات النفطية العالمية (والأمريكية في طليعتها، بما تملك من نفوذ هائل، أمريكي وكوني)، لا تنظر بعين الرضا إلى استئثار الشركات الصينية والماليزية والأوروبية بصناعة النفط السوداني (قرابة نصف مليون برميل يومياً)؟

ثمة، أيضاً، سلسلة من العناصر التي يُساء توصيفها، عن سابق قصد وتصميم، بحيث تنقل المشهد الفعلي إلى مشاهد أخرى مصطنعة، أو حتى مزيفة تماماً؛ بينها هذه على سبيل الأمثلة:

1 ـ ليس دقيقاً أي حديث عن نزاع أو صراع أو حروب إثنية بين "عرب" و"أفارقة" في إقليم دارفور السوداني، بدليل اندماج أهل هذا الإقليم في صلب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السودانية طيلة مئات السنين. ألم يكن هذا الإقليم قلعة حصينة للحركة المهدية ولحزب "الأمّة"، قبل أن يخترقه الإسلاميون وحزب "المؤتمر الشعبي"، على يد الشيخ حسن الترابي شخصياً؟ ألا ينتمي أهل دارفور إلى طائفة "الأنصار"، التي لا يُعرف عنها العداء للعرب والعروبة، أياً كان المعنى المراد من هذَين المصطلحين؟ وفي كلّ حال، وبعد توقيع اتفاقية أبوجا سنة 2004، توالى على حكم مناطق دارفور ولاة من قبائل الإقليم وحده، دون أن تخفّ حدّة الصراعات بين تلك القبائل.

2 ـ مع التشديد التامّ على ما جرى ويجري من فظائع في الإقليم، ليست الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي أو التعريب القسري هي المصطلحات الملائمة لتوصيف مأساة دارفور. النزاع طبيعي بالمعنى السوسيولوجي للتنازع بين القبائل الرعوية المترحّلة (معظم عرب دارفور)، والقبائل الزراعية المستوطنة (معظم أفارقة الإقليم)؛ وهو ليس أمراً طارئاً لأنه ببساطة يدور حول الماء والمرعى والكلأ، خصوصاً في منطقة صحراوية قفر وجرداء. والأرجح أنّ إهمال الحكومة المركزية للإقليم، وهذه أو تلك من السياسيات التمييزية أو العنصرية التي تحابي عرب دارفور، كانت في طليعة الأسباب التي زادت من حدّة التنازع.

3 ـ ليست من فئة الملائكة تلك النُخب السياسية والعسكرية التي أطلقت تمرّد "أفارقة" إقليم دارفور، وهم أبعد ما يكونون عن صفة الضحيّة. لقد كانت لدى الحزبين الرئيسيين، "حركة تحرير السودان" و"حركة العدالة والمساواة"، أجندة سياسية واضحة حين بادرت ميليشياتهما إلى الاستيلاء على حامية قولو في جبل مرّة، ثمّ الزحف على مدن كتم والفاشر بعدئذ، وإلحاق سلسلة هزائم بالجيش السوداني النظامي الذي وقع أسير المفاجأة الصاعقة. هؤلاء مارسوا، بدورهم، أعمال سطو ونهب وتخريب واغتصاب في المناطق التي بسطوا سيطرتهم عليها، وهذا موثّق في تقارير منظمة الوحدة الإفريقية ومعظم منظمات حقوق الإنسان.

4 ـ ميليشيات الـ"جنجويد" ليسوا ملائكة أيضاً، ولا ضحايا. لقد ارتكبوا من الفظائع وجرائم الحرب وأعمال القتل والاغتصاب والتهجير ما لا يترك زيادة لمستزيد، وهذا أمر لا خلاف عليه في الجوهر. ما هو جدير بالسجال، في المقابل، هو تلك الدرجة المذهلة من تأثيم هذه القبائل، على نحو مطلق معمّم شامل وعنصري أيضاً، لا تمييز فيه بين زيد وعمرو. ولعلّ المرء يبدأ من التسمية ذاتها، التي أطلقها الأفارقة على العرب وتلقفتها وسائل الإعلام قاطبة (وبينها، بالطبع، تلك العربية والإسلامية!) دون تمحيص أو تدقيق. والحال أنّ التعبير يفيد معنى اللصوص والأفاقين وقطّاع الطرق، ومن غير المعقول أن تطلقه عشائر دارفور العربية على نفسها، بنفسها.

5 ـ "عرب الحدود" هو التعبير الذي استخدمه الشيخ حسن الترابي في وصف عواقب الفاصل الزمني الطويل الذي جعل ولادة الهوية العربية في السودان قيصرية، بالمعاني السيكولوجية والسياسية والجغرافية؛ وسهّل، استطراداً، لجوء الإدارة الكولونيالية البريطانية إلى سياسة الباب المغلق المعاكسة تماماً للسياسة التي اعتمدها الروّاد العرب. وفي قاموس التاج الإمبراطوري البريطاني، كان إغلاق الباب على عرب الشمال المسلمين يعني فتحه على مصراعيه أمام قبائل الجنوب عبر تقسيمه إلى ثلاثة أقاليم، وتأسيس وضع خاص بكلّ إقليم، وإسناد الخدمات التربوية والاجتماعية إلى البعثات التبشيرية، وتكليف زعماء القبائل بالشؤون الإدارية المحلية، وإحياء اللغات الإثنية والثقافة القبلية على حساب الإسلام واللغة العربية.

6 - إذا كانت حكومة عمر البشير "إسلامية"، كما تقول معظم وسائل الإعلام الغربية في استسهال عجيب، فلماذا والحال هذه تنحاز إلى عرب دارفور ضدّ أفارقة الإقليم المسلمين... الذين كانوا في طليعة مساندي الثورة المهدية أواخر القرن التاسع عشر، والذين قدّموا ثلاثة نوّاب إسلاميين في انتخابات 1986؟ وكيف يستقيم استمرار الحديث عن "إسلامية" البشير، ضمن شروط صدامه العنيف مع الشيخ حسن الترابي؟ وما معنى "إسلامية" أيّ نظام حكم في السودان، أو حتى في أيّ بلد عربي؟

7 ـ ألم يكن من المفارقات ذات الدلالة العميقة أن "الاستبداد العلماني"، كما يصف الصحافي الأمريكي ملتون فورست أسلوب حكم جعفر النميري بعد انقلاب 1969، حظي بدعم مبدئي من الشيوعيين وبمعارضة من الشيخ الترابي الذي بقي رهن الاعتقال طيلة سبع سنوات؛ ثم انقلبت الأقدار سريعاً، فأعدم النميري عشرات القادة الشيوعيين، قبل أن يهتدي إلى فضائل الشريعة وتطبيق الحدود في قوانين أيلول (سبتمبر) 1983، فلا يكتفي بالإفراج عن الترابي، بل ويعيّنه وزيراً للعدل؟ أليست المفارقة الأخرى أن اكتشاف النفط كان الكاشف الحاسم لاختبار سلسلة القوانين الاستبدادية (غير العلمانية هذه المرة)، وطرح ورقة انفصال الجنوب على نحو عنيف حصد أكثر من مليون ضحية؟

هذه العناصر يمكن، في ضوء تفكيكها إلى مكوّناتها الفعلية، أن تنقلب إلى مضامين أخرى، مضادّة لتلك المضامين ـ الكليشيهات التي يجري تداولها كلما تقاطعت الخيوط في لعبة دولية/إقليمية جديدة، وانتعشت معها عقلية الاستسهال دون سواها، وشاع إغماض العين عن الجوهر (حروب النفط والذهب في إقليم دارفور، وانتفاضة الشعب من أجل الحرية والكرامة في سورية)؛ مقابل إبراز السطح (الحروب الإثنية بين "عرب" و"أفارقة" في إقليم دارفور، وحروب "الجهاديين" من أجل "خلافة إسلامية" في سورية)، والاتكاء عليه وحده. وهي عناصر توفّر قراءة أخرى، لعلها تتيح تجاوز الضلال والتضليل والاتجار الرخيص بمأساة البشر، وتذهب أبعد ممّا هو متاح في خطابات النفاق المعتادة، والتي تتعالى كلما انطلقت "لعبة أمم" جديدة.

وكلما تماثلت في المحتوى، عملياً؛ وتغايرت قواعدها في الشكل، وحده.

الاثنين، 8 أبريل 2013

الأسد وغلاة الصهاينة: يزدرونه ويناصرونه!

 في البوّابة الإخبارية الأمريكية المحافظة Real News، وعبر حوار متلفز، تطرح المذيعة ساره كوب السؤال التالي على دانييل بايبس، المعلّق والكاتب السياسي الأمريكي الصهيوني ـ الليكودي: "لقد طالبتَ دائماً بوجوب أن يقف الغرب على الحياد في سورية، ولكنك الآن تطالب الغرب بالتدخل، ولكن بهدف مساندة نظام الأسد، فكيف تبرر هذا؟". يردّ بايبس: "أبدأ بالقول إن موقفي ليس نابعاً من أي تعاطف مع نظام الأسد أو إعجاب به، فهو نظام فظيع جدير بالازدراء. ولكني إذْ أنظر إلى الموقف ككلّ، نظام الأسد البغيض، والمتمردين الذين يزدادون فظاعة، أعتقد أنّ الأفضل لنا هو أن يواصلوا الاقتتال فيما بينهم. لا أريد منتصراً في هذه المعركة يتولى قيادة سورية، ويصبح جاهزاً لقتال جيرانها. ونحن في حال ستراتيجية افضل إذا ركّزوا على بعضهم البعض، وهذه نقطة ستراتيجية وليست إنسانية".

ولو أنّ بايبس توقف هنا، لما كان في تصريحاته ـ على بشاعتها، وانحطاطها، ودعوتها الصريحة إلى تشجيع الإبادة الجماعية ـ ما يدهش كثيراً؛ باستثناء مقدار النفاق الذي تنطوي عليه، من حيث أنّ وقائع التاريخ القريب والبعيد تبرهن أنّ نظام "الحركة التصحيحية"، الأسد الأب مثل الأسد الابن، لم يشكّل أي تهديد جدّي لإسرائيل. وقد يصحّ، بالطبع، أنّ بايبس يسعد بأن تُدمّر سورية حتى لا يبقى فيها حجر على حجر، وأن يستهلك النظام الصواريخ السورية، من الـ"سكود" إلى الـ"توشكا"، في قصف حلب والرقة، بدل تل أبيب وديمونة. غير أنّ جوهر "النقطة الستراتيجية" التي يتحدث عنها لا تتوقف عند استنزاف سورية، البلد والشعب والجيش والاقتصاد والاجتماع... بل تقتضي، أوّلاً في الواقع، الحفاظ على نظام الأسد!

يتابع بايبس: "ولكني حين أطالب بمساندة نظام الأسد، فذلك لأنه ينهزم، وإذا تواصلت الأمور هكذا فأعتقد أنه سيسقط، وسنجد الإسلاميين ظافرين في دمشق". وهنا لا تجد المذيعة مفراً من طرح السؤال الطبيعي: "كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل وتدعم نظام الأسد؟ دع جانباً الأمر الأخلاقي، ولكن كيف سينجح التدخل سياسياً؟". يجيب بايبس: "لِمَ لا؟ لقد فعلنا هذا في العراق، خلال الثمانينيات، فساندنا صدّام حسين ضدّ إيران، وكنّا نعرف أنه وحش بائس، ولكننا لم نشأ له أن ينهزم أمام آية الله الخميني"! أيضاً، يتابع بايبس: "أعتقد أنّ النتيجة الأسوأ  في سورية هي أن يصبح الإسلاميون، المرتبطون بـ"القاعدة" أو قطر أو السعودية، حكّام سورية موحّدة من دمشق".

وإذْ يُطرح عليه سؤال إيران، يرتدّ بايبس إلى نقطة التناقض الأصلية في أطروحته، أي تشجيع اقتتال السوريين فيما بينهم، ومساندة الأسد ضدّ المعارضة، في آن معاً؛ فيقول: "في سورية إسلاميون سنّة يقاتلون إسلاميين شيعة. الإسلاميون المدعومون من تركيا، يقاتلون الإسلاميين المدعومين من إيران. حسناً، دعوهم ينخرطون في هذا، ولنساعدهم في مواصلة القتال فيما بينهم"! ولكن، إذا كانت المعادلة العسكرية مختلة، بشدّة، ضدّ المعارضة؛ لصالح نظام يتلقى الدعم، العسكري والمالي والبشري واللوجستي، من إيران وروسيا و"حزب الله" اللبناني، و"حزب الله" العراقي... أفلا ينتهي بايبس إلى ما يقوله عملياً، وإنْ على استحياء: لا تسمحوا بهزيمة الأسد، وانصروه، فهو الأفضل لمصالحنا الستراتيجية؟

ولكي لا يبقى بايبس وحيداً في ساحة الدفاع عن الأسد، أذكّر بموقف صهيوني محافظ آخر، سبق لي أن توقفت عند تصريحاته: ألكسندر أدلر، المؤرّخ والصحافي الفرنسي اليهودي، خلال حوار متلفز بدوره، مع "المركز الملّي العلماني اليهودي" في باريس. حول النظام السوري، قال أدلر: "بالطبع، إنّ حلفاءنا في وجه هؤلاء السنّة والإخوان المسلمين، هم الشيعة، أسوة بكلّ الأقليات الدينية في الشرق الأوسط؛ وحلفاؤنا هم الإيرانيون بالطبع. ومن غير أن أذهب بعيداً فأصفه بالحليف، اقول إنّ بشار الأسد ينبعي أن يصمد اليوم في سورية. لستُ مع انتصار على غرار ما جرى للقذافي، وسورية ليست ليبيا، وسنشهد على الفور مذبحة معممة ضدّ العلويين والمسيحيين في الواقع، ترتكبها هذه الأغلبية السنّية المركّبة من الإخوان المسلمين، والمموّلة من قطر والسعودية".

قبل هذا، وبصدد التعليق على أمن إسرائيل بعد انتفاضات العرب، قال أدلر: "إذا سألتني عن جوهر موقفي، أرى أنّ الشعب الإيراني هو الأقرب إلى الشعب اليهودي، وإذا كان ثمة بلد محصّن ضدّ العداء للسامية، فهو إيران (...) واليوم أعتقد أنّ العدو الرئيسي هو تجمّع المتشددين المسلمين السنّة، العرب، القائم على خليط من الناصرية وعقيدة الإخوان المسلمين، والذين ـ انطلاقاً من مصر، التي كانت على الدوام البلد الجدّي الوحيد في المنطقة ـ يوشك على ترتيب محاصرة إسرائيل، والتحضير للهجوم عليها بين يوم وآخر".

أمثال بايبس وأدلر ليسا أوّل، ولن يكونا آخر، الصهاينة الغلاة ممّن يزدرون نظام الأسد لأنه "بغيض"، ولأنهم يتبارون في نفاق الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وامتداح إسرائيل بوصفها "واحة" هذه القِيَم؛ ولكنهم، في الآن ذاته، لا يوفّرون جهداً لإنقاذ الأسد، ولا يُخجلهم الحثّ على مساندته، لأنه كان ويظلّ الأفضل لمصالح إسرائيل. خاب فألهم، اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهم كمبتغي الصيد في عِرِّيسة الأسد، يقول المثل العربي!

الجمعة، 5 أبريل 2013

عراق المالكي: تعددت أقطاب الارتهان، والنهب واحد!

في خريف 2004، بعد حلّ السلطة الائتلافية المؤقتة التي كان يقودها بول بريمر في العراق، اتخذ الكونغرس الأمريكي قراراً بتشكيل وكالة حكومية تتولى الإشراف على "صندوق تنمية العراق"، الذي أنشأه مجلس الأمن الدولي سنة 2003، ثمّ آلت مسؤوليته إلى العراق أواخر سنة 2007، بناء على طلب الحكومة العراقية. وعُهد إلى ستوارت بوين برئاسة تلك الوكالة، لتحقيق الاهداف التالية: 1) إعادة الإعمار الاقتصادي للعراق؛ و2) النزع المتواصل للسلاح؛ و3) الإنفاق على الإدارة المدنية العراقية؛ و4) الإنفاق على أغراض أخرى لصالح الشعب العراقي. وبذلك رأى النور منصب أمريكي جديد، هو "المفتش الخاص لإعادة إعمار العراق"، الذي أخذ يصدر تقارير ربع سنوية، لا يرفعها إلى الكونغرس وحده، بل كذلك إلى وزيرَيْ الخارجية والدفاع. وقبل أيام، أصدر بوين تقريره الختامي، تحت عنوان "التعلّم من العراق"، بعد انقضاء تسع سنوات على إنشاء وكالته.

فصول التقرير، وهي سبعة، غير المقدّمة والخاتمة والملاحق والهوامش، ليست أقلّ من مسرد مسهب لأنساق التبذير عن سابق قصد وتصميم، والإنفاق بلا حساب، وممارسة الرشوة على أوسع نطاق، وتوقيع عقود لإنشاءات وأشغال وهمية أو بلا هدف استثماري واضح؛ في خلاصة يختزلها رقم واحد: 60 مليار دولار من الهدر! على سبيل المثال، يسرد التقرير تحقيقات في 80 ملفّ فساد وإفساد، بينها النماذج التالية: مقاول مدني دفع أكثر من 2,8 مليون دولار من الرشاوى لضابط في الجيش الأمريكي، برتبة رائد، يعمل مسؤولاً عن العقود؛ وإقرار من شركة أمريكية كبرى بارتكاب مخالفات جنائية للحصول على عقد بقيمة 8,5 مليون دولار، لتوريد عربات أمنية؛ وإدانة عقيد سابق في الجيش الأمريكي، والحكم عليه بالسجن لمدّة 30 شهراً، لمشاركته في صفقة احتيال؛ والحكم على موظف عقود في وزارة الدفاع، بالسجن لمدة 50 شهراً بسبب قبول الرشوة وارتكاب سلسلة مخالفات قانونية...

والإنصاف يقتضي القول إنّ بوين لم يكن يشاطر إدارة بوش الابن، ولا إدارة الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، توصيف أحوال العراق الإدارية، أي: المالية والاستثمارية والتعاقدية. هنالك وقائع مذهلة ساقها المفتش الخاصّ، تروي فضائح واختلاسات وهدر أموال عراقية، على يد بعض ممثلي سلطة التحالف، وبمشاركة أو بعلم أو بتشجيع أو بإغماض العين من جانب السلطات الأمريكية. وفي كلّ تقرير جديد، ثمة أقاصيص تبزّ ما قبلها في النهب والسلب واللصوصية المفتوحة، وكانت خلاصات الرجل وتوصياته ستمرّ مألوفة عادية، على هدي ما يجري من فساد هنا وهناك في العالم شرقاً وغرباً، لولا أنّ التفاصيل تظلّ مذهلة في جانبين جوهريين على الأقلّ: أنّ الفضائح تدخل في سياقات منهجية منتظمة تجعلها أقرب إلى النسق الدائم وليس المظاهر العابرة، وأنها تتمّ في شروط احتلال عسكري تمارسه ديمقراطية عريقة يحدث أنها أيضاً القوّة الكونية الأعظم، الساعية إلى إرساء نظام ديمقراطي ودولة قانون في العراق.

شطر آخر، جوهري تماماً، في هذه الحال التي يفصّلها تقرير بوين، تخصّ ملفات النفط العراقي؛ والذي صارت عقود استثماره وتطويره تُمنح عبر مزادات علنية من عيار ثقيل، تُنقل أحياناً على الهواء مباشرة! مبدأ الـ"بزنس" هو الـ"بزنس" كالمعتاد يظلّ هو السيّد بالنسبة إلى ممثّلي شركات النفط الكبرى، والأمريكية بصفة خاصة، ممّن يتقاطرون على العراق فرادى وجماعات، يحدوهم اليقين بأنّ العراق يمتلك مخزوناً من النفط ينافس مخزون المملكة العربية السعودية. هو، كذلك، مخزون ظلّ بمنأى عن أي استكشاف أو استخراج طيلة 30 سنة من الحرب والحصار، خاصة في جنوب شرق العراق حيث يقدّر الخبراء وجود أضخم تجمّع لآبار النفط في العالم.

حقل "مجنون" مثلاً، والذي يُقدّر احتياطيه بـ 12,58 مليار برميل ولم يكن ينتج إلا 45 ألف برميل، فاز بعقد تطويره اتحاد شركة "شيل" العملاقة و"بتروناس" الماليزية، حيث من المتوقع أن يرتفع إنتاج البئر إلى 1,8 مليون برميل يومياً. في المقابل، سوف يحصل الاتحاد هذا على أجر مالي، وليس حصة نفطية، بقيمة 1,39 دولار أمريكي عن كلّ برميل؛ مقابل عرض شركة "توتال" الفرنسية وCNPC الصينية باستخراج 1,405 مليون برميل يومياً، لقاء 1,75 دولار للبرميل. ومن حيث المبدأ، تلك هي الخطوات الأولى على طريق إخراج البلد من "لعنة" تصدير كمية نفط يومية تقارب المليونَيْ برميل، وتقلّ عن الكمية التي كان العراق يصدّرها في عهد صدّام حسين!

بيد أنّ المغزى السياسي لأسلوب المزادات، الذي أسفر ـ للمفارقة، غير المبهجة للولايات المتحدة ـ عن فوز الشركات الأوروبية والصينية بحصّة الأسد، كان توجيه صفعة جديدة إلى واحدة من أهمّ ستراتيجيات غزو العراق كما عبّر عنها، في صيغة أو أخرى، أمثال الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، ونائبه ديك شيني، ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد، فضلاً عن رهط المحافظين الجدد في الإدارة السابقة وخارجها. تلك الستراتيجية كانت تستهدف وضع النفط العراقي في القبضة الأمريكية، أو تحت وصايتها شبه التامة، بما يعيد صياغة القسط الأعظم من شروط اللعبة الجديدة لإدارة حروب الطاقة، على الجبهة الأورو ـ آسيوية بأسرها، وبرصيد لا يقلّ عن 115 مليار برميل من المخزون العراقي المؤكد.

المغزى السياسي الآخر هو دحر النظرية التي بشّر بها أمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل، من أقطاب البنتاغون خلال حقبة الغزو، حول قدرة العراق على تمويل مشروعات إعمار البلد ذاتياً، واعتماداً على الثروة النفطية، ودون اللجوء إلى مصادر تمويل واستثمار خارجية. والحال أنّ معظم وقائع السنوات العشر التي أعقبت غزو العراق عسكرياً، لا تكذّب هذه النبوءة الزائفة، فحسب؛ بل ثمة معطيات متزايدة تشير إلى مأساوية الحال التي بلغتها طرائق توظيف عائدات النفط العراقية، في خدمة نزر يسير من احتياجات العراقيين الماسة. ولم يكن مدهشاً، في هذا الصدد، أن يكسب رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، دعوى قضائية أتاحت له أن يمنع صرف جزء من عائدات النفط إلى أبناء الشعب العراقي!

وهذه حال صارت شبه مستقرّة، شبه دائمة، شبه اعتيادية، تستدعي تلك الأسئلة الشائكة عن عائدات النفط العراقي: ما قيمتها؟ أين تذهب؟ مَن يتحكّم بها؟ وهل توضع في خدمة العراقيين، حقاً؟ ذلك لأنّ ما يتوفر من معلومات رسمية يشير إلى إنّ كامل عائدات مبيع النفط والغاز، بالإضافة إلى مليار دولار اقتُطعت من "برنامج النفط مقابل الغذاء"، كانت قد ذهبت إلى "صندوق تنمية العراق"، دون سواه. ونعلم أنّ ذلك القرار نصّ على وضع الصندوق في عهدة الاحتلال، بغرض استخدام الأموال على نحو شفاف لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي. كذلك نصّ على أن يعيّن العراق هيئة محاسبة تتابع أوجه صرف تلك الأموال، بما في ذلك قانونية العقود التي تبرمها سلطات الإحتلال مع مختلف المتعاقدين.

في المقابل، ما يجهله الكثيرون كان أمثال غازي الياور وإياد علاوي وإبراهيم الجعفري يعرفونه حقّ المعرفة، ويعرفه اليوم جلال الطالباني ونوري المالكي، حول عرقلة أيّ تدقيق لعقود الاحتلال مع الشركة العملاقة "هاليبرتن"، ذات الارتباطات الوثيقة القديمة والمتجددة مع ديك شيني. وهذا استولد أسئلة جديدة من باطن الأسئلة العتيقة حول أنساق النهب، وهل مردّها "أشباح الحرب الأهلية"، و"اقتتال السنّة والشيعة"، و"انقلاب العراق إلى مرتع للإسلاميين المتشددين" من كلّ حدب وصوب، وإلى مختلف صنوف "الإرهاب" و"الإرهاب المضادّ"... كما قالت، وتقول تنميطات "خبراء" الشأن العراقي، في أمريكا بصفة خاصة؟ أم أنّ المسؤولية تقع على عاتق حكومة المالكي، لأنّ الأخير مرتهن لمعادلات حزبية وبرلمانية ومذهبية ضيقة ولاوطنية، داخلية وخارجية؟ أم هي ثقافة النهب والفساد والإفساد، التي دشّنها الاحتلال العراقي، قبل أن يتولى متابعتها أتباع الاحتلال من ساسة العراق؟

وبدل الالتفات إلى مشاكل العراق الداخلية المتزايدة، وعلى رأسها توتر علاقات الحكومة مع شرائح شعبية عريضة، ليس مع الشارع السنّي في الأنبار وسامراء، وكذلك مع الأكراد، فحسب؛ بل أيضاً مع فئة واسعة من الشيعة، جماعة مقتدى الصدر أوّلاً؛ وبدل تكريس جهود الحكومة لخدمة المواطن العراقي، وتوظيف قسط من عائدات النفط لتحسين مستواه المعيشي؛ يقوم المالكي بترحيل مشكلات العراق الداخلية إلى خارج العراق، وتحديداً إلى... سورية! مضى ذلك الزمن الذي شهد اتهاماته للنظام السوري بالوقوف خلف الأعمال "الإرهابية" في العراق، ومطالبة الأمم المتحدة بتشكيل محكمة، أو على الأقلّ لجنة تحقيق دولية، لمحاسبة منفّذي التفجيرات الذين أرسلهم "البعثيون" و"التكفيريون" جماعة النظام السوري. الآن لا يسمح المالكي للطائرات الإيرانية بعبور الأجواء العراقية، ونقل العتاد الثقيل إلى جيش النظام السوري، وبالتالي طعن الشعب السوري في الصدر كما في الظهر، فقط؛ بل ينخرط، أيضاً، في التنظير الفلسفي والسوسيولوجي حول
سورية! يقول: "الحقيقة أنهم منحوا العلويين شجاعة اليأس، ولذلك هم يقاتلون بنسائهم وبرجالهم من أجل البقاء"؛ وأيضاً: "الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد ستحارب إلى جانب الأقليات الأخرى ضدّ المقاتلين، ومن بينهم متشددون إسلاميون سنّة"!

وذات يوم كان ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد بوش الابن، قد سطّر مذكّرة سرّية أثار فيها الكثير من الشكوك حول كفاءة المالكي. ومن الصعب أن يتخيّل المرء سبباً، أو سلسلة أسباب، دعت هادلي إلى التحامل على المالكي؛ ليس لأنّ الأخير كان رجل الاحتلال المفضّل في منصب رئيس الوزراء فحسب؛ بل لأنّ الأوّل ساق جملة من الحقائق البسيطة عن الرجل، بينها هذه مثلاً: "صحيح أنّ نواياه تبدو طيبة حين يتحدث مع الأمريكيين، وثمة تقارير حساسة تشير إلى أنه يحاول مواجهة التسلسل الهرمي الشيعي وفرض التغيير الإيجابي، إلا أنّ الواقع في شوارع بغداد يوحي بأنّ المالكي إما جاهل لما يجري، وبالتالي فهو يسيء تقديم نواياه، أو أنّ قدراته ليست بعد كافية لتحويل نواياه الطيبة إلى فعل".

.. أو أنّ الارتهان للولايات المتحدة لا يُداوى، في حال مرتهن مزمن مثل المالكي، إلا بالذي كان في الأصل هو الداء: الارتهان الأقدم لإيران! 

الاثنين، 1 أبريل 2013

حين تثأر الخرائط

الجغرافيا قدر محتوم، لا تُتاح قراءته إلا بعد التسليم بدرجات كافية من "الحتمية الجزئية"، ودرجات أخرى من "الترابط القدري" بين ثبات الخرائط وتحوّلات التاريخ؛ يستخلص روبرت د. كابلان في كتابه الجديد "ثأر الجغرافيا: ما الذي تقوله لنا الخريطة حول النزاعات القادمة والمعركة ضدّ القدر". وهكذا، قبل أن تكون طبيعة وجبالاً وسهولاً وأنهاراً وبحاراً وطبوغرافيا ومناخات؛ وقبل أن تكون عناصرها هذه لصيقة بحياة الشعوب وصانعة للكثير من طبائعها وثقافاتها وأنماط عيشها الاجتماعية والاقتصادية ومحرّكة للكثير من  تقلبات تواريخها، خاصة في المنعطفات الحاسمة... الجغرافيا أقدار رُسمت على خرائط، تتعاقب من ذاتها، وفي ذاتها، على مرّ العصور.

فلنبدأ، قبل أن يستغرقنا التنظير فيختلط حابل التاريخ بنابل الجغرافيا، من مثال عملي على هذه القدرية، يسوقه كابلان في معرض الحديث عن "الربيع العربي": هل هي صدفة، يتساءل صاحبنا، أنّ أولى انتفاضات العرب بدأت في تونس، في بلدة سيدي بوزيد تحديداً، هذه التي تقع ضمن خطّ هزيمة هانيبال، القائد العسكري القرطاجي، على يد الجنرال الروماني سكيبيو الأفريقي، في موقعة زاما؛ حين حفر الأخير خندقاً حدودياً يمتد من طبرقة إلى صفاقس؟ في عبارة أخرى، ضمن صياغة كابلان للفكرة ذاتها: لولا أنّ تونس هي النقطة الأفريقية، وبالتالي العربية، الأقرب إلى أوروبا، وإلى "المناطق المتمدنة"؛ هل كانت أولى انتفاضات العرب ستقع فيها؟ يكتب كابلان: "بدأ الربيع العربي من تونس، البلد الأكثر تأورباً بين جميع البلدان العربية، والذي يقع على مسافة ثماني ساعات على ظهر ناقلة بطيئة تبحر نحو صقلية. وبالنسبة إلى كثيرين، كانت تونس متكاملة مع السياسة الإيطالية أسوة بتكامل صقلية معها"!

حتمية عجيبة، حقاً، هذه التي تتكيء ـ ليس جزافاً، فحسب، بل عن سابق جهل وتجهيل ـ على معطيات جغرافية مغلوطة، وقراءة رديئة وضحلة لوقائع التاريخ، وربط ميكانيكي بليد بين ماضي الإنسانية وحاضرها. وعلى المنوال ذاته، يفسّر كابلان تطورات "الربيع العربي" استناداً إلى حتميات مماثلة: الجغرافيا تشهد لتونس ومصر بتكوين طبيعي وحضاري متجانس، اقتضى مستوى معتدلاً من الأوتوقراطية؛ على نقيض ليبيا واليمن وسورية، التي ظلّت أقرب إلى تجمعات قبائلية مفككة، فاقتضت تنويعات أوتوقراطية أشدّ! ليس أقلّ منها إثارة للعجب أنّ كابلان (وهو، في هذه، نسيج وحده على الأرجح) يوحدّ نظرية المؤرّخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل، حول كون الصحراء الكبرى وشمال أفريقيا، وليس البحر الأبيض المتوسط، عمق أوروبا الحضاري؛ بأطروحات صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات، وأنّ المجتمعات التي تشترك في الخصائص الثقافية إنما تتمحور حول البلد أو المركز الذي يمثّل قلب الحضارة ورمزها.

وللمرء أن يعود إلى كتابات (يجدر القول: نبوءات) اعتمدت حتميات مختلفة الطراز فقط، لكنها تخرج من جهاز تفكير واحد، ساكن وسكوني، سطحي وتسطيحي؛ كما في هذا المثال من مقالة بعنوان "تحريك التاريخ": "البلدان الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس لم تمتلك إلا القليل فقط من المعنى قبل القرن العشرين. فلسطين ولبنان وسورية والعراق لم تكن سوى تعبيرات جغرافية غامضة، وأمّا الأردن فلم يكن في الوارد أصلاً. وحين نزيل الخطوط الرسمية على الخريطة، فإننا سنجد رسماً عشوائياً بأصابع اليد لتكتلات سكانية سنّية وشيعية تتناقض مع الحدود الوطنية (...) وإذا كان في الشرق الأوسط جزء يتشابه على نحو مبهم مع يوغوسلافيا السابقة، فإنه المنطقة من لبنان حتى إيران، حيث نواجه انحلال نظام الدولة الذي ظلّ، طيلة عقود، الحلّ الكفيل باضمحلال الإمبراطورية العثمانية".

ولكن... أين ثأر الجغرافيا، إذاً؟ أين حتمية الخريطة؟ وأين القدر اللصيق بها؟ وكابلان، الذي يراجع اليوم موقفه الصقوري المؤيد لغزو العراق عسكرياً، هل طوى نهائياً مقولته الكبرى: أنّ أيّ زعيم، منذ نابليون بونابرت، لم يعكّر صفو الشرق الأوسط كما فعل ويفعل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن؛ الأمر الذي يدفع إلى تشجيعه على المزيد من تهشيم "هذا النظام بعد ـ العثماني"، حيث لن تكون العواقب أشدّ كارثية ممّا جرى بعد تقويض الإمبراطورية السوفييتية؟ ماذا تبقى من استعداد كابلان لهتك المسكوت عنه، ومطالبة البيت الأبيض بالتالي: "بدل الديمقراطية، خير لإدارة بوش أن تستقرّ على نوع من إدارة الحكم أياً كانت، ولنفكّرْ في خرائط العصور الوسطى حيث لم تكن هنالك حدود واضحة، بل مجرّد مناطق غير متمايزة في كردستان وبلاد الرافدين وسواهما، خاضعة للتأثير الفارسي".

فلا إدارة بوش استقرت على "إدارة" من أي نوع، ما خلا ارتهان العراق لطهران؛ ولا بلّورة كابلان السحرية أفضت به إلى إبصار عقيدة الرئيس الأمريكي التالي، باراك أوباما، في فكّ الارتباط عن عقد ونيف من تخبط السياسات الأمريكية هناك. والصفحات اليتيمة التي يعقدها كابلان للانتفاضة السورية، في الفصل الأخير من كتابه، لا تكاد تتجاوز السفسطة المعتادة حول "الجهاديين"، و"البلقنة"، و"كتب العلويين السرّية" و"الاحتجاجات" بوصفها "مآزق هويّات"! وأمّا خرائط الانتفاضة السورية، من جانبها، فإنّ ثأرها يتجاوز بكثير أمر تلقين كابلان درساً في التاريخ وفي الجغرافيا على حدّ سواء، حول بلد عريق احتضن حضارات شتى، وأعطى الإنسانية أبجدية أوغاريت الأولى؛ ودمشق، عاصمته، هي الأقدم في التاريخ.