وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 28 أكتوبر 2013

.. والدور على رستم غزالي!

 اللواء أنور كامل جامع (واسم السجع الأشهر: جامع جامع)، قُتل مؤخراً في مدينة دير الزور، حيث كان يتولى رئاسة فرع المخابرات العسكرية هناك، ويشرف على الطرائق الأقذر والأشدّ همجية في قمع الانتفاضة؛ فضلاً عن سلسلة من المهامّ غير المعلَنة، بينها تفتيت وحدة الصفّ الوطني المعارض في صفوف العشائر والأكراد. مراسم تشييع جامع حضرها اللواء عصام زهر الدين، قائد اللواء 105؛ المسؤول عن مجازر بابا عمرو، صاحب الشاربين المعقوفين، وحامل اللقب الذي اختارته له مواقع التواصل الاجتماعي: غرندايزر! زين الدين هذا ودّع زميله في خدمة النظام، بالعبارة التالية: "وحياة ترابك الغالي لأمحي دير الزور وإزرعها بطاطا"؛ هكذا، دون أن يرفّ له جفن أو يرتدع لسان، وليس دون تزامن لفظي ودلالي اقترن بجيش النظام طيلة عقود، بين البوط والبطاطا!

وفي مطلع الانتفاضة السورية كان النظام، ممثلاً في بشار الأسد وشقيقه ماهر، قد اعتبر زهر الدين موضوع صفقة يمكن إبرامها، حتى من طرف واحد، مع أبناء السويداء وجبل العرب عموماً؛ فنُقل صاحبنا من قائد كتيبة، متواضع مغمور وراضٍ قنوع، إلى قائد لواء في الحرس الجمهوري. وكان طبيعياً، بعدئذ، أن يُرسل إلى المواقع الأكثر سخونة في حرب النظام ضدّ الشعب، فمرّ بمجازر دير الزور والتلّ ودرعا وحلب، قبل أن تستقرّ شهرته في أفانين البطش بمدينة حمص.

أمّا جامع، فإنّ ولاءه المطلق للنظام، وتاريخه الحافل بأصناف المخازي كافة، خاصة في لبنان طيلة ربع قرن، ثمّ في سورية بعد سنة 2005، حين كان ضمن لائحة الضباط السوريين المتهمين بالتورّط في اغتيال رفيق الحريري؛ فإنه كان من "عظام الرقبة" كما في التعبير الشعبي الشائع، وتحصيل حاصل لا يستوجب صفقة مع أحد. لهذا، أسوة برفيقه في سلاح الاستبداد، رُفّع إلى رتبة لواء، تقديراً للخدمات (الدموية، الوحشية، البربرية...) التي أسداها للنظام في دير الزور، دون المرور بالحدّ الأدنى من فترة الخدمة الضرورية؛ وبعد مقتله كان طبيعياً أن يرُفّع أعلى فأعلى: إلى رتبة عماد شرف.

أمثال زهر الدين وجامع يمثّلون نمطاً من ضباط النظام، ممّن يحتلون الصفّ الثاني في سلّم المسؤوليات العسكرية والأمنية؛ لكنّ مقادير ولاءهم المطلق للنظام، وطاعتهم العمياء في تنفيذ سياساته وأوامره، تتفوّق غالباً على ضبّاط الصفّ الأوّل (أمثال ذو الهمة شاليش، حافظ مخلوف، جميل حسن، علي مملوك...). وكان السوريون قد تعرّفوا على نموذج ثالث خاصّ من هؤلاء، هو العقيد علي نظير خزام، ابن بلدة القرداحة، ضابط المهامّ الخاصة في الحرس الجمهوري، وأحد مساعدي ماهر الأسد المقرّبين.

وهذا رجل امتزجت في نفسه هستيريا الولاء لنظام آل الأسد، بحميّة الدفاع عن "مولانا أمير النحل" و"خالق الكرة الأرضية"! وقبل مقتله، في دير الزور أيضاً كما رجحت معظم التقارير، انتشر على الـ"يوتيوب" شريط يلتقطه في أحد أعراس قرى الساحل، مخاطباً الناس هكذا: "وحقّ أمير المؤمنين أنتم تقاتلون منذ 1400 سنة"؛ معيداً معركة النظام ضدّ الشعب، إلى قتال الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، ونزاع الشيعة والسنّة، ليس دون إدراج الخوارج أيضاً!

غير أنّ ولاء ضباط هذا الصفّ الثاني ليس عاصماً لأيّ منهم، بصرف النظر عن رتبته العسكرية أو موقعه الميداني أو حتى أصوله الدينية أو الطائفية أو الإثنية، من جولات التصفية الناجمة عن خلافات هنا أو هناك، حول اقتسام المغانم أو المسّ بالتوازنات أو التطلّع إلى موقع الصفّ الأوّل أو نكث العهود؛ أو، في سياقات ليست أقلّ أهمية، حين يصبح وجود الضابط، رغم أنه مطيع موالٍ قانع مدافع، خطراً على هذه أو تلك من معادلات منجاة النظام. فإذا صحّ أنّ أكثر من جهة معارضة مسلحة نسبت إلى نفسها واقعة استهداف اللواء جامع جامع، بما في ذلك "جبهة النصرة" و"داعش" ومقاتلي قرية "البوليل" الديرية؛ فإنه يصحّ استطراداً افتراض تورّط النظام ذاته في تصفية ضابط كان أميناً على كثير من أسرار "الحركة التصحيحية" في لبنان، وفي رأسها ملفات الصراع بين "أمل" و"حزب الله" خلال الثمانينيات، وخفايا اغتيال الحريري.

وهذا تفصيل يعيدنا إلى اللواء غازي كنعان، الذي نُحر أو انتحر أو انتُحر في مثل هذه الأيام سنة 2005، وكان تغييبه تطوّراً استثنائياً في النهج الذي اختطه حافظ الأسد لرجالاته المخلصين، ونقلة طارئة على معمار الآلة الأمنية وتوازناتها الداخلية، وعلى محاصصات القوّة إجمالاً. وجامع جامع ليس غازي كنعان، بالطبع، ولا السياقات التاريخية لمقتل الأوّل ذات صلة تفسيرية بتغييب الثاني؛ بيد أنّ الاثنين انتميا، وإنْ في مرحلة تاريخية سابقة، إلى تلك الحلقة التي تنتقل تداعياتها من الماضي إلى الحاضر والمستقبل القريب، وتستوجب "تعزيل" البيت داخلياً، بيد أصحابه أنفسهم، لا بيد زيد أو عمرو في جنيف ـ 2، أو في طهران أو موسكو أو واشنطن.

اتكاءً على منطق كهذا، إذا صحّ كلّه أو بعضه، فإنّ الدور التالي في "التعزيل" قد يشمل نماذج رستم غزالي؛ وإنْ جاز الترجيح بأنّ الأخير لا يستحقّ التصفية، إذْ أنّ وضعه على الرفّ أيسر من نفخ ريشة غراب!

الاثنين، 14 أكتوبر 2013

الأرمني كاشف الحجاب

في أوائل القرن الماضي كانت ماردين كبرى بلدات سنجق ديار بكر، في أقصى الشمال الشرقي من تركيا الراهنة؛ وكانت وادعة في جغرافيتها، عارمة باضطرام التحوّلات الناجمة عن دخول تركيا في الحقبة الكمالية وانسلاخها عن ذاكرة الإمبراطورية العثمانية. ولكن ماردين تميّزت، أيضاً، بتعدديتها الثقافية والديموغرافية، إذْ حفظ أبناؤها العرب المسلمون مكاناً، ومكانة، للكرد والتركمان والأرمن والكلدان؛ قبل أن يأزف زمن الجائحة والتقاتل الإثني والمذابح (ضد الأرمن بصفة خاصة)، وتعقبه موجات التهجير والتتريك القسري.

هنا ولد يوسف كرش (1908 ـ 2002) لأسرة أرمنية تمتهن التجارة، ليشبّ بسرعة على رائحة الموت الفردي (وفاة شقيقته بالتيفوس)، والموت الجماعي جرّاء الأوبئة والمذابح، وعذاب التفكك الأسري، وتبعثر أشقائه في أكثر من بقعة واحدة بين تركيا وسورية. هذا الحسّ التراجيدي المبكّر سيلازم الفتى طويلاً، وسيكون وراء إصراره على استكشاف وتسجيل أقصى مقدار ممكن من درجات الأسى في البورتريهات الفذّة التي سيصّورها، والتي ستجعله أحد الأساتذة الكبار في عالم التصوير الفوتوغرافي.

في عام 1915 بلغ اضطهاد الأرمن ذروته الدامية، وتوجّب على الطفل يوسف أن يشهد بأمّ عينيه مقتل القريبين منه، واعتقال خالَيْه ووفاتهما في السجن، هو الذي كان ينقل إليهما صرّة الزاد بصفة يومية. وفي عام 1922 سمحت السلطات التركية بهجرة الأرمن، فغادرت أسرة كرش إلى مدينة حلب السورية، وتركت وراءها كلّ شيء بما في ذلك أبواب البيوت المفتوحة على مصراعيها. وبعد إقامة قلقة قررت الأسرة إرسال الفتى إلى  كندا حيث يعمل خاله هناك، فسافر إلى بيروت، ومنها إلى هاليفاكس الكندية، التي وصلها في اليوم الأول من السنة الجديدة 1925.

الخال جورج كان يعمل نقاشاً ومصوّراً فوتوغرافياً في بلدة شيربروك؛ وقبل أن يعقد العزم على توريث مهنة التصوير إلى ابن أخته، توجّب أن يرسله إلى مدرسة لتعليم اللغة الإنكليزية، لأن الفتى لم يكن يتكلم سوى العربية، وكان ـ مثل معظم أهل ماردين، بصرف النظر عن أعراقهم ـ لا يتقن لغة أخرى قدر اتقانه للعربية الغالبة. وبعد سبعة شهور بدأ التدريب الفعلي على مهنة التصوير في ستوديو الخال، الذي أدرك سريعاً خصوصية علاقة الفتى بالجانب الفني من الصورة، فقرر إرساله لدراسة التصوير في بوسطن على يد جون غارو، أحد كبار أساتذة البورتريه الفوتوغرافي في أمريكا الشمالية بأسرها.

بعدئذ، منذ أربعينيات القرن الماضي، وقف رجالات العالم (من ساسة وأدباء وعلماء وفنّانين) أمام عدسة كرش، ونفذّوا تعليماته بصبر استثنائي، لكي ينالوا في نهاية الجلسة الشاقة مجرد صورة فوتوغرافية. ولكنهم كانوا يعرفون أنها لن تكون صورة عادية، بل قطعة فنية معدّة لدخول التاريخ، ليس أقلّ. هذا الأرمني، التركي/السوري/الكندي، سيصبح أمير البورتريه الفوتوغرافي بلا منازع، وأستاذ "الاستعارة الفيزيائية"، وسيّد الاستخدام الدرامي للضوء لا كما استُخدم من قبل، خاصة في اقتناص خفايا القسمات البشرية، والتركيز فيها على بُعد مركزي منفرد، وفريد، يتيح كشف الحجاب عن دواخل النفس خلف الوجه.

والذاكرة البصرية الكونية، في مشارق الأرض ومغاربها، حفظت قراءة كرش الفوتوغرافية الفريدة لملامح أناس من أمثال إرنست همنغواي، ألبرت أينشتاين، جورج برنارد شو، هـ. ج. ولز، ياسوناري كاواباتا، بابلو بيكاسو، خوان ميرو، هنري مور، برتراند رسل، ألبير كامو، جان كوكتو، توماس مان (تفصيل مذهل يلتقط الكفّين، فقط!)، وليام سمرست موم، تنيسي وليامز، أندريه مالرو، فلاديمير نابوكوف، ألبيرتو جياكوميتي، وأندي ورهول؛ ثمّ الملكة إليزابيث، ونستون تشرشل، دوايت أيزنهاور، الجنرال دوغول، جواهر لال نهرو، جون كنيدي، جوزيف بروز تيتو، نلسون مانديلا، مارتن لوثر كنغ، فيصل بن عبد العزيز، وفيديل كاسترو؛ فضلاً عن مارتا غراهام، جان سيبيليوس، بول روبسون، ألفرد هتشكوك، كلارك غيبل، أنيتا إكبرغ، همفري بوغارت، بوريس كارلوف، أودري هيبورن، آنا مانياني، صوفيا لورين، إليزابيث تايلور، وجيسي نورمان...

في عام 1943 سافر كرش إلى بريطانيا موفداً من مجلّة "ساترداي نايت" الكندية، فصوّر عدداً كبيراً من الشخصيات الأبرز آنذاك؛ ثم زار الولايات المتحدة ليعود منها بزاد إضافي جمعه في كتابه "وجوه القدر"، 1947. وكانت هاتان الرحلتان قد دشّنتا بداية عهده بما سيسمّيه "الأوديسة الفوتوغرافية"، التي قادته من قرى الزولو في جنوب أفريقيا إلى المعابد البوذية في اليابان، مروراً بالقطب الشمالي. وكلاسيكيات أعماله جُمعت في العديد من الكتب، بينها: "بورتريهات العظَمة"، 1959؛ "حقيبة كرش"، 1967؛ "وجوه من عصرنا"، 1971؛ "بورتريهات كرش"، 1976؛ و"أساطير أمريكية"، 1992. وفي كتاب مشاهير العالم Who's Who، طبعة سنة 2000، كان كرش الكندي الوحيد في لائحة أهمّ مئة شخصية عالمية في القرن العشرين، و51 من هؤلاء كان لهم شرف الوقوف أمام عدسته!

وهذه الأيام ينظّم "مركز مونا بسمارك للفنّ والثقافة"، في باريس، معرضاً متميزاً يضمّ قرابة 70 من أعمال كرش، تغطي غالبية محطاته الأسلوبية، وتشمل عدداً كبيراً من بورتريهاته الأشهر. لكنّ هذه المناسبة ليست وحدها التي تردّه إلى سطور مواطن سوريّ مثلي؛ ذلك لأنّ مدينته الثانية، حلب، وفنون أهلها السوريين الأرمن، تبقيه حيّاً في الذاكرة السورية المعاصرة؛ تماماً كما تفعل ماردين، مسقط رأسه.

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

"فتح" في ضيافة الأسد.. بعد ذرف الدموع على عوفاديا!

الذي يعزّي الكنيست الإسرائيلي بوفاة أحد كبار عنصريي اليهود في عصرنا، وأحد أعتى المتطرفين في كراهية العرب، وبغض الـ"غوييم" عموماً وسائر "الأغراب" عن بيت إسرائيل؛ لماذا، في التوقيت ذاته، لا يرسل مندوباً شخصياً عنه، يحدث أيضاً أنه عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، للتضامن مع بشار الأسد، سفّاح الشعب السوري، وريث واحد من اشرس سفّاحي الشعب الفلسطيني؟ هذه آخر أحوال الرئيس الفلسطيني محمود عباس: في إهراق العبرات (التي قد تكون صادقة حقاً، وليست من صنف دموع التماسيح) على رحيل الحاخام عوفاديا يوسف، الذي وصف العرب بـ"أبناء أفاعٍ" ندم الربّ ذاته على خلقهم؛ وفي إيفاد الأخ شريف علي مشعل (عباس زكي، في ألقاب نضالات أيام زمان!)، لتمجيد رأس النظام السوري.

وقبل أن ينتفض أشاوس "فتح" وسلطة عباس دفاعاً عن أحد قادتهم، ليست مفردة "تضامن" من عندياتنا، وليست انسياقاً بلاغياً مستمداً من روحية اللقاء بين الأسد وزكي؛ بل هي واردة في النصّ الرسمي الذي وزّعته سانا، وكالة أنباء النظام، في تغطية الزيارة. ولقد نقلت عن زكي تشديده على "تضامن الشعب الفلسطيني مع سورية في مواجهة العدوان الذي تتعرّض له"؛ كما اقتبست قوله إنّ "استهداف سورية استهداف للأمة العربية، لأنّ ما يجري من استنزاف لمقدّرات شعبها وجيشها يأتي في سياق مخطط أكبر يرمي إلى تقسيم دول المنطقة وإضعافها خدمة لمصالح إسرائيل". إلى هذا، لم توحِ الصور الفوتوغرافية بأنّ جفناً قد رفّ في محيّا زكي حين تكاذب الأسد، ومخيم اليرموك يعاني الحصار والتجويع، بأنّ "الأحداث التي تشهدها سورية لم ولن تغيّر نهج الشعب السوري إزاء أشقائه الفلسطينيين الموجودين في سورية، بل زادتهما لحمة وتماسكاً في مواجهة الاعتداءات الإرهابية التي تستهدفهما معاً"!

ولكي لا تبدو هذه التصريحات وكأنها "مدسوسة" على المناضل الفتحاوي المخضرم، أو "منتزَعة من سياقاتها" كما جرت العادة في أصول التنصّل من الأقوال؛ أكمل زكي دقّ المسمار إلى النهاية، فالتقى مع مندوب "جراسا نيوز"، في العاصمة الأردنية عمّان هذه المرّة، عقب عودته من دمشق، وأكمل ما استحى إعلام النظام السوري ذاته من نسبه إليه. ففي ملفّ "العدوان" ـ الذي يتعرّض له النظام السوري، وليس غزّة أو رام الله أو المسجد الأقصى... ـ شطح زكي بما لم يشطح به أردأ "الممانعين" وأشدّهم بلادة وسطحية: "دمشق عاصمة المقاومة والممانعة، دمشق العاصمة والدولة التي حافظت على هوية الفلسطيني وأعطته حقوق المواطنة كاملة بالوقت الذي أبقت فيه على هوية الفلسطيني كشاهد على جرائم الصهيونية التي احتلت الأرض وهجّرت الإنسان. دمشق لم تسقط خيار المقاومة يوماً. سورية التي رفضت التخلي عن الفلسطيني في أدق مراحل تاريخه".

هل نسي زكي، الذي درس في دمشق وتخرّج من جامعتها، دلالات وجود جحيم أمني مخصص اسمه "فرع فلسطين"، خاصّ كذلك في شراسة ضباطه وهمجية أساليبه؛ تكفّل بترويع فلسطينيي سورية، قبل أن يوحّدهم مع أشقائهم السوريين في الترهيب والتنكيل والتعذيب؟ هل نسي مشاركة حافظ الأسد، شخصياً، في التآمر على المقاومة الفلسطينية أثناء جولات "أيلول الأسود"، ثمّ شنّ الحرب عليها بعدئذ في لبنان، مباشرة أو عن طريق وكلاء محليين؟ هل نسي حصار المخيمات، وحصار بيروت، وحصار طرابلس...؟ ومَنْ يعلّم ابن "فتح"، ربما أكثر من سواه، مجلدات ومجلدات في تاريخ غدر آل الأسد بالحركة، وذلك منذ عام 1964، أي منذ انطلاقة "فتح" والعمليات الفدائية الأبكر؟

كذلك، في هذا الصدد، ألا تنطوي أكاذيب زكي على إهانة شخصية لذكرى ياسر عرفات نفسه، القائد التاريخي الحقّ لحركة "فتح"، الذي عانى الأمرّين من الأسد الأب، ليس في "أدقّ مراحل" التاريخ الفلسطيني، فحسب؛ بل في كامل ذلك التاريخ، منذ صعود نجم الأسد داخل معمار النظام السوري، بعد حركة 23 شباط (فبراير) 1966، ثمّ انقلاب الأسد سنة 1970؟ ثمة هنا إغراء دائم في استذكار واقعتين ضمن هذا التاريخ، أولاهما تعود إلى سنة 1964، حين قامت مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية السورية باعتقال عرفات، بتهمة "التحضير لأعمال تخريبية"، بعد تفتيش صندوق سيارته والعثور فيها على أصابع ديناميت. الاعتقال دام ساعات قليلة، لكنّ الحادثة بدت غريبة لأنّ عرفات كان ينقل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، ولديه موافقة رسمية بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب "فتح" في سورية.

وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الذي نقل ذلك إلى عرفات شخصياً، بعد مفاوضات بين الرجلين كانت قد بدأت مطلع ربيع ذلك العام. أمّا الآمر الحقيقي وراء مذكّرة الاعتقال فقد كان الرجل القويّ في الجيش، وصاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاستخبارات، وقائد القوى الجوية، اللواء حافظ سليمان الأسد. كان سويداني يمثّل طموح حزب البعث الحاكم في احتكار القضية الفلسطينية سياسياً وعقائدياً، ولهذا أقنع القيادة بالسماح لـ "فتح" بحرّية التدريب على الأراضي السورية. في المقابل، كان الأسد يمثّل مطامحه الشخصية في السيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاستلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفات بأنه صاحب القرار الأقوى، وأنه هو المرجعية العليا التي يتوجب على "فتح" أن تعود إليها.

وتلك الحادثة الأولى سجّلت بدء تاريخ طويل من العداء بين عرفات وخصمه (العربيّ!) الأكثر شراسة، الأسد الأب؛ الذي أصرّ على تحويل جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، و"فتح" بصفة خاصة، إلى ورقة في جيبه ولصالح خططه التكتيكية والستراتيجية على حدّ سواء. أمّا الأوّل، عرفات، فقد ظلّ مصرّاً على ضرورة بقاء البندقية الفلسطينية، والقرار الفلسطيني تالياً، في حال من الاستقلال التامّ عن مختلف الأنظمة العربية، وعن صراعاتها الداخلية أو الإقليمية. وهذا ما جعل الواقعة الثانية مجرّد تتمة منطقية للواقعة الأولى؛ حين قرّر الأسد، في 24 حزيران (يونيو) 1983، طرد عرفات من العاصمة السورية بوصفه "شخصاً غير مرغوب به". ويروي ألان هارت، في كتابه "عرفات"، أنّ جورج حبش كان آخر الفلسطينيين الذين ودّعوا عرفات في مطار دمشق، وأنه احتضنه قائلاً: "يا الله يا أبو عمّار! إذا كنتَ أنت تغادر الشام هكذا، فكيف سأغادرها أنا؟ ربما في كفن"!

وريث ذلك النظام، الأسد الابن، هو الذي يتطوّع زكي لغسله اليوم، بل يمارس في الغسيل ما عفّ عنه مزيّفو خرافة "جهاد النكاح" أنفسهم: "نحن مع محور دمشق ايران روسيا الدولة العظمى في وجه التغول الصهيوني المدعوم من ماكينة إعلام صهيونية ولوبي استطاع غسيل العقل الغربي واقناعه بأن هذا الوطن العربي من المحيط الى الخليج صحارى وكثبان من القبائل المتقاتلة على مكاسب دنيوية رخيصة لفكر انتج جهاد المناكحة"! وأيضاً، لكي يذكّرنا الفتحاوي بأنه فلسطيني، نقتبس المزيد من أقواله العصماء (مع الاحتفاظ بأخطائها اللغوية): "ذهبنا الى دمشق لحماية 15 مخيم للاجئيين فلسطين، ذهبنا الى دمشق لحماية مخيمات اللجوء التي حاولت القوى الاسلامية وقوى فلسطينية مشبوهة بزج الفلسطيني في سورية كحطب لمعركة الاخرين التي تخوضها القوى الغربية باموال عربية وسلاح غربي حيث تم خلط الاوراق وتحولت وجهة النضال والكفاح ضد الاخ وتركت اسرائيل تنام في عسلها"...

ولا يكتفي زكي بإغداق هذه المدائح على نظام الأسد، بل يتوجب أيضاً قدح الانتفاضات العربية جمعاء، بلا استثناء: "هذا ليس ربيعا هذا استكمال لمشروع فرق تسد الاستعماري فالغرب الاستعماري ومنذ اكتشاف النفط هذه اللعنة التي حلت بالامة العربية حيث ابتدات الدول العظمى انذاك بالتفكير بحماية منابع الطاقة، هذا ما دفع هذه القوى الاستعمارية بايجاد كيان في قلب المنطقة تقوم بدور الحارس الامين لكنوز النفط والطاقة وتعمل على تاجيج الخلافات الدينية والاثنية والقومية والعصبية وفي كل مرحلة من مراحل القضية يتم اشهار ورقة من هذه الاوراق بحسب الضخ الاعلامي الذي سيطرت عليه مبكرا المنظمات الصهيونية، هذا الكابوس ليس ربيعا انه معولا لهدم ما تبقى من قومية وعروبة"!

ويبقى اقتباس أخير، ضروري أخلاقياً، قبل ضروراته السياسية والتاريخية، حول الموقف من حسن نصر الله و"حزب الله"؛ نسوقه مع الاحتفاظ بالأخطاء اللغوية، هنا أيضاً. يسأله محاوره: "هل لاحظتم ان هذا القائد وحزبه يشكلون خطرا على الامة العربية لكونه كما يشاع قبضة ايرانية متقدمة؟"، فيجيب زكي: "على العكس تماما السيد نصرالله من الاقلاء المؤمنون بالامة العربية والاسلامية واداة قياسنا لاية قوة هو علاقته باسرائيل ان كان هاديء اضع يدي على قلبي وان كان مصدر قلق لاسرائيل فهو الى جانبي، فأي دولة تطمأن لها اسرائيل تدفعنا للقول لاحول ولا قوة الا بالله. بالنسبة لحزب الله فاننا نقول عاشت الايادي طالما كنتم تهددون اسرائيل"!

بيد أنّ زكي، ليس صوت نفسه، حتى إذا كان هو الناطق بهذه الشطحات الفاضحة؛ لأنه، ببساطة، صوت سيّده محمود عباس، الذي يندر أنه أفلح في إخفاء عواطفه تجاه آل الأسد، الابن بعد الأب؛ ويندر، أكثر، وعلى مستوى جوهري أعمق، أنه أفلح في تمثيل كرامة الشعب الفلسطيني على نحو مشرّف. والقبلات التي تبادلها زكي مع الأسد، سبق أن تبادلها سيّده مع الدكتاتور نفسه، مطلع العام 2007؛ في مسعى من عباس لطرح الزيارة بضاعة في اسواق التبادل الأمريكية ـ الإسرائيلية، أو المساومة عليها مع بعض الأطراف العربية مثل مصر والأردن والسعودية وقطر، ثمّ إعادة تسويق دور ما للرئاسة الفلسطينية في ما يخصّ الحوارات الأعرض نطاقاً مع طهران ودمشق.

وذات يوم، لكي نبقى في سيرة القبلات، كان يوري أفنيري ـ الكاتب الإسرائيلي المعروف، أحد أنزه يهود العالم القلائل الذين يدعمون الحقّ الفلسطيني بلا هوادة، وأوّل إسرائيلي يلتقي علانية مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ـ قد اختار تعبير "قبلة الموت" في توصيف ما طبعه إيهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، على خدّي عباس. أكثر من هذا، أضاف أفنيري: "منذ أن عانق يهوذا الإسخريوطي يسوع المسيح، لم تشهد أورشليم القدس قبلة مثل هذه"! لعلّ القبلات، أسوة بالدموع المدرارة التي ذُرفت حزناً على حاخام "شاس"، أحدث منتوجات السلطة الفلسطينية من بضائع؛ كاسدة، فاسدة، رخيصة...

الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

"ممانعة"... ولكن غير كيميائية!

كباحث عن إبرة في كوم قشّ، أو كساعٍ بعدئذ إلى حشر فيل في خرم الإبرة ذاتها، يفتش المرء عن "ممانع" عربي واحد رأى في قرار مجلس الأمن الدولي 2118، حول تفكيك الأسلحة الكيميائية في سورية، انبطاحاً من جانب نظام بشار الأسد، أو تنازلاً عن ركن أساس في ما سُمّي "الردع الستراتيجي" مع العدوّ الإسرائيلي. في المقابل، يعثر المرء إياه على اكتظاظ، بل تزاحم بالمناكب، لدى أولئك "الممانعين" الذين يرددون، على نحو يخجل منه طائر الببغاء، أقوال الأسد التي ترى في ذلك القرار انتصاراً شخصياً لمهاراته التكتيكية (نعم، بل لعلّه ظفر مبين!)؛ لأنّ تلك الأسلحة كانت "عبئاً" في الأساس، ومجلس الأمن الدولي تطوّع (أم هو اضطرّ، صاغراً؟) إلى مساعدة النظام في التخلّص من الترسانة بأسرها!

وهكذا، قال الأسد لعدد من زوّاره، حسبما نشرت صحيفة "ممانعة" يشرف عليها "حزب الله" اللبناني: "الكيميائي ليس هدفهم ولم يكن. هم كانوا يريدون تغيير موازين القوى وحماية إسرائيل. نحن قلبنا الطاولة عليهم ورمينا الكرة في ملعبهم، فأحرجوا أمام الرأي العام الأمريكي والأوروبي، بل داخل الإدارة الأمريكية نفسها"! كيف هذا، والسلاح الكيميائي معادل كبير في "التوازن" ضدّ إسرائيل؟ وأية طاولة تلك التي انقلبت؟ هنا إجابة الأسد: "أصلاً صنعنا الكيميائي في الثمانينيات كسلاح ردع في مواجهة السلاح النووي الإسرائيلي. الآن لم يعد سلاحاً رادعاً. لدينا ألف طن من الكيميائي يشكلون أصلاً عبئاً علينا. التخلص منها يكلف أموالاً طائلة ويستغرق سنوات، ويطرح تحديات بيئية ومشكلات لا بد من حلها. فليأتوا ويأخذوها".

ما الذي يبقى من "التوازن" إياه، مرّة أخرى؟ الشطر الثاني من إجابة الأسد يصلح قنبلة نووية في يد "الممانع"، المتعطش إلى "ممانعة" من أيّ طراز، حتى في أضعف الإيمان، أي على مستوى الجعجعة وحدها: "لدينا اليوم أسلحة ردع أكثر أهمية وأكثر تطوراً حيال إسرائيل التي يمكننا أن نعمي بصرها في لحظات"! الويل للعدوّ الإسرائيلي من هذه "اللحظات"، لأنها لا تُبقي على الكيان، ولا تذر! الثبور، وعظائم الأمور، ممّا يخبئه جيش الأسد من أسلحة فتاكة، ساحقة ماحقة، لم تتجاسر على نسج مآثرها حتى المخيّلات المنفلتة من كلّ عقال، عند أمثال وئام وهاب أو ناصر قنديل أو فايز شكر! وليس مطروحاً البتة، عند رهط "الممانعة" في أصنافه وأطرافه كافة، ذلك السؤال البسيط الذي يقول: حسناً، أين كانت، ولماذا ظلت خبيئة، تلك القوّة الجبارة حين أغارت إسرائيل على سورية، مراراً وتكراراً، طيلة 13 سنة من توريث الأسد؛ وقبله، طيلة سنوات من سلطة أبيه؟

ليست، أو بالأحرى لم تعد، مطروحة (حتى عند حسن نصر الله، ومرجعياته العليا في طهران) سلسلة الأسئلة التي عدّدها، ذات يوم غير بعيد، الصحافي الأمريكي شارلز ريز، وصاغها على هيئة أحجية متكاملة تكون مفردة إسرائيل هي الإجابة الوحيدة عليها، كلّها: من هي الدولة التي تنفرد عن جميع دول الشرق الأوسط في امتلاك الأسلحة النووية؟ التي ترفض حتى الآن التوقيع على الاتفاقيات الدولية لحظر انتاج الأسلحة النووية، بل وتمنع القيام بأي تفتيش على منشآتها النووية؟ التي احتلت عسكرياً أراضي الدول المجاورة، وتواصل الاحتلال متحدية بذلك جميع قرارات مجلس الأمن الدولي المطالِبة بإزالة آثار العدوان؟ التي استخدمت جاسوساً يُدعى جوناثان بولارد، لسرقة وثائق سرّية أمريكية، ثم باعتها إلى الاتحاد السوفييتي؟ الدولة التي أنكرت الواقعة في البدء، ثم اعترفت بها ومنحت بولارد الجنسية الفخرية، بل ونظمت حملات ضغط واسعة لإطلاق سراحه، لأنه في نظرها بطل وطني؟

فإذا كان فلسطينياً، ذلك "الممانع" المطبّل لنظام الأسد، الساكت عن جرائمه بحقّ الشعب السوري، أو المدافع عن المجازر والمذابح واستخدام أسلحة "الردع" ضدّ الغوطة، وليس تل أبيب؛ فإنه سيتغاضى، عامداً، عن سلسلة أخرى من الأسئلة التي تخصّ عشرات الممارسات العسكرية والأمنية والاستيطانية التي تدخل جميعها، ودون كبير عناء، في مسمّى واحد وحيد، هو النازية الجديدة: الأسوأ والأشدّ فظاعة وبشاعة وبربرية ووحشية. أمّا إذا كان "الممانع" مصرياً، ويحبّ محمد البرادعي، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنه سيتناسى أسئلة مثل هذه: مَن هي الدولة التي كانت تكنّ للوكالة الاحتقار كلّ الاحتقار، ولكنها أخيراً تواضعت وتكرّمت فسمحت للبرادعي أنّ يتفقد منشآتها من ارتفاع طائرة محلّقة في الأعالي، فقط؟ الدولة التي كافأ ذلك المدير العام كرمها، بالقول إنه "يتفهم" مخاوفها الأمنية والوجودية، ثمّ صبّ جام غضبه في المقابل على إيران، وعلى "الإرهابيين" الذين يمكن أن يمتلكوا الأسلحة النووية ذات يوم قريب، دون أن ينسى التشهير بالعالِم الباكستاني عبد القادر خان... الذي هرّب أسرار القنبلة النووية إلى 18 بلداً؟

والخلاصة أنّ هذه "ممانعة" تكره إسرائيل، حتماً، ولكنها لا تُكره النظام السوري على ممارسة الكره ذاته، ما دام الأسد "يمانع"، حتى على مستوى القول الكاذب المضلل وحده. وهي "ممانعة" صارت تكره الكيمياء، بالضرورة واستطراداً، خاصة في ظلّ القرار 2118، وشروحاته الأسدية، واستبداله بسلاح آخر أشدّ فتكاً وهولاً، يعمي بصر إسرائيل، قبل أن يزلزل الأرض بها، ويحرق الأخضر فيها واليابس!