وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 14 أكتوبر 2013

الأرمني كاشف الحجاب

في أوائل القرن الماضي كانت ماردين كبرى بلدات سنجق ديار بكر، في أقصى الشمال الشرقي من تركيا الراهنة؛ وكانت وادعة في جغرافيتها، عارمة باضطرام التحوّلات الناجمة عن دخول تركيا في الحقبة الكمالية وانسلاخها عن ذاكرة الإمبراطورية العثمانية. ولكن ماردين تميّزت، أيضاً، بتعدديتها الثقافية والديموغرافية، إذْ حفظ أبناؤها العرب المسلمون مكاناً، ومكانة، للكرد والتركمان والأرمن والكلدان؛ قبل أن يأزف زمن الجائحة والتقاتل الإثني والمذابح (ضد الأرمن بصفة خاصة)، وتعقبه موجات التهجير والتتريك القسري.

هنا ولد يوسف كرش (1908 ـ 2002) لأسرة أرمنية تمتهن التجارة، ليشبّ بسرعة على رائحة الموت الفردي (وفاة شقيقته بالتيفوس)، والموت الجماعي جرّاء الأوبئة والمذابح، وعذاب التفكك الأسري، وتبعثر أشقائه في أكثر من بقعة واحدة بين تركيا وسورية. هذا الحسّ التراجيدي المبكّر سيلازم الفتى طويلاً، وسيكون وراء إصراره على استكشاف وتسجيل أقصى مقدار ممكن من درجات الأسى في البورتريهات الفذّة التي سيصّورها، والتي ستجعله أحد الأساتذة الكبار في عالم التصوير الفوتوغرافي.

في عام 1915 بلغ اضطهاد الأرمن ذروته الدامية، وتوجّب على الطفل يوسف أن يشهد بأمّ عينيه مقتل القريبين منه، واعتقال خالَيْه ووفاتهما في السجن، هو الذي كان ينقل إليهما صرّة الزاد بصفة يومية. وفي عام 1922 سمحت السلطات التركية بهجرة الأرمن، فغادرت أسرة كرش إلى مدينة حلب السورية، وتركت وراءها كلّ شيء بما في ذلك أبواب البيوت المفتوحة على مصراعيها. وبعد إقامة قلقة قررت الأسرة إرسال الفتى إلى  كندا حيث يعمل خاله هناك، فسافر إلى بيروت، ومنها إلى هاليفاكس الكندية، التي وصلها في اليوم الأول من السنة الجديدة 1925.

الخال جورج كان يعمل نقاشاً ومصوّراً فوتوغرافياً في بلدة شيربروك؛ وقبل أن يعقد العزم على توريث مهنة التصوير إلى ابن أخته، توجّب أن يرسله إلى مدرسة لتعليم اللغة الإنكليزية، لأن الفتى لم يكن يتكلم سوى العربية، وكان ـ مثل معظم أهل ماردين، بصرف النظر عن أعراقهم ـ لا يتقن لغة أخرى قدر اتقانه للعربية الغالبة. وبعد سبعة شهور بدأ التدريب الفعلي على مهنة التصوير في ستوديو الخال، الذي أدرك سريعاً خصوصية علاقة الفتى بالجانب الفني من الصورة، فقرر إرساله لدراسة التصوير في بوسطن على يد جون غارو، أحد كبار أساتذة البورتريه الفوتوغرافي في أمريكا الشمالية بأسرها.

بعدئذ، منذ أربعينيات القرن الماضي، وقف رجالات العالم (من ساسة وأدباء وعلماء وفنّانين) أمام عدسة كرش، ونفذّوا تعليماته بصبر استثنائي، لكي ينالوا في نهاية الجلسة الشاقة مجرد صورة فوتوغرافية. ولكنهم كانوا يعرفون أنها لن تكون صورة عادية، بل قطعة فنية معدّة لدخول التاريخ، ليس أقلّ. هذا الأرمني، التركي/السوري/الكندي، سيصبح أمير البورتريه الفوتوغرافي بلا منازع، وأستاذ "الاستعارة الفيزيائية"، وسيّد الاستخدام الدرامي للضوء لا كما استُخدم من قبل، خاصة في اقتناص خفايا القسمات البشرية، والتركيز فيها على بُعد مركزي منفرد، وفريد، يتيح كشف الحجاب عن دواخل النفس خلف الوجه.

والذاكرة البصرية الكونية، في مشارق الأرض ومغاربها، حفظت قراءة كرش الفوتوغرافية الفريدة لملامح أناس من أمثال إرنست همنغواي، ألبرت أينشتاين، جورج برنارد شو، هـ. ج. ولز، ياسوناري كاواباتا، بابلو بيكاسو، خوان ميرو، هنري مور، برتراند رسل، ألبير كامو، جان كوكتو، توماس مان (تفصيل مذهل يلتقط الكفّين، فقط!)، وليام سمرست موم، تنيسي وليامز، أندريه مالرو، فلاديمير نابوكوف، ألبيرتو جياكوميتي، وأندي ورهول؛ ثمّ الملكة إليزابيث، ونستون تشرشل، دوايت أيزنهاور، الجنرال دوغول، جواهر لال نهرو، جون كنيدي، جوزيف بروز تيتو، نلسون مانديلا، مارتن لوثر كنغ، فيصل بن عبد العزيز، وفيديل كاسترو؛ فضلاً عن مارتا غراهام، جان سيبيليوس، بول روبسون، ألفرد هتشكوك، كلارك غيبل، أنيتا إكبرغ، همفري بوغارت، بوريس كارلوف، أودري هيبورن، آنا مانياني، صوفيا لورين، إليزابيث تايلور، وجيسي نورمان...

في عام 1943 سافر كرش إلى بريطانيا موفداً من مجلّة "ساترداي نايت" الكندية، فصوّر عدداً كبيراً من الشخصيات الأبرز آنذاك؛ ثم زار الولايات المتحدة ليعود منها بزاد إضافي جمعه في كتابه "وجوه القدر"، 1947. وكانت هاتان الرحلتان قد دشّنتا بداية عهده بما سيسمّيه "الأوديسة الفوتوغرافية"، التي قادته من قرى الزولو في جنوب أفريقيا إلى المعابد البوذية في اليابان، مروراً بالقطب الشمالي. وكلاسيكيات أعماله جُمعت في العديد من الكتب، بينها: "بورتريهات العظَمة"، 1959؛ "حقيبة كرش"، 1967؛ "وجوه من عصرنا"، 1971؛ "بورتريهات كرش"، 1976؛ و"أساطير أمريكية"، 1992. وفي كتاب مشاهير العالم Who's Who، طبعة سنة 2000، كان كرش الكندي الوحيد في لائحة أهمّ مئة شخصية عالمية في القرن العشرين، و51 من هؤلاء كان لهم شرف الوقوف أمام عدسته!

وهذه الأيام ينظّم "مركز مونا بسمارك للفنّ والثقافة"، في باريس، معرضاً متميزاً يضمّ قرابة 70 من أعمال كرش، تغطي غالبية محطاته الأسلوبية، وتشمل عدداً كبيراً من بورتريهاته الأشهر. لكنّ هذه المناسبة ليست وحدها التي تردّه إلى سطور مواطن سوريّ مثلي؛ ذلك لأنّ مدينته الثانية، حلب، وفنون أهلها السوريين الأرمن، تبقيه حيّاً في الذاكرة السورية المعاصرة؛ تماماً كما تفعل ماردين، مسقط رأسه.