وعزّ الشرق أوّله دمشق

الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

"ممانعة"... ولكن غير كيميائية!

كباحث عن إبرة في كوم قشّ، أو كساعٍ بعدئذ إلى حشر فيل في خرم الإبرة ذاتها، يفتش المرء عن "ممانع" عربي واحد رأى في قرار مجلس الأمن الدولي 2118، حول تفكيك الأسلحة الكيميائية في سورية، انبطاحاً من جانب نظام بشار الأسد، أو تنازلاً عن ركن أساس في ما سُمّي "الردع الستراتيجي" مع العدوّ الإسرائيلي. في المقابل، يعثر المرء إياه على اكتظاظ، بل تزاحم بالمناكب، لدى أولئك "الممانعين" الذين يرددون، على نحو يخجل منه طائر الببغاء، أقوال الأسد التي ترى في ذلك القرار انتصاراً شخصياً لمهاراته التكتيكية (نعم، بل لعلّه ظفر مبين!)؛ لأنّ تلك الأسلحة كانت "عبئاً" في الأساس، ومجلس الأمن الدولي تطوّع (أم هو اضطرّ، صاغراً؟) إلى مساعدة النظام في التخلّص من الترسانة بأسرها!

وهكذا، قال الأسد لعدد من زوّاره، حسبما نشرت صحيفة "ممانعة" يشرف عليها "حزب الله" اللبناني: "الكيميائي ليس هدفهم ولم يكن. هم كانوا يريدون تغيير موازين القوى وحماية إسرائيل. نحن قلبنا الطاولة عليهم ورمينا الكرة في ملعبهم، فأحرجوا أمام الرأي العام الأمريكي والأوروبي، بل داخل الإدارة الأمريكية نفسها"! كيف هذا، والسلاح الكيميائي معادل كبير في "التوازن" ضدّ إسرائيل؟ وأية طاولة تلك التي انقلبت؟ هنا إجابة الأسد: "أصلاً صنعنا الكيميائي في الثمانينيات كسلاح ردع في مواجهة السلاح النووي الإسرائيلي. الآن لم يعد سلاحاً رادعاً. لدينا ألف طن من الكيميائي يشكلون أصلاً عبئاً علينا. التخلص منها يكلف أموالاً طائلة ويستغرق سنوات، ويطرح تحديات بيئية ومشكلات لا بد من حلها. فليأتوا ويأخذوها".

ما الذي يبقى من "التوازن" إياه، مرّة أخرى؟ الشطر الثاني من إجابة الأسد يصلح قنبلة نووية في يد "الممانع"، المتعطش إلى "ممانعة" من أيّ طراز، حتى في أضعف الإيمان، أي على مستوى الجعجعة وحدها: "لدينا اليوم أسلحة ردع أكثر أهمية وأكثر تطوراً حيال إسرائيل التي يمكننا أن نعمي بصرها في لحظات"! الويل للعدوّ الإسرائيلي من هذه "اللحظات"، لأنها لا تُبقي على الكيان، ولا تذر! الثبور، وعظائم الأمور، ممّا يخبئه جيش الأسد من أسلحة فتاكة، ساحقة ماحقة، لم تتجاسر على نسج مآثرها حتى المخيّلات المنفلتة من كلّ عقال، عند أمثال وئام وهاب أو ناصر قنديل أو فايز شكر! وليس مطروحاً البتة، عند رهط "الممانعة" في أصنافه وأطرافه كافة، ذلك السؤال البسيط الذي يقول: حسناً، أين كانت، ولماذا ظلت خبيئة، تلك القوّة الجبارة حين أغارت إسرائيل على سورية، مراراً وتكراراً، طيلة 13 سنة من توريث الأسد؛ وقبله، طيلة سنوات من سلطة أبيه؟

ليست، أو بالأحرى لم تعد، مطروحة (حتى عند حسن نصر الله، ومرجعياته العليا في طهران) سلسلة الأسئلة التي عدّدها، ذات يوم غير بعيد، الصحافي الأمريكي شارلز ريز، وصاغها على هيئة أحجية متكاملة تكون مفردة إسرائيل هي الإجابة الوحيدة عليها، كلّها: من هي الدولة التي تنفرد عن جميع دول الشرق الأوسط في امتلاك الأسلحة النووية؟ التي ترفض حتى الآن التوقيع على الاتفاقيات الدولية لحظر انتاج الأسلحة النووية، بل وتمنع القيام بأي تفتيش على منشآتها النووية؟ التي احتلت عسكرياً أراضي الدول المجاورة، وتواصل الاحتلال متحدية بذلك جميع قرارات مجلس الأمن الدولي المطالِبة بإزالة آثار العدوان؟ التي استخدمت جاسوساً يُدعى جوناثان بولارد، لسرقة وثائق سرّية أمريكية، ثم باعتها إلى الاتحاد السوفييتي؟ الدولة التي أنكرت الواقعة في البدء، ثم اعترفت بها ومنحت بولارد الجنسية الفخرية، بل ونظمت حملات ضغط واسعة لإطلاق سراحه، لأنه في نظرها بطل وطني؟

فإذا كان فلسطينياً، ذلك "الممانع" المطبّل لنظام الأسد، الساكت عن جرائمه بحقّ الشعب السوري، أو المدافع عن المجازر والمذابح واستخدام أسلحة "الردع" ضدّ الغوطة، وليس تل أبيب؛ فإنه سيتغاضى، عامداً، عن سلسلة أخرى من الأسئلة التي تخصّ عشرات الممارسات العسكرية والأمنية والاستيطانية التي تدخل جميعها، ودون كبير عناء، في مسمّى واحد وحيد، هو النازية الجديدة: الأسوأ والأشدّ فظاعة وبشاعة وبربرية ووحشية. أمّا إذا كان "الممانع" مصرياً، ويحبّ محمد البرادعي، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنه سيتناسى أسئلة مثل هذه: مَن هي الدولة التي كانت تكنّ للوكالة الاحتقار كلّ الاحتقار، ولكنها أخيراً تواضعت وتكرّمت فسمحت للبرادعي أنّ يتفقد منشآتها من ارتفاع طائرة محلّقة في الأعالي، فقط؟ الدولة التي كافأ ذلك المدير العام كرمها، بالقول إنه "يتفهم" مخاوفها الأمنية والوجودية، ثمّ صبّ جام غضبه في المقابل على إيران، وعلى "الإرهابيين" الذين يمكن أن يمتلكوا الأسلحة النووية ذات يوم قريب، دون أن ينسى التشهير بالعالِم الباكستاني عبد القادر خان... الذي هرّب أسرار القنبلة النووية إلى 18 بلداً؟

والخلاصة أنّ هذه "ممانعة" تكره إسرائيل، حتماً، ولكنها لا تُكره النظام السوري على ممارسة الكره ذاته، ما دام الأسد "يمانع"، حتى على مستوى القول الكاذب المضلل وحده. وهي "ممانعة" صارت تكره الكيمياء، بالضرورة واستطراداً، خاصة في ظلّ القرار 2118، وشروحاته الأسدية، واستبداله بسلاح آخر أشدّ فتكاً وهولاً، يعمي بصر إسرائيل، قبل أن يزلزل الأرض بها، ويحرق الأخضر فيها واليابس!