وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 23 أغسطس 2012

مبادرة "هيئة التنسيق": بعض رماد هذا اللهيب العظيم

قبل أيام طرحت "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي في سورية" مبادرة سياسية ـ تفاوضية، تنطلق من مسعى "تخفيض تكاليف التغيير المنشود، وحماية ما يمكن حمايته من البنى التحتية للوطن ومن وحدة المجتمع"؛ وتؤمن "بحقّ الشعب السوري في حياة حرّة كريمة، والعيش في ظلّ نظام ديمقراطي يؤمّن له المساواة والعدل والتقدم". كما تنهض المبادرة على ركيزتَين، انتهى إليهما المبادرون "انطلاقاً من قناعة تامة"، هما: 1) أنّ "النظام الحاكم لم يعد قادراً على إخضاع الحركة الثورية الشعبية بالقوّة، رغم كلّ ما مارسه من استخدام للقوّة العارية المفرطة، وما ولدته من تداعيات، وما خلقته من حواضن للعنف المضاد ولتدخلات خارجية"؛ و2): أنّ "التضحيات الغالية والكبيرة التي قدّمها شعبنا وقواه الوطنية"، وإنْ "استطاعت أن تفرض معادلة التوازن بالقوى مع النظام الحاكم"، فإنها "لا تزال بعيدة عن تحقيق انتصار حاسم".

أمّا عناصر المبادرة، فهي أربعة: 1): "التوافق على هدنة مؤقتة بين جميع الأطراف التي تمارس العمل المسلح في مقدمتها قوى النظام"، تشترط التزام الجميع "بعدم إجراء أي عمل عسكري، وعدم تغيير الأوضاع الميدانية على الأرض"؛ و2): "يطلق الطرفان خلال أسبوع من بدء سريان الهدنة سراح جميع المعتقلين والأسرى والمخطوفين، ويتوقفان عن تلك الممارسات"، وإلا اعتُبر "ارتكابها بعد ذلك التاريخ جرائم جنائية يحاسب مرتكبوها وفق القانون"؛ و3: "يسمح الطرفان لهيئات الإغاثة بإيصال المعونات الغذائية والطبية وتسهيل معالجة الجرحى في المشافي العامة والخاصة وبرعاية الصليب الأحمر والهلال الأحمر"؛ و4: "بالتزام الأطراف المعنية بما سبق يكون المناخ قد توفر لإطلاق عملية سياسية تقوم على التفاوض بين قوى المعارضة وبين وفد من النظام يملك صلاحيات تفاوضية مطلقة يضم شخصيات لم تتلوث أيديها بالدماء"، وذلك للبدء "بمرحلة انتقالية محددة المدة (سنة)، تهدف تحضير البلاد من أجل التوصل الى نظام ديمقراطي تعددي برلماني".

الاعتراضات على هذه المبادرة لم تكن واسعة النطاق، متعددة المصادر، وشديدة متشددة اللغة من حيث الرفض، فحسب؛ بل بدا، أيضاً، أنها لا تعكس الحدّ المطلوب من الإجماع، أو التوافق، داخل قيادات "هيئة التنسيق" ذاتها، في المقام الأوّل. وهكذا، سارع المفكر السوري المخضرم حسين العودات، رئيس المجلس الوطني للهيئة والعضو في مكتبها التنفيذي ونائب المنسق العام، سابقاً، إلى إصدار بيان خاص حول المبادرة، أوضح فيه أنها "تراجع ملحوظ عن مقررات المجالس الوطنية للهيئة وثوابتها ووثائقها الرئيسية ومبادراتها السابقة ومقترحاتها". وأضاف العودات أنّ المبادرة "ربما كانت تهافتاً واضحاً لا يخدم أهداف الحراك الشعبي السوري وانتفاضته المجيدة، واقتراحات متسرعة لم تأخذ شروط الواقع السوري والإقليمي والدولي وظروفه بعين الاعتبار". وفي الأساس القانوني ـ التنظيمي، لاحظ العودات أنّ المبادرة "تحتاج لموافقة المجلس الوطني للهيئة، ولا يكفي موافقة عدة قياديين عليها، بل تحتاج أيضاً لقرار مؤتمر وطني شامل لجميع فصائل المعارضة السورية"، الأمر الذي أوحى أنها أُعلنت من جانب أفراد قياديين، وليس استناداً إلى قرار من الهيئة الشرعية.

ضمن سياقات تجاوز الهيئات، وفي مناسبة سبقت إعلان المبادرة بأيام قليلة، كان أعضاء في المكتب التنفيذي لـ"هيئة التنسيق" قد وجهوا إلى القيادة مذكرة سرّية (كُشف النقاب عن محتواها بعدئذ) تتهم زميلَين لهم في المكتب التنفيذي بالتوقيع على "نداء روما"، أواخر تموز (يوليو) الماضي، دون استشارة الهيئة القيادية. والمذكّرة تشدّد على أنّ النداء ذاك "يتناقض كلياً مع مضمون وثائق هيئة التنسيق الوطنية، ووثيقة التفاهمات السياسية التي وقعتها غالبية التنظيمات المعارضة في الداخل"، كما "يتناقض كلياً أيضاً مع الوثائق الصادرة عن مؤتمر المعارضة الذي عُقد في القاهرة مؤخراً، ويتناقض حتى مع التحفظات التي صدرت عن ممثلي الهيئة في مؤتمر المعارضة". ولهذا فإنّ وثيقة النداء "تفتت عن عمد الوثائق التي صدرت في الداخل ـ في مكتبنا ـ وتتناقض مع توقيعنا وتحفظاتنا على وثائق مؤتمر القاهرة، كما تفقدنا مصداقيتنا أمام الحلفاء". وتنتهي المذكّرة إلى أنّ بعض الفقرات في "نداء روما" هي "ترجمة سورية للسياسة الروسية الصينية الإيرانية"، والنداء "أدار ظهره كلياً للثورة والشعب وتجاهل الشهداء والتضحيات"، كما "تجاهل القتل وتهديم المدن، واعتقال عشرات الألوف من المتظاهرين السلميين".

وثمة بعض المغزى الإضافي في حقيقة أنّ عدداً من موقّعي "نداء روما"، من قياديي "المنبر الديمقراطي السوري" ـ وهو تجمّع وُلد قبل أشهر قليلة في القاهرة، وكانت قياداته الراهنة قد تبوأت مراكز الصدارة القيادية في "هيئة التنسيق" عند انطلاقتها ـ لم يرحّبوا بالمبادرة، وأعربوا عن رفضها صراحة. ولقد أصدر "المنبر" بياناً يقول إنّ "المبادرة قاصرة عن قراءة الواقع الحالي للثورة السورية والإنجازات التي حققتها، وكذلك قاصرة عن قراءة واقع النظام، الذي لم يستجب لأي مبادرة للحل السلمي منذ بداية الثورة السورية". وكان لافتاً أن يذهب النصّ أبعد، من حيث حكم القيمة على "مبادرات كهذه تكتسب طابعاً مجانياً لا يخدم القضية التي يناضل الشعب السوري من أجلها"، ولا تتضمن "أساساً يمكن البناء عليه لمخرج للوضع السوري بكامل تعقيداته". ولهذا فإنّ المنبر "يرفض أي مبادرة سياسية لا يتعهد النظام بموجبها بوقف إطلاق االنار وإطلاق سراح المعتقلين والسماح بالتظاهر السلمي وتحقيق مطالب الشعب الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل تحقيقها". كان لافتاً، أيضاً، أن يضع "المنبر" المبادرة في موقع الخروج عن توافقات المعارضة السورية: "أي مبادرة تتضمن حلاً سياسياً يجب أن تحظى بتوافق قوى المعارضة الرئيسة، وتبني على الوثائق والتوافقات التي أقرتها في القاهرة في مؤتمرها الأخير. وعليه لا يرى المنبر أن مبادرة هيئة التنسيق صالحة للتداول السياسي".

"المجلس الوطني السوري" توقف، في بيان خاص بدوره، عند افتقار المبادرة إلى التوافق؛ كما رأى في بنودها "خروجاً عن الإجماع الوطني الذي تحقق في اجتماع المعارضة السورية في القاهرة (02 – 03/07)، وتراجعاً عن أهم بنودها ممثلاً في إسقاط النظام ورئيسه ورفض التعامل معه، ودعم الجيش السوري الحر والمقاومة الشعبية، وتعمل على منح النظام مهلة إضافية للبقاء في السلطة، وهو ما عبّر الشعب السوري برمته عن رفضه المطلق له من خلال ثورته المستمرة للشهر السابع عشر على التوالي". ولفت المجلس الانتباه إلى أنّ المبادرة "خلت من إدانة واضحة للنظام رغم جرائمه ومجازره الوحشية على امتداد الأرض السورية، ولم تحمّل النظام وأركانه مسؤولية الدماء التي أريقت، ونحو 30 ألف شهيد وعشرات آلاف الجرحى ومئات آلاف الأسرى والمعتقلين، بل وذهبت أبعد من ذلك بالحديث عن "طرفين" في الأزمة يتساويان في استخدام القوة والاعتقال والاختطاف وإعاقة وصول المعونات الغذائية والطبية، وهو ما لم تذهب إليه أي مبادرة عربية أو دولية".

مبادرة ولدت ميتة، إذاً، على يد أصحابها، وعن غفلة وقلّة تبصّر، أم عن سابق قصد وتصميم؛ أم وئدت في المهد، على يد خصوم "هيئة التنسيق" وبعض قياداتها، السابقة والحالية؟ كلتا الخلاصتَين صحيحة، في الواقع، وكلتاهما تنتهيان إلى تشخيص رماد سياسي ليس سوى مخلفات هذا اللهيب العظيم، وإلى تبيان مظهر جديد للمأزق الشامل الذي عاشته "هيئة التنسيق" منذ تأسيسها، أواخر حزيران (يونيو) 2011، وما تزال تعيشه بعد انعقاد مؤتمرها العام في حلبون، ريف دمشق، أواسط أيلول (سبتمبر) من العام ذاته. وللمرء أن يبدأ، في تلمّس ملامح المأزق، من تركيبة مجلس الهيئة المركزي، ومكتبها التنفيذي: رغم أنّ عدداً كبيراً من هؤلاء كانوا، ويظلون، في عداد شخصيات المعارضة الكلاسيكية الأبرز، وتضحياتهم لا تحتاج إلى استذكار أو تشديد، خاصة خلال عقد توريث بشار الأسد؛ فإنّ فضيلة وجودهم لا تطمس حقيقة وجود آخرين كانوا، ويظلون، نماذج معاكسة من حيث مغازلة النظام، أو مهادنته، أو حتى موالاته.

مؤتمر حلبون شهد إصدار البيان السياسي الختامي، الذي استولد مخلوقاً سورياً عجيباً، منشطر الذات بين الاعتدال مع النظام، والقبول بإسقاطه؛ وبين وضع الجلاد على قدم المساواة مع الضحية، في ما يخصّ نبذ "حواضن العنف"؛ وفي الحضّ على عناق بين القاتل والقتيل، قبيل برهة الذبح، أو أثناءها، وبعدها! المبادرة، اليوم، تعيد إنتاج هذا كلّه، على نحو يدفع المرء المنصف إلى القول بأنّ أصحابها هم الأقرب إلى روحية قيادة "هيئة التنسيق"، سواء جرى التشاور مع المجلس الوطني للهيئة (كما يتمنى الرجل الطيب، حسين العودات)، أم لا؛ وسواء ذهبوا إلى سانت إجيديو ـ روما، أم تداولوا في مكتب المحامي حسن عبد العظيم، شارع الحجاز ـ دمشق! وهكذا، يجوز للمرء أن يبلغ الخلاصة المنطقية التالية: أليس عجز المؤتمر، ثمّ المبادرة اليوم، عن استخدام تعبير "إسقاط النظام"، مردّه أنّ غالبية في صفوف المندوبين ليست موافقة على، وربما غير راغبة في، إسقاط النظام؟ ولماذا لا تكون اعتبارات وجيهة وراء هذه الحال المتأرجحة، تبدأ من مسلك البندول الراقص بين الجلاد والضحية، وتمرّ بالهواجس المتقاطعة مع خواف هنا أو رهاب هناك من احتمالات المستقبل، ولا تنتهي عند اتفاق بعضهم مع نقطة أو أكثر في سردية النظام عن الانتفاضة؟

وفي مناسبة مبادرة اليوم، ألا يصحّ التساؤل عن مغزى إخراج اللاءات الثلاث (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الأجنبي)، من جميع سياقاتها الفعلية، التاريخية واليومية والمادّية، بحيث صارت فارغة من أيّ محتوى ملموس، وانقلبت إلى ذرّ للرماد في العيون، وكليشيهات تأثيم، ومحرّمات خاوية المضمون لا تتردّد أصداؤها إلا في محاكم التفتيش، وعلى شاشات الفضائيات؟ وكيف تغضّ "هيئة التنسيق" النظر عن العنف الذي يمارسه أحد أبرز مكوناتها، "حزب الاتحاد الديمقراطي"، في حلب وعفرين والمناطق الكردية في مدن وبلدات وقرى"الجزيرة" عموماً؟ ولماذا تُطالب الانتفاضة بالنأي عن الطائفية، وهي صفة انحطاط ليست مقترنة بها، بل بأجهزة النظام وعسكره الموالي وشبيحته، على نحو لا يقبل المقارنة أصلاً، وبالتالي ينتفي وضع "الطرفين" على قدم المساواة؟ وأخيراً، إذا كانت "هيئة التنسيق" ترفض التدخل الخارجي، فلماذا اجتمع حسن عبد العظيم مع روبرت فورد، السفير الأمريكي، ومثله فعل قياديون آخرون لم يتركوا وزارة خارجية أوروبية إلا وتمسحوا بأعتابها؟

ثمة خلاصة واقعية، قديمة ولكنها تتجدد اليوم مع مبادرة "هيئة التنسيق"، سبق أن بلغها قيايدون في الهيئة ذاتها: هنالك معارضة تريد إسقاط النظام، وأخرى تريد تغييره من داخله. الدرس المرير، في المقابل، هو أنّ النظام ساقط لتوّه، وانهياره الختامي مسألة وقت؛ والطامحون إلى مصالحته مع الشعب والمستقبل والحياة هم، في أفضل توصيف رحيم، مراهنون على رماد متطاير، وسط لهيب متصاعد!

الاثنين، 13 أغسطس 2012

محمد الدرة، حمزة الخطيب، ومحمود درويش

صرفتُ ليلة 8/9 آب (أغسطس)، الذكرى الرابعة لرحيل محمود درويش، في قراءة قصيدتَين للشاعر: "حالة حصار"، القصيدة الطويلة التي تسجّل ما يشبه اليوميات، في رام الله، خلال شهر كانون الثاني (يناير) سنة 2002، تحت وطأة الحصار الإسرائيلي؛ وقصيدة "محمد"، مرثية الفتى الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، وكانت قد نُشرت في هذه الصحيفة، تشرين الأول (أكتوبر) سنة 2000. وكنت لا أقرأ هاتين القصيدتين إلا وفي البال شهداء الانتفاضة السورية، في دير الزور وحلب وحمص وكفرنبل، هنا وهناك في أرجاء سورية الثائرة.

أقرأ، إذاً، قراءة صامتة تارة، وجهورية طوراً؛ هادئة تأملية تذوّقية مرّة، وانفعالية عاطفية وجدانية مرّة أخرى؛ لا سيما حين تفتح مفردة "الشهيد" بوّابات واسعة شاسعة، تختلط فيها مساحات العِبَر والاستعبار، وفضاءات التشابه الرهيب بين شهيد فلسطيني سقط برصاص الاحتلال الإسرائيلي، وشهيد سوري تربّصت به نيران النظام السوري، سواء أتت من قنّاص أو شبيح أو قائد دبابة أو مدفع ثقيل أو قاذفة مقاتلة. وتلحّ، ولا تكفّ عن استدعاء ذاتها، تلك الفقرات المشحونة بوضوح جارح طيّ المعنى البسيط: ""الشهيد يوضّح لي: لم افتش وراء المدى/ عن عذارى الخلود، فإني أحبّ الحياة/ على الأرض، بين الصنوبر والتين، لكنني/ ما استطعتُ إليها سبيلاً/ ففتشت عنها بآخر ما أملك:/ الدم في اللازورد". أو هذه: "الشهيدة بنتُ الشهيدة بنتُ الشهيد/ وأخت الشهيد وأخت الشهيدة كنّةُ/ أمّ الشهيد حفيدة جدّ شهيد/ وجارة عمّ الشهيد...".

ألا تبدو هذه النصوص وكأنها تصف شجرة عائلة الاستشهاد، ليس في رام الله والخليل وغزّة هذه المرّة، بل في درعا والمعضمية والزبداني ودمشق، حيث صار سقوط شهيدة أو شهيد، أخت أو أمّ أو كنّة، أخ أو أب أو عمّ أو جدّ، بمثابة طبيعة ثانية للأسرة السورية، وطابع لصيق بحياة الناس اليومية؟ وحين يقول درويش، عن محمد الدرّة: "يريد الرجوع إلى البيت، من/ دون درّاجة أو قميصٍ جديد/ يريد الذهاب إلى المقعد المدرسيّ/ إلى دفتر الصرف والنحو: خذني/ إلى بيتنا، يا أبي، كي أعدّ دروسي/ وأكمل عمري رويداً رويداً/ على شاطئ البحر، تحت النخيل/ ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد"... أفلا يُلزمنا، بعد منحنا الحقّ المصان في تأويل النصوص الأدبية الكبرى على نحو كوني منفتح الآفاق، بواجب استذكار حمزة الخطيب، الفتى السوري الشهيد الذي صار، على غرار الدرّة، أيقونة ورمزاً وعلامة وذاكرة؟

لعلّي أيضاً أنصف الشاعر الكبير، وأقصد الفنّان الذي يكتب شعراً عظيماً في المقام الأوّل، فلا يؤدّي الواجب تجاه الشهيدة والشهيد إلا من باب الفنّ الرفيع، لا الخطابة العابرة المسطحة؛ فأتوقف، استطراداً، عند جانب التذوّق الجمالي، في قراءات تلك الليلة. هذا بُعد ذو صلة بقدرة درويش على الخروج المرن، دون خسران أو تنازل أو تبديل هيئة، من قلب انهماك تامّ في سيرورة تطوير محددة، ومعقدة؛ وذلك لأداء واحدة من أنبل وظائف الأدب، والشعر بخاصة: تسجيل شهادة عن العصر، وتثبيت حقّ الواقعة الفارقة في احتلال موقع شعري على خريطة حوليات العصر.

لقد فعلها درويش، من قبل، في "قصيدة الأرض"، و"أحمد الزعتر"، و"قصيدة بيروت" و"مديح الظلّ العالي"، و"عابرون في كلام عابر". كما فعلها، ضمن وجهة أخرى، حين كانت برامجه الجمالية الكبرى تشدّه إلى مشاغل مجموعات شعرية فاصلة، في الموضوعات والأسلوبية والخيارات الجمالية الجذرية، مثل "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، و"هي أغنية، هي أغنية"، و"ورد أقلّ"، فضلاً عن عشرات القصائد الفردية التي كانت تصنع الجديد وترسّخ قامة "المختلف الحقيقي"، التعبير الذي نحته الشاعر اللبناني عباس بيضون على سبيل وصف درويش.

وحين نُشرت قصيدة "محمد" للمرّة الأولى، قرأتها كما أقرأ كلّ شعر جديد من درويش: بإعجاب، و... بإشفاق! أمّا الإعجاب فمردّه أنني كنت ـ وهكذا بقيت، حتى رحيل درويش ـ أعتبره معجزة مفتوحة، جمالية ولغوية وفكرية وأخلاقية، لا تكفّ عن الصعود والتصاعد والاتساع: في النصّ، كما في أقدار استقبال النصّ؛ وفي معادلات المحتوى، كما في وشائج الشكل الحامل لهذه المعادلات؛ تحت أثقال الالتقاط الملحمي للتاريخ، كما في خفّة التحليق العالي للنشيد الغنائي.

وأمّا الإشفاق فقد كان مبعثه أنّ قصيدة "محمّد أتت بعد مجموعتَي "سرير الغريبة" و"جدارية": الأولى كُرّست بأكملها لقصائد الحبّ، وقالت إنّ درويش (مثل كلّ فلسطيني) آدمي من لحم ودمّ، وله أن يعشق امرأة من بني البشر، خارج مجاز المرأة/الأرض/فلسطين؛ والثانية أقامت حواراً كونياً بين الشاعر وأسئلة الموت، وأنماط مقاومة الموت. الخشية، والحال هذه، كانت أن ينقطع قارىء درويش العريض عن المختبر الجمالي الذي انشأته هاتان المجموعتان، وأن يرتدّ إلى "أحمد الزعتر" و"مديح الظلّ العالي" و"عابرون في كلام عابر".

رهاني، مع ذلك، كان أنّ ذلك القارىء نفسه لن يخطيء قراءة "محمد" كما يليق بها حقاً: مرثية منمنمة بديعة، طافحة بالشجن والقوّة الأخلاقية والعذوبة الإنسانية، تشهد أن الفلسطيني يستشهد ويموت، وبعده تبقى فلسطين وتعيش. بهذه الروحية سمحت لنفسي، في ليلة 8/9، أن أتأمل شهداء بلدي، سورية؛ وأستذكر الراحلين الثلاثة معاً: الدرّة، والخطيب، ودرويش!

الجمعة، 10 أغسطس 2012

الحكومة الانتقالية وبؤس المعارضات السورية في الخارج

 خلال الأيام القليلة الماضية، وفي مناسبة انبثاق فكرة "حكومة انتقالية" تشكلها المعارضات السورية في الخارج، تكشفت مظاهر أخرى حول إدقاع هذه المعارضات، وسوء انتظام صفوفها، وانحطاط صلاتها بالشارع الشعبي السوري، وبؤس أدائها بالمقارنة مع السوية العالية التي ما تزال تتصف بها أعمال التنسيقيات واللجان والتظاهرات، والحراك عموماً، في الداخل. فما أن نطق لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي بالكلمة السحرية، عن ضرورة تشكيل حكومة انتقالية في المنفى، حتى لهث شيوخ المعارضات مثل فتيانها خلف ما لاح أنه الجزّة الذهبية، أو بالأحرى الجزرة التي تحثّ على الهرولة والتسابق.

وسرعان ما انفتحت أشداق بورصة طاحنة ـ فاضحة، مبتذلة، مضحكة، بقدر ما هي مدعاة إشفاق! ـ تُوزّع في دهاليزها الحقائب الوزارية على السيدات المعارضات والسادة المعارضين، ليس كيفما اتفق في واقع الأمر، بل أسوأ بكثير من أي توزيع اعتباطي. ففي حال الاعتباط، حين لا تكون ثمة صلة بين الحقيبة وحاملها، على أيّ صعيد شخصي أو عامّ، وطني أو حزبي أو مؤسساتي، يمكن للمرء عندئذ أن يستخفّ ويسخر، ويقول دون كبير اكتراث: يا معارضة ضحكت من سخفها المعارضات! أمّا حين يتسابق المشكِّلون على تسريب تشكيلات لا تخلو قوائمها من خبث، أو تخابث؛ ولا تغيب عنها الروائح العفنة، والعطنة، ورغائب المساومة والمقايضة والتسوية، بالمعنى الأرخص والأشدّ ابتذالاً لهذه المفردات... فإنّ الأمر ينقلب، عندئذ، إلى ما هو أدهى من بؤس الأداء، فيصبح بينه وبين الاتجار بالشهداء فارق شعرة!

كلّ المشكِّلين لم يطرحوا على أنفسهم ذلك السؤال الأهمّ، الأخلاقي قبل أن يكون ديمقراطياً: منذا الذي فوّضني، في الأساس، لكي أشكّل حكومة انتقالية باسم الشعب السوري وبالنيابة عنه (وبالأصالة عن 23 ألف شهيد من أبنائه!)، أو أقبل هذه الحقيبة الوزارية أو تلك؟ الكلّ أنس في نفسه ثقة الشعب، والكلّ تصرّف وكأنّ تفويض الشعب محض تحصيل حاصل، والكلّ تسابق وكأنه الأحقّ برئاسة الوزراء أو وزارة الخارجية أو الدفاع أو الداخلية أو الثقافة أو... المصالحة الوطنية! وسوى هذا الافتئات على الإرادة الشعبية، الذي يُعدّ سبّة في تاريخ أية معارضة خارجية يُستشهد أبناء شعبها بالمئات كلّ يوم، توفّر ذلك الوثوق المريع بأنّ التفويض ينطوي أيضاً على التفريط: كأنْ تُسند إلى ضابط، غادر سفينة النظام الغارقة قبل أيام معدودات، رئاسة "مجلس عسكري أعلى"، يُعلي شأن العسكر، حتى حين يُوضع أحد العباقرة المدنيين مستشاراً لهم؛ أو أن يجري التلاعب بالتوزيع على نحو يجعل الحقائب مكافآت طائفية أو دينية أو إثنية، وكأنّ الانتفاضة لم تنطلق من أجل تقويض نظام الاستبداد والفساد والتوريث، بل لكي تدغدغ خطوط انقسام الطوائف والأديان والأقوام.

حتى "المجلس الوطني السوري"، الذي حظي أكثر من سواه بثقة الداخل السوري، لأسباب موضوعية متداخلة اهمها أنه بدا أقلّ هزالاً من سواه، لا يحقّ له زعم حيازة التفويض الشعبي، لتشكيل حكومة انتقالية، ثمّ توزيع حقائبها وفق قواعد لعلها أسوأ من تلك التي حكمت تركيب المجلس، بل قد تكون أشدّ ضرراً بالعمل الوطني في الداخل. لقد ارتكب المجلس، على مستوى المؤسسة مثل الأفراد في قيادته، سلسلة أخطاء فاحشة، تكررت وتعاقبت وكأنّ السيدات والسادة في المكتب التنفيذي أو الأمانة العامة لا يدركون طبيعة الخطأ وعواقبه، ولهذا فإنهم ظلوا فيه يعمهون، أكثر فأكثر. كذلك غرق المجلس في مستنقع الحوارات البيزنطية العقيمة (داخل الإقامات الفارهة، وخلال مؤتمرات غامضة التمويل)، وأساء إدارة أموال الإغاثة على نحو جعلها تضلّ السبيل إلى مبتغاها الإنساني والكفاحي فصارت مصيدة كاشفة لمعادن الرجال، وتخبط في توظيف العلاقات الخارجية بحيث انقلبت هذه إلى مراكز استقطاب تركية أو سعودية أو قطرية أو فرنسية أو أمريكية أو بريطانية...

كل هذه الأنساق من الزلل ـ لأنها، في الواقع، ليست محض سلبيات ـ  تكفّلت، وسواها كثير، بسحب المقدار الأعظم من ثقة الشعب السوري بالمجلس الوطني، الأمر الذي جرى التعبير عنه صراحة، وفي بيانات معلَنة، من جانب "لجان التنسيق المحلية" و"الهيئة العامة للثورة السورية" و"إعلان دمشق"، و"حزب الشعب الديمقراطي"، بوصفها أبرز مكوّنات المجلس الداخلية. تجلى هذا في مناسبات شتى، لعلّ أبرزها كانت حكاية التمديد الثالث لرئيس المجلس السابق، برهان غليون، في اجتماع روما، أواسط أيار (مايو) الماضي، والتي سُوّقت تحت لافتة "الانتخاب"، بعد أن جرى توسيع الأمانة العامة، في غفلة من أعضاء الأمانة أنفسهم! يومذاك، أصدرت "لجان التنسيق المحلية" بياناً أعربت في إحدى فقراته عن أسفها: "لتدهور أحوال المجلس الوطني السوري"؛ وانتقدت التمديد لغليون "رغم الفشل الذريع على الصعد السياسية والتنظيمية"؛ ورأت في هذا "تهميشاً لمعظم الأعضاء الممثلين عن الحراك، ومعظم أعضاء الهيئة العامة للمجلس". وفي فقرة أخرى، لاذعة وحاسمة، قال البيان إن ما آلت اليه الأمور في المجلس "لا تعكس إلا ابتعاده وابتعاد المعارضة السورية عموماً عن روح الثورة السورية ومطالبها وتوجهاتها نحو الدولة المدنية والديمقراطية، ونحو مباديء الشفافية وتداول السلطة المرجوة في سورية الجديدة".

والحال أنني لا أخصّ المجلس الوطني بالنقد، هنا، إلا لأني كنت وأظلّ في عداد الذين ساندوا هذا التكوين منذ البدء، أسوة بتيارات عريضة في الشارع السوري، لأسباب لا تدور حول فاعلية المجلس أو جدواه أو مصداقيته؛ بل لأنّ تلك الصيغة كانت أفضل ما توصلت إليه غالبية المعارضات السورية، ولم تكن الأفضل، وهي ليست كذلك اليوم أيضاً. وأن يلتمس المرء الكليات في مسائل الاجتماع السياسي، أمر لا تُحمد عقباه، ولا يفضي إلى مآل سليم؛ ولهذا لا أقول إنّ المجلس فشل كلياً، كما لا أرى العكس أيضاً. الحصيلة، مع ذلك، تظلّ متخلفة كثيراً عن أداء الانتفاضة في الداخل، وقاصرة عن التناغم مع إيقاعات الحراك الشعبي، والجمود الوظيفي فاضح تماماً بالقياس إلى ديناميات الشارع السوري. وفي ظنّي أنّ مشاكل المجلس تبدو أقرب إلى تشوهات ولادية، منها إلى تراكم أخطاء لاحقة، سواء أكانت ذاتية شخصية، أو موضوعية مؤسساتية.

الوضع الراهن، الذي زاد مشروع الحكومة الانتقالية من كشف مساوئه وسوءاته، يعيد الأمور إلى حقبة ماضية من عمر المعارضات السورية الخارجية، اعتقدنا ـ متفائلين أكثر مما ينبغي، ربما ـ أنها انقضت وانصرمت، وتجاوزها المعارضون إلى ما هو أكثر ارتقاء إلى تضحيات الشعب السوري. تلك الحقبة شهدت شراهة مَرَضية في عقد المؤتمرات والملتقيات والمشاورات، لتشكيل مجالس وطنية أو إنقاذية أو انتقالية، عُقدت في أنطاليا أو بروكسيل أو إسطنبول أو الدوحة أو القاهرة، وضمّت محاربين قدماء وآخرين التحقوا بالنادي مجدداً، بينهم مَنْ عارض النظام طيلة عقود، ومَنْ كان مقرّباً من دوائر السلطة حتى ساعة انطلاق الإنتفاضة، وبعدها، والآن أيضاً. ليس عجيباً، والحال هذه أنها، معظمها أو جميعها، انتهت إلى فشل ذريع صريح، أو آخر ذريع بدوره ولكنه مقنّع؛ أو الاستعاضة عن الإقرار بالفشل بما هو مزيج من ذرّ الرماد في العيون، وقطع الوعود الخلّبية، وإشاعة الآمال السديمية.

وتلك، مجدداً، سيرورة تكفّلت ـ كما يليق بها أن تفعل، منطقياً ـ بتبيان العورات هنا وهناك، وفضح هزال الغابة التي وُعد السوريون بانبساطها خلف شجرة هذا المؤتمر أو ذاك، وإسقاط أسطورة "الإجماع" على زيد أو عمرو من "نجوم" تلك الغابة (وهم، في الغالب، صناعة آلة المماحكات على الفضائيات، وليس السجال الحيوي النزيه والصادق، حول مسائل أصيلة وحيوية وملحّة). لكنّ السيرورة إياها كانت، من جانب آخر وثيق الارتباط وجدلي، السبب غير المباشر، بل أمّ الأسباب المباشرة عند البعض، في إشاعة خرافتَين: أنّ نجوم الخارج أقدر من سواهم على تمثيل حاجات الانتفاضة في الداخل، من حيث التمثيل والتنظير والقيادة، وتسطير الدساتير والعهود والمواثيق، وما إلى ذلك؛ وأنّ معارضة الداخل الكلاسيكية، المؤلفة من الأحزاب والمنظمات والنشطاء خارج "اتحاد التنسيقيات"، و"الهيئة العامة" لاحقاً، و"لجان التنسيق"، والتنسيقيات المهنية المختلفة... ينبغي عليها أن تمتثل للجهود التي يبذلها نجوم الخارج في مؤتمراتهم، تحت طائلة تخريب وحدة المعارضة، وتفتيت الحراك الشعبي!

ثمة، إلى هذا، تلك السيرورة الأخرى التي تبدو على طرف نقيض، لكنها في الواقع تكمل الأولى، أو تتكامل معها على نحو أو آخر: لأنّ أياً من معارضات الخارج، على مستوى الهيئات مثل الأفراد، لم يكن يتجاسر على إغفال الداخل، أو الزعم بأبوّة متعالية على الانتفاضة، فقد جرى التمسّح بمقولة أنّ الأصل هناك، والخارج محض فرع وامتداد. وتلك حال انقلبت إلى مادّة ابتزاز في صفوف بعض معارضات الداخل (مثل "هيئة التنسيق الوطنية" في المقام الأوّل)؛ وفي الآن ذاته كان هؤلاء لا يعوّلون على قوى الداخل (رغم تفاخرهم بأعداد هائلة من "الأحزاب" المنضوية في صفوفهم)، بقدر ما يتوكأون على بعض نجوم الخارج، أو ما يمكن حشده من هؤلاء. ولهذا شهدت تسريبات حقائب الحكومات الانتقالية، تماماً كما حدث في مهازل إعلان مجالس وطنية وانتقالية وإنقاذية، شكوى بعض النجوم من أنّ أسماءهم أُضيفت دون علمهم، ودون التشاور معهم؛ أو أنهم قبلوا على مضض، أو التزموا الصمت حرصاً على وحدة المعارضة!

ويبقى أنّ الانتفاضة لا تكفّ، ولم تتوقف، عن تصحيح مساراتها؛ لأنها لم تكن تقتفي مساراً واحداً في الواقع، ولم تعجز في أية برهة عن استيلاد قياداتها، الميدانية والسياسية والتنظيمية والإعلامية. ولهذا تواصل الصمود منذ 17 شهراً، وتحرز الانتصارات كل يوم، على النظام وأجهزته وعسكره وشبيحته ومؤسساته. ولكنها، أيضاً، انتفاضة تنتصر لذاتها، وتنتصر على ذاتها، وهنا مكمن الكثير من عبقرية معادلاتها: قارىء لافتات بلدات مثل كفرنبل أو الزبداني أو عامودا، مثل قارىء البيانات التي تصدر عن هيئات الانتفاضة وتنسيقياتها المختلفة، والمتأمل في الفعاليات والشعارات المبتكرة، بما تشفّ عنه من وعي رفيع ومتقدّم... لن يعجز عن إدراك موقع التفويض الحقيقي، والحقّ.

للسوريين في الخارج أدوارهم الهامة بالطبع، الحيوية في مستويات عديدة سياسية وإعلامية وإغاثية، وليس للانتفاضة أن تستغني عنهم أبداً، وليسوا البتة في موقع النأي عنها أو التراخي في مساندتها. هذه المسلمة البديهية شيء، وبؤس الكثير من قيادات المعارضة الخارجية، وهيئاتها، شيء آخر مختلف: إنه فارق الأخلاق والسلوك، قبل أيّ من ألاعيب احتراف المعارضة!

الاثنين، 6 أغسطس 2012

العقيد الأسعد والأميرة السلمية

انشقاق ضباط وصفّ ضباط وأفراد الجيش السوري خطوة جديرة، دائماً، بالترحاب والتحية؛ لاعتبارات شتى، سياسية وأخلاقية، سلوكية ومعنوية، فردية وجَمْعية، فضلاً عن اتباع الواجب الوطني الحقّ والملموس، بدل الأمر العسكري الضالّ والأعمى. ولعلّ الاعتبار الذي يأتي في الطليعة هو أنّ المنشقّ لا يغادر معسكر النظام، حيث الاستبداد والفساد وخيانة رسالة الجيش المبدئية في الدفاع عن الشعب والوطن، لكي ينزوي في داره، متوارياً ومنسحباً ومستقيلاً؛ بل ينضوي في صفّ الشعب، أو جيش الشعب على نحو أدقّ، سواء انتهى به الأمر إلى إحدى كتائب "الجيش السوري الحرّ" المعروفة والمنظمة، أو تطوّع لخدمة الحراك السلمي هنا وهناك، سائراً على مثال الجندي المجهول مثلاً.

ليس من الحكمة ـ في المقابل، وخاصة إذا اتصل الأمر بالضباط، والرتب العليا بينهم ـ أن يستهوي العسكر التدخل في الشؤون السياسية، على نحو مباشر وعلني ومتعمَّد، خاصة إذا تقصدوا الإيحاء بأنّ لهم اليد العليا في القرار السياسي، بعد العسكري؛ وينبغي أن يكون لهم القول الفصل، ما داموا هم حَمَلة السلاح، وهم الذين يقارعون النظام عسكرياً. هذه واحدة من المخاطر الكبرى على الروح السلمية والشعبية التي طبعت الانتفاضة منذ انطلاقتها، إلى جانب ما تستبطنه من مصادرة مبكرة للقرار السياسي المدني، وإخضاعه للعسكرة والعسكر. ورغم أنّ الخيارات العنفية والدموية والهمجية التي انتهجها النظام منذ الأسابيع الأولى كانت تقود، موضوعياً، إلى تغليب خيار العسكرة، وتُعلي شأن العسكري مقابل المدني؛ فإنّ ضبط التناسب بين القطبين، والتنبّه إلى ضرورة انضباط القطب العسكري عند خطوط بيّنة لا يصحّ تجاوزها، خاصة في التسابق على الفضائيات وإطلاق التصريحات والتصريحات المناقضة، صارت كلّها حاجات ملحّة لا يجوز التهاون عنها تحت أية ذريعة، بما في ذلك الحرص على وحدة الصفّ.

وفي هذا السياق، كان مؤسفاً أن ينزلق العقيد رياض الأسعد، القائد الرسمي لكتائب "الجيش السوري الحرّ"، إلى الحكم على مدينة سلمية، شرق حماة، بأنها "ما تزال موالية للنظام"، لمجرّد أنها شهدت عبور تعزيزات عسكرية إلى وحدات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري في محيط مدينة حلب. وحتى الساعة، في حدود ما يعلم كاتب هذه السطور، لم يصدر العقيد الأسعد أي اعتذار رسمي عن تصريح خاطىء تماماً، ضارّ وطنياً، ولا يتحلى بأيّ صواب منطقي أو صحة عقلية. ذلك لأنّ اتهام المدن والبلدات والقرى بموالاة النظام لمجرّد مرور تعزيزات عسكرية على طرق محاذية لها، أو تخترقها، سوف يفضي إلى إلصاق التهمة ذاتها بالجغرافيا السورية بأسرها، دون استثناء. ومن جانب آخر، كيف يجيز أحد لنفسه ـ أياً كان موقعه، داخل المعارضة بصفة خاصة، وفي الصفّ العسكري قبل المدني ـ اتهام أية مدينة او بلدة أو قرية سورية بموالاة النظام، حتى في قلب المناطق التي يُشاع أنها "معاقل" آل الأسد؟

سلمية، هذه، أخرجت المظاهرات ضدّ النظام منذ "جمعة العزّة"، يوم 25/3/2011، كما تظاهر قرابة عشرة آلاف من أبنائها (وعدد سكانها أكثر بقليل من 100 ألف نسمة فقط) في "الجمعة العظيمة"، يوم 22/4/2011. وللمدينة باع طويل في إغاثة مدينة حماة تحديداً، والمدن والبلدات المجاورة المنكوبة، واستقبال النازحين. كما لعب أبناؤها، الشباب الطلاب تحديداً، دوراً حيوياً في تحرّك جامعة حلب، أواخر العام الماضي، وخلال شهر شباط (فبراير) هذا العام. ولا ينبغي أن تغيب عن معادلة هذه المدينة حقيقة أخرى خاصة، مفادها أنّ غالبية ساحقة من أبنائها ينتمون إلى المذهب الإسماعيلي، الأمر الذي جعل النظام يبذل جهوداً مضنية لخنق الأنشطة الاحتجاجية فيها، من جهة أولى؛ والإيحاء، من جهة ثانية، أنّ أهلها نأوا بأنفسهم عن الانتفاضة، وتعاطفوا مع النظام، لأسباب مذهبية.

وإلى جانب الأديب المخضرم عارف تامر، والمؤرّخ مصطفى غالب، والشاعر سليمان عواد أحد روّاد قصيدة النثر السورية؛ سلمية، هذه، هي مدينة علي الجندي (1928 ـ 2009)، الشاعر الكبير الذي عاش حياة صاخبة أبيقورية، لم تمنعه من التوقيع على بيان الـ 99"، الذي أصدره نخبة من المثقفين السوريين، ونُشر في أواخر أيلول (سبتمبر) 2000، وتضمّن المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية، وإصدار عفو عام، وإرساء دولة القانون. ولقد قاطع الجندي المهرجانات الثقافية في السلمية (التي سبق لها أن تابعته ينخرط في بكاء مرير وهو يلقي قصيدته "السيول تجتاح سلمية"، حتى صعد ممدوح عدوان المنبر، وأتمّ القصيدة عنه)، احتجاجاً على اعتقال صديقه عبد الكريم الضحاك، عضو مجلس أمانة "إعلان دمشق".

وسلمية هي بلدة محمد الماغوط (1934ـ2006)، وفيها، وبوحي من تاريخها التعددي العريق، قال الراحل الكبير: "سلمية: الدمعة التي ذرفها الرومان/ على أوّل أسير فكّ قيوده بأسنانه/ ومات حنيناً إليها/ سلمية: الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا/ وهي تلهو بأقراطها الفاطمية/ نوافذها مفتوحة أبداً/ كأفواه تنادي... أفواه تلبّي النداء/ في كلّ حفنة من ترابها/ جناح فراشة أو قيد أسير/ حرف للمتنبي أو سوط للحجاج/ أسنان خليفة؛ أو دمعة يتيم"...

وسلمية، بعدئذ، واليوم، إحدى أميرات انتفاضة سورية، مدنية وشعبية وسلمية؛ ولهذا فإنها تُلزم العقيد الأسعد باعتذار، وبأداء تحية عسكرية!