وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 4 سبتمبر 2017

الليدي ديانا وإدمان "الفُرجة"

 
في 31 آب (أغسطس) الجاري، تحلّ الذكرى العشرون لمصرع الليدي ديانا (1961 ـ 1997)، صحبة دودي الفايد، والمرافق، والسائق؛ ليس دون مزيد من المراجعات المختلفة، التي تزعم الغوص أعمق في شخصيتها، واستكشاف أوراقها الخبيئة؛ وإطلاق، أو إعادة إنتاج، الأحكام القِيَمية والنفسية والاجتماعية والسياسية حول حياتها ومماتها. وليس دون مزيد من نظريات المؤامرة، غنيّ عن القول، كما في إصرار مايكل مانسفيلد (المحامي البريطاني المختصّ بالقضايا الساخنة، ذات الجاذبية الإعلامية القصوى)، أنّ بعض الإشارات الدفينة في أوراق أميرة ويلز تبلغ شأو التنبؤ بجريمة القتل المقبلة، وتسمية القاتل.
في هذه المناسبة تُستعاد فكرة الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو، حول خضوع مجتمعات الغرب إلى إدمان يومي اسمه "الفُرجة"، يتزامن مع وقوعها ضحية جهاز معقد أعلى اسمه "المراقبة اللصيقة". وهذا المبدأ الأخير، "الدائم، المشدد، كليّ الحضور، القادر على تسليط الضوء على كلّ شيء، وأي شيء؛ لا تمارسه الدولة/ السلطة فحسب، بل يتولى تطويره المبدأ الأول بالذات: الفرجة. وفي هذا الصدد تُستعاد، أيضاً، تعليقات بلانتو، رسام الكاريكاتير الفرنسي المعروف، كما تبلورت في عدد من الرسوم اللاذعة؛ لعلّ أطرفها، وأكثرها قسوة، ذاك الذي يلتقط مصوّراً صحفياً يقتحم صالة التحرير وهو يهتف بحماس: "في حوزتي جميع صور مجزرة الجزائر الأخيرة!". زملاؤه، الغارقون حتى آذانهم في تغطية خبر مصرع الليدي ديانا كما يتضح من محتويات الصالة، يردّون عليه بما معناه: "من أي عصر حجري يجيء هذا؟".
وليس الأمر أن التكافؤ كان مطلوباً بين مصرع ديانا، ومقتل أكثر من 250 جزائرياً في ليلة ذبح رهيبة، إذْ من السذاجة الحثّ على أي نوع من أنواع المقارنة بين جاذبية الحدثين، من الناحية الإعلامية تحديداً. ولكنّ الطغيان المعقد الذي مارسته، وتمارسه، اللعبة المتبادلة بين الرقابة اللصيقة والفرجة في مثال الحدث الأول، تجاوز حدود التغطية والعمل الإعلامي. وقد يصحّ السجال بأنه تجاوز كامل النطاق العريض للفضول الإنساني الطبيعي إزاء واقعة ساخنة، تلوّح بتفاصيل متشعبة ساخنة بدورها.
ذلك التلازم بين المراقبة اللصيقة والفرجة بدأ من مفرزة المصوّرين المتطفلين (الـ"بابارازي")، الذين طاردوا سيارة المرسيدس حتى النفق الأخير، وحلّت عليهم لعنة التسبب في مصرع الأميرة؛ ثمّ تجلى أكثر في بيان قصر بكنغهام المتأخر، الذي عبّر عن مشاعر الأسى والحداد، ليس استجابة لداعي الفاجعة على الأرجح، بل رضوخاً لضغط شارع داخلي أخذ يميل إلى تحويل الليدي الصريعة إلى "صاحبة السموّ، القديسة داي، ملكة القلوب". يومذاك لم تتأخر صحف التابلويد البريطانية، إذْ كيف لها أن تتخلف عن ركب الشارع الغارق في الحزن والحداد؛ فتناست السهام التي اعتادت توجيهها إلى الأميرة، وصوّبتها في المقابل على القصر، الذي تأخّر في اللحاق بالشارع.
بالقدر ذاته، بدت الصبية ديانا سبنسر، ذاتها، ضحية تلك الحركة التبادلية بين إدمان الفرجة وجهاز الرقابة اللصيقة. لقد أدركت، وربما في وقت مبكر للغاية من دخولها إلى ردهات قصر بكنغهام، أن محتدها الأرستقراطي الرفيع لا يكفي لكي تواصل إنسانيتها الطبيعية، وسط أصنام موناركية يسيل في عروقها دم ملكي من نوع مختلف "النقاء". ولقد اهتدت إلى وسائل الإعلام بوصفها السلاح الرادع الجبار، الذي لا مناص لها من استخدامه، إذا كانت ستخوض أية معارك فاصلة مع تلك الأصنام والدماء الملكية. ثم اهتدت إلى الصورة بوصفها التتويج الطوطمي الأقصى لهذه العقود الحداثية وما بعد الحداثية، وأدركت ـ على نحو تدريجي بطيء ولكنه معمّق وبارع ـ أنها سيّدة صورة... بل السيدة الأكثر أسراً واجتذاباً للصورة، في طول العالم وعرضه.
وقد يقتضي الإنصاف القول إنها كانت، هنا، الأكثر صدقاً مع طويتها الحقيقية: الرؤوفة، المتوثبة، المغامرة، اللا ـ بيروقراطية، القريبة من نبض الشارع، الطليقة، والعاشقة للحياة. كانت الصورة مدفعيتها الثقيلة وهي تحتضن مريضاً مصاباً بالـ"إيدز" أو تسير ببسالة في حقل ألغام مضادة للأفراد، أو تزور مشفى لعلاج سرطان الثدي، أو تغرق في إطراقة فلسفية وهي تتأمّل أعجوبة "تاج محل" وكأنها تعانق تاريخ الإنسانية الواحدة ممثلاً في صرح آسيوي كوني تطهر من رجس الكولونيالية البريطانية، أو تحمل طفلها (الملك الآتي!) على ظهرها كما يمكن أن تفعل أيّ أمّ رؤوم عادية، أو تقبّل زوجها الأمير (الرصين، ثقيل الظل) على ملأ من رعيته والعالم. وهنا أيضاً، كان السلاح فعالاً وحاسماً ولا يقاوم.
الإنصاف، إياه، يقتضي التسليم بأنها نجحت كثيراً، بل وأنجزت سلسلة اختراقات كبرى ألحقت "الضرر المفيد"، إذا صحّ القول، بتراث ملكي أخلاقي وفلسفي عتيق، لا تغيب عنه رائحة العفونة؛ وامتلكت جسارة نبيلة باتت علامة فارقة لسيدة طلّقت التاج بقرار منها، وأمست حرّة في مشاعرها وأقوالها وأفعالها، وفي "استثمار" فتنتها الشخصية حيثما توجّب تقويض تقليد فاسد.
ما خلا أنّ تشييد بدائل معافاة، أكثر تحرراً من صفة الصنم الملكي، وأشدّ نأياً عن شخص الأميرة المصنوعة من سيلوفان، الأقرب إلى امرأة من لحم ودم... ظلّ يصطدم بداء عضال لا شفاء منه، يخلط الرقابة بالفرجة!
27/8/2017