وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 18 يونيو 2012

بئر النفط وبركة الدم

على امتداد القرن الماضي، ومنذ انقلاب النفط إلى معادلة كبرى تتجاوز أمن الطاقة إلى الأمن القومي للقوى العظمى بصفة خاصة، استقرّ تعبير "النفط والدم" في القاموس السياسي الكوني، كما في الاستقبال الدلالي الشعبي العريض، بوصفه منتهى الذرائعية. هو، كذلك، أحد أقصى تطبيقات السياسة الواقعية، أو الـ Realpolitik حسب التعبير الشهير الذي صاغه الكاتب والسياسي الألماني لودفيغ فون روشاو، أواسط القرن التاسع عشر، ليختصر نزعة تفضيل المصلحة على المبدأ، والذريعة النافعة على الناظم الأخلاقي.

العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تطبيقات معادلة النفط مقابل الدم (البشري، بالطبع!)، في أماكن عديدة، لا سيما الشرق الأوسط حيث "الذهب الأسود" وفير، واستمرار تدفقه ـ آمناً، مستقرّاً، والأفضل رخيصاً ـ مسألة جيو ـ سياسية وستراتيجية عظمى. في العراق أوّلاً، ومن خلاله الخليج العربي بأسره، ثمّ الجزائر، واليمن، والسودان، وليبيا؛ وبعض التعنت الروسي في الاصطفاف خلف النظام السوري، رغم افتضاح الجرائم والمجازر والهمجيات كافة، مردّه خسران الروس الكثير ممّا يعتقدون أنه كان حصّتهم في الكعكة الليبية ما بعد معمّر القذافي. وعلى المنوال ذاته، لا يأتي المرء بجديد حين يستذكر ما صار يعرفه الطفل السوري، قبل المتبحر في السياسة الدولية: أنّ افتقار سورية إلى النفط هو العنصر الأبرز وراء اقتصار القوى الغربية على اللفظ والعقوبات المضحكة في الردّ على النظام السوري.

وخلال زيارة قصيرة إلى برلين، الأسبوع الماضي، أتاح لي باحث ألماني صديق فرصة التعرّف مجدداً ـ ولكن أعمق، وأفضل من ذي قبل ـ على أحد أبرز الأعمال الرائدة التي تناولت معادلة "الدم والنفط"، وبين الأبكر في تناولها من زاوية فعلية، من جهة أولى؛ ومختلفة تماماً عن الرؤية الغربية الشائعة، رغم الحسّ الاستشراقي المسبق الذي اكتنف فصول العمل، من جهة ثانية. مؤلف الكتاب هو الآزري (الأذربيجاني) أسعد بيك، أو قربان سعيد، أو ليف نسيمبوم في اسمه الأصلي؛ وعنوان عمله هو "الدم والنفط في الشرق"، وقّعه باسمه المستعار الأوّل، أسعد بيك، وصدر بالألمانية سنة 1930، ثمّ أعيدت طباعته سنة 1997. الرجل كان يهودياً، ولكنه أفلح طويلاً في إخفاء ديانته ليس في أذربيجان أو روسيا أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق فحسب، بل كذلك في ألمانيا والنمسا النازيتَيْن، وفي إيطاليا الفاشية.

الطريف أنّ صيته ذاع كواحد من أفضل كتّاب العصر المناهضين للشيوعية، ودعاة الأفكار اليمينية، حتى أنّ وزارة الدعاوة النازية أدرجت مؤلفاته في لائحة "الكتب الممتازة للأدمغة الألمانية"؛ كما كان قاب قوسين أو أدنى من كتابة السيرة الرسمية للزعيم الإيطالي الفاشي بنيتو موسوليني، لولا انكشاف ديانته. ولد نسيمبوم سنة 1905 في باكو، عاصمة أذربيجان، لأسرة من الأغنياء الجدد المشتغلين بصناعة النفط، وبعد ثورة أكتوبر 1917 فرّت الأسرة إلى إسطنبول ثمّ باريس وبرلين، حيث أكمل الفتى دراسته الجامعية بالاسم المستعار أسعد بيك نسيمبوم، معلناً أنه مسلم الديانة، من أقرباء أمير بخارى. ولقد بدأ ينشر سلسلة مقالات أدبية وسياسية واقتصادية سرعان ما أكسبته صفة "الخبير في شؤون الشرق"، حتى سنة 1938 حين انكشف أمر ديانته اليهودية، ففرّ إلى بوسيتانو في إيطاليا، حيث توفي سنة 1942.

مثير، في المقابل، أنّ قيمة نسيمبوم على الصعيد الآزري المحليّ لا تنهض على أيّ من هذه التفاصيل، بل تكاد تقتصر على أمر واحد: أنّ الرجل، باسمه المستعار قربان سعيد، هو مؤلف رواية "علي ونينو"، 1937، التي تروي حكاية الغرام المستحيل بين فتى أذربيجاني شيعي وفتاة جورجية مسيحية، وتعتبر أشهر قصّة حبّ في أذربيجان. (نشرت دار الحصاد السورية ترجمة لهذه الرواية قبل سنوات، لكنّ المترجمة أميمة البهلول عجزت عن ردّ الرواية إلى نسيمبوم، فاعتبرت أنّ كاتبها الحقيقي لا يزال مجهولاً). المدهش أنّ الكثير من الآزريين لا يصدّقون حتى اليوم أنّ المؤلف كان يهودياً، ولهذا لم يكن غريباً أن تنقلب تلك القصة الغرامية إلى ملحمة وطنية تعبّر عن طموح أذربيجان للاستقلال عن السوفييت!

وفي ما يخصّ كتلة أدبيات الاستشراق على صعيد كوني، تتمثّل خطورة نسيمبوم في أنه هيمن فعلياً على التفكير الرسمي، فضلاً عن الكثير من أنساق التفكير الشعبي ـ الشعبوي، في ألمانيا وإيطاليا والنمسا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. والمرء يدرك أثر مؤلفاته حين يتذكّر أنه لم يكتب في النفط الدامي والغرام الرومانسي فحسب، بل كتب سيرة النبيّ محمّد، كما روى حكايات عن الشرق لم تكن أمينة لأيّ شرق آخر سوى ذاك المتخيََّل الذي يتشهاه القارىء الغربي. والصديق الألماني، الذي أطلعني على محتويات دفاتر نسيمبوم المكتشفة مؤخراً، انتبه مثلي إلى أنّ أعمال الرجل في كشف أسرار استسهال إراقة دماء الشعوب مقابل ضمان تدفق النفط، إنما مُحقت على نحو شبه تامّ لصالح كتاباته الاستشراقية وحدها، فظلّ ـ أسوة بغالبية المستشرقين ـ مرجع معرفة إنشائية زائفة عن "الشرق".

إذْ ما المصلحة في أن يفضّل ساسة الغرب، فضلاً عن مستشرقيه و"الخبراء" في شؤوننا، كتاباً يذكّرهم بأن "السياسات الواقعية" إنما تخوض في بركة دم، خلال بحثها المحموم عن بئر نفط!