وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 سبتمبر 2019

التشكيل السوري في فرنسا: التصعيد الفسيح


شاءت أسباب عديدة، يتصل معظمها باشتداد النزوح السوري بعد انتفاضة آذار (مارس) 2011، ويعود بعضها إلى المصادفة أو الصلات المنفردة؛ أن يتجمع على الأراضي الفرنسية عدد كبير من التشكيليات والتشكيليين السوريين، الذين ينتمون إلى شريحة عمرية متقاربة إجمالاً، وتخرجوا بصفة عامة من كلية الفنون الجميلة في دمشق، والكثير منهم جمعته زمالة الدفعة الواحدة. وبالطبع، انضمّت إلى القادمين من شتى أصقاع سوريا أسماءٌ أخرى كانت تتواجد أصلاً في فرنسا قبل الانتفاضة، ولكن تنضوي في عداد الجيل إياه.
وقد أضاءت تجاربهم مناسباتٌ مختلفة ذات صلة بالأنشطة العامة، السياسية والثقافية، السورية أو العربية أو الفرنسية، ذات الصلة بالشأن السوري والانتفاضة؛ كما احتضنت معارضهم صالات عديدة، لعلّ الأبرز بينها كان، ويظلّ، "غاليري أوروبيا" الباريسي، بإدارة الصديقين ندى كرامي وخلدون زريق. وهذه صالة صغيرة، لكنها بالغة السخاء والترحاب، إذْ استضافت أيضاً عدداً كبيراً من التجارب السورية القادمة من الوطن، أو من أصقاع إقامات أخرى ومناف مترامية الجهات، في أربع رياح الأرض.  كذلك أصدرت الصالة عدداً من الكتب، المتميزة في المحتوى والتصميم، جمعت بين النصّ والتشكيل؛ يُذكر بينها: "الأيام السبعة"، قصيدة نوري الجراح، بترجمة رانيا سمارة ورسوم يوسف عبدلكي وعاصم الباشا؛ و"دمشق/ باريس: رؤى متقاطعة"، وضمّ رسومات ونصوصاً لقرابة 70 تشكيلياً وكاتباً سورياً وعربياً وفرنسياً؛ و"سوريا بوجه آخر"، بإشراف زريق وسمارة وشريف رفاعي، واحتوى على مقالات تعرّف بالرواية والمسرح والشعر في سوريا، وتقترح قراءات لأمثال سليم بركات وزكريا تامر ونزار قباني ومحمد الماغوط...
وفي خريف 2017 شهدت باريس وضواحيها ولادة تجمع "أبواب مفتوحة على الفنّ السوري المعاصر"، الذي بادرت إلى تأسيسه سبع نساء، أربع فرنسيات وثلاث سوريات؛ وانطوى على مشروع حيوي للتعريف بالتشكيليين السوريين، عبر زيارتهم في مراسمهم مباشرة. ولقد أنجزت المبادرة الكثير من أغراضها، فجذبت المشاهد التلقائي، وكذلك أصحاب صالات العرض، ومقتني اللوحات، وجمعيات أصدقاء المتاحف، والصحافيين. وفي هذه الأيام يستقبل "بيت الفنون"، ضاحية مالاكوف الباريسية، معرضاً لأعمال 20 من التشكيليات والتشكيليين السوريين الذين قُدّمت أعمالهم، على نحو أو آخر، ضمن مبادرة "أبواب مفتوحة".
المعرض يحمل عنوان "أين بيت صديقي؟"، المستمدّ من شريط الإيراني عباس كياروستامي، 1987، الذي يروي بشاعرية عالية لهفة فتى في الثامنة خلال بحثه عن بيت صديقه ليعيد إليه كراسته المدرسية التي أخذها منه بالخطأ. والاستدعاء هذا يتوخى تمثيل "سؤال الفقدان"، و"يسائل إعادة البناء بين التذكارات، الأحلام، والكوابيس"، كما تكتب في الدليل فيرونيك بورويه ــ أوبيرتو مندوبة "أبواب مفتوحة"، والقيّمة على المعرض مع بولا أيزمبرغ ودنيا الدهان. المشاركون، حسب الترتيب في الدليل: بيسان الشريف، تمام عزام، خالد تكريتي، ولاء دكاك، رندة مداح، علا عبد الله، خالد بركة، أكرم الحلبي، سلافة حجازي، وليد المصري، نور عسلية، عزة أبو ربعية، نغم حديفة، ديالا برصلي، محمد عمران، خالد ضوا، إيمان حاصباني، ريم يسوف، نجاح البقاعي؛ بالإضافة إلى مجموعة "مصاصة متة" التي تقدّم، منذ 2011، مسرح دمى يسخر من شخص بشار الأسد ونظامه.
طبيعيّ، أوّلاً، أن يعكس المعرض تنوّعاً واسعاً في الموضوعات والأشكال، وفي خيارات الموادّ والتقنيات، حتى أنّ المرء لا يجازف كثيراً إذا استشعر اشتغال مطحنة أساليب، بالمعنى الإيجابي للعبارة، في جوانب هاتين الغرفتين اللتين عُلّقت على جدرانهما الأعمال الـ42. ثمة، في التقنيات، فيديو، وطباعة رقمية، وإكرليك على قماش، وحبر على ورق، وتجهيز فنّي (إنستاليشن)، ورصاص على ورق، وأحبار وأصباغ على قماش، وألوان زيتية على قماش، وكولاج خيوط، ونحت بالشمع، وحفر على ورق، وأقلام تخطيط على ورق، ونحت بأصماغ عضوية، وطين، وحبر صيني على ورق، وفوتوغراف...
الموضوعات تنقل هواجس مختلفة، وهذه سمة طبيعية هنا أيضاً، ما خلا أنّ الخلفيات السورية لا تخفى، على نحو غير مباشر غالباً، وهذه فضيلة خاصة تُسجّل للمشاركين؛ إذْ لا يلوح أنّ التمثيلات المختلفة لأحاسيس المنفى أو النزوح أو الانحياز أو النأي أو الفقد أو الحنين، وسواها من البنى الشعورية التي تلازم السوري المعاصر في غربته واغترابه، هي التي تتصدّر المساحة الدلالية في الغالبية الساحقة من الأعمال.
لا أحد، أغلب الظنّ، سوف يخطيء تفسير الانحياز السياسي والأخلاقي والوطني، السوري تحديداً، خلف جميع هذه الأعمال؛ الأمر الذي لم يَفُتْ على رعاة المعرض، إذْ ختموا الدليل بإدراج "مصطلحات" قدّروا أنها على صلة خاصة بمضامين الأعمال: البالون، كأداة احتجاج خلال الانتفاضة؛ ودمشق/ الشام، العاصمة وقلب الإجراءات العنيفة؛ والسجن، المرادف للجحيم عند السوريين؛ وفيسبوك، وسيلة التواصل وتنظيم الاحتجاجات والتعبير؛ والكابوس، الذي يشكل حالة رعب دائم، وجزءاً من حياة السوريين اليوم...
ولعلّ السمة الأهمّ في مشهد التشكيل السوري على أرض فرنسا تعكسها، في يقيني، تلك المقادير المتفاوتة من تصعيد هاجس سوري جَمْعي، إنساني وكونيّ فسيح لكنه لا يغادر سماته المحلية المؤسِّسة والمأساوية. وهذا، استطراداً، توجّه حميد يتيح الترميز الشفيف، والتوظيف التلميحي، والتسخير البارع لتلك المؤثرات الملحمية الأعمق التي تهدي الناظر ــ في البصر والبصيرة، على حدّ سواء ــ إلى روح المشهد السوري الراهن. 
3/2/2019