وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 سبتمبر 2019

من الصوت والصفحة إلى الشاشة والرقم: عولمة القصيدة في الشكل والمضمون

I


في سنة 1969 نشر الشاعر العراقي سركون بولص قصيدته الطويلة "عاصمة آدم"، موزّعة على عدد من القصائد الفرعية، كانت الأولى تحت عنوان "درويش يحدّق في المحيط ويرى إمرأة"؛ جاء في فقرتها الأولى:

في الصواري إمرأهْ

ويداها قريتانْ

وأنا البحر الذي يعرفها

وهي دوني مطفأه.

كانت القصيدة تفعيلية، تعتمد الوزن والقافية، وليست قصيدة نثر، الصيغة التي سوف يعتمدها بولص على امتداد معظم العقود المقبلة في حياته الشعرية، وسيصبح بين أبرز أصواتها ضمن جيل شعري عربي متعدد التجارب متباعد الجغرافيات، وإنْ اتصف بدرجة عالية من التوافق حول الشكل في أطره العريضة(1). بعد ستّ سنوات، في "دليل إلى مدينة محاصرة"(2)، سوف يجرّب بولص الألعاب الطباعية من حيث تحوير هندسة السطر أو استخدام الحرف الأسود، كما في النموذجين 1 و2؛ وبعد فترة وجيزة سوف يلجأ إلى الكتابة البصرية (أو "الكونكريتية" أو التجسيدية أو المجسّمة... أياً كانت المسميات)، كما في النموذج 3، الذي يشكل فقرة من قصيدته "قضيت أياماً طويلة"، التي ستظهر بعدئذ في مجموعته "الوصول إلى مدينة أين"، 1985.

تلك كانت اجتهادات تجريبية، بادئ ذي بدء، خاصة وأنها أتت من شاعر جيد الاطلاع على النتاج الشعري العالمي، والغربي بصفة خاصة، ولم يكن غريباً عن مناخات التجريب لدى شعراء من أمثال غيوم أبولينير (في قصائد مجسمة على غرار "برج إيفل" و"النسر")؛ ثمّ، في مراحل لاحقة، نماذج السورياليين والدادائيين والمستقبليين، في أوروبا الغربية وروسيا والولايات المتحدة. غير أنها، من وجهة أخرى تخصّ علم اجتماع الأدب وليس علم اجتماع الأشكال والأنواع، كانت تعكس بعض طرائق استقبال العولمة الزاحفة، بل لعلها تماهت بهذه الدرجة او تلك مع واحد من أدقّ تعريفات العولمة، ذاك الذي اقترحه أنتوني غيدنز في كتابه "عواقب الحداثة"(3)، حول انضغاط العوالم وانكسار النرجسيات في آن معاً، من جهة أولى؛ كما أنها، من جهة ثانية، استبصرت صيغة القصيدة الإلكترونية، التي سوف تنتشر على نطاق واسع بوصفها وليدة الأيقونة الكبرى لعصور الحديث والتحديث والحداثة والعولمة، أي الشاشة الرقمية.

ونعرف أنّ أوّل قصيدة كومبيوترية كُتبت سنة 1959، في ألمانيا، على يد ثيو لوتز وماكس بينس؛ وأنّ ورشات تجريب مختلفة انطلقت في أوروبا والولايات المتحدة واليابان لتلمّس أفاق هذه الوجهة في الكتابة الشعرية، لعلّ أبرزها محاولات الشاعر والأكاديمي الفرنسي جان بيير بالب Balpe، والقفزات الهائلة في تطوير النصوص التلقائية والـHypertext في الولايات المتحدة؛ وما أسفر عنه ذلك كلّه من استيلاد القارئ/ المتصفح، الذي يكمل نظرية موت المؤلف بإدخال الشاعر/ المتصفح. وفي الأصل كان الشعر يصل صوتياً عبر الأذن، ثمّ انتقل إلى إيصال عبر الصفحة نحو العين، وهو اليوم يتدفق عبر الشاشة الرقمية مختلطاً بشتى وسائل الميديا المعاصرة المعقدة، التي لم تعد تتيح لسيرورات القراءة البقاء في حدود الإدراك اللغوي والدلالي الكلاسيكي، بل صارت ميداناً حاشداً لاختلاط البصر والسمع، الصورة والصوت، اللون والتشكيل؛ أي، باختصار، اللغة في ما بعدها، وفي ما وراء معطياتها المألوفة واشتغالاتها المأثورة. إذْ كيف يمكن اليوم قراءة "أنشودة المطر" على شاشة الكومبيوتر، تماماً كما قرأتها على الورق أجيال متعاقبة؛ بل كيف كان بدر شاكر السياب سيجترح إيقاعات سقوط قطرة المطر، لو أنه كتب على لابتوب شخصي يوفّر له الاستماع إلى أصوات هطول المطر، أو حتى اصطفاق شناشيل ابنة الجلبي:

يا مطراً يا حلبي

عبّر بنات الجلبي

يا مطراً يا شاشا

عبّر بنات الباشا

يا مطراً من ذهب!

الفضاء على الشاشة الرقمية ليس مسطحاً كما يخال المرء للوهلة الأولى، بل هو حلقة متضاعفة من الأعماق والأبعاد والمسافات والخلفيات، لا تقتصر البتة على ما ينقله النصّ من معنى ومبنى، بل تُسلم قياد النصّ ذاته إلى قارئ/ متصفح قادر، بحركات بسيطة، على إعادة تركيب ما يبصر، وبالتالي إعادة إنتاج ما يُنتج أمامه. وهذه ليست عملية آلية إلا في تعريفها البسيط، أو التبسيطي، إذْ أنها تستدخل جملة هائلة من احتشاد الاستجابات الشعورية لم تكن القراءة الكلاسيكية قادرة على استدخالها عبر علاقة ثنائية شبه حصرية بين القارئ والصفحة. والنماذج الأكثر تعقيداً للقصيدة الإلكترونية يمكن أن تطلق بصر القارئ، ومدركاته المختلفة، في شبكات هائلة لا عدّ لها من أنساق الاستبدال اللغوية، النحوية والصرفية والسياقية؛ إلى جانب الأنساق البصرية المتقاطعة والمتغايرة التي كان أوائل شعراء قصيدة الكونكريت والمجسّم والعينيّ يحلمون بتحقيقها ذات يوم، وعزّ عليهم ذلك لأنّ مشقة الخطّ على الورق لا تشبه في شيء يُسْر التدوين على الشاشة الرقمية.

غنيّ عن القول، بالطبع، إنّ المحاولات العربية في هذا المضمار ظلت محدودة من حيث جسارة استفزاز القارئ، حتى ذاك المقبل على الحداثة، والمتسامح مع التجريب، والمستعدّ لاستقبال هذا أو ذاك من أنماط انتهاك الأعراف التقليدية. ولهذا فإنّ ألعاب الطباعة المختلفة، وتوظيف البياضات في الصفحة، واستخدام الحرف الأسود أو المائل، والكتابة بخطّ اليد وليس بالحرف الطباعي، أو حتى اللجوء إلى خطاط محترف يخطّ نصّ القصيدة... هي، إجمالاً، أقصى ما بلغته الشعرية العربية المعاصرة في ميدان استغلال أيقونة العولمة الكبرى، أي الشاشة الرقمية وما تفرزه في سيرورات القراءة من مستويات إدراك وتفاعل وتنشيط حواسّي لا سوابق لها. الأمر الذي لا يلغي، بالطبع، وشائج من نوع مختلف ربطت الشاعر العربي المعاصر بمختلف تجليات العولمة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً؛ إذْ ليس من الإنصاف فصل المسار، المشار إليه أعلاه عند بولص، عن انتمائه إلى زمانه الذي يتعولم أمامه، ومعه، وفي دخيلة نفسه، وعلى امتداد قاموسه اللغوي وعدّته التعبيرية وموضوعاته ومعانيه وأسلوبياته.



II

بهذا المعنى، وفي الاستئناس مجدداً بتشخيص غيدنز لعواقب العولمة، يمكن لصلة الشاعر العربي المعاصر بأزمنته المعولَمة أن تتخذ تعبيرات مضامينية، سياسية وإيديولوجية وثقافية، وليست شكلية وطباعية فقط؛ لعلّ في طليعتها استكشاف العلاقة مع الآخر، في معانيها المادية والمجازية، وعلى مستوى آخر بشري أو آخر شعري. ذلك لأنّ مفهوم الآخر هنا ليس منحصراً في صورة "الغريب" أو "الأجنبي" أو "المختلف"، وهو أيضاً ليس مقتصراً على تناظرات واستقطابات وثنائيات من نوع "امرأة/ رجل"، "شرق/ غرب"، "نحن/ هم"، "متمدّن/ همجي"، "المركز/ المحيط، "سيّد/ عبد"، "مدنية/ بربرية"... الآخر، في التعريف الذي تعتمده هذه السطور على الأقلّ، هو كلّ ما ينفصل عن الذات لكي يقع أمامها وفي مواجهتها، يكون شبيهاً بها أو على نقيض منها، وتنبثق دينامية وجوده من الحاجة إلى تعريف فارق الذات عن سواها. هي، باختصار شديد، علاقة "الذات/ الآخر" بكلّ ما تنطوي عليه من جوانب إبداعية وثقافية ومعرفية وسياسية وتاريخية وجغرافية وأنثروبولوجية، فضلاً عن جوانبها الأخرى الوجودية والجنسية والفلسفية.

والحال أنّ الآخر، والعلاقة مع الآخر وتمثيلاته وصُوَره، موضوعة أثيرة لدى محمود درويش، ولا تكاد تخلو منها أيّ من أعمال الشاعر خصوصاً في حقبة ما بعد بيروت، 1982. ولكن لعلّ قصيدته "خطبة الهندي الأحمر ــ ما قبل الأخيرة ــ أمام الرجل الأبيض"، التي نُشرت في مجموعته "أحد عشر كوكباً"، 1992، في عداد أوضح الأمثلة على هذه الموضوعة؛ خصوصاً وأنها تدخل في علاقة حوارية مع آخر/ شعب بأسره، ومع آخر/ ثقافة تعرّضت للإبادة الجماعية، وثمة في تاريخها الكثير من العناصر التي تذكّر بفلسطين والشعب الفلسطيني.

وفي حوار حول هذه القصيدة، قال درويش:

"منذ بداياتي الشعرية وأنا أتعامل مع موضوعة الأرض وعناصرها، من عشب وشجر وحطب وحجارة، ككائنات حيّة. إنني إذاً مكوّنٌ بطريقة تتيح لي التقاط رسالة الهندي الأحمر. وحين قرأت ثقافتهم أدركت أنهم عبّروا عنّي بأفضل مما عبّرت عن نفسي. ولسوف يشرفني أن يرتقي دفاعي عن الحقّ الفلسطيني إلى مستوى دفاع الهندي الأحمر، فهو دفاع عن توازن الكون والطبيعة الذي يشكل سلوك الأبيض خرقاً له".

ولم يخفِ محمود درويش مضمون الرسالة في قصيدته حين تابع:"

"لقد تقمصت شخصية الهندي الأحمر لأدافع عن براءة الأشياء وطفولة الإنسانية، وأحذّر من تعاظم الأداة العسكرية التي لا ترى لأفقها حدوداً، بل تقتلع كل المعاني الموروثة وتلتهم بجشع ونهم الكرة الأرضية بسطحها وقاعها. التهام معرفة الآخر هو عتبة أولى لإفنائه وإقصائه، وهو مشروع إبادة يؤشّر على الطريقة التي ينشأ بها النظام الدولي الجديد: غزو، وهيمنة، وإلغاء، ومحاولة فهم الآخر بوسيلة إبادته. قصيدتي حاولت تقمّص شخصية الهندي الأحمر في ساعة رؤيته لآخر شمس"(4).

ونعرف (من القصيدة ذاتها، ومن حديث درويش عنها) أن الشاعر انكبّ على قراءة معمقة لتاريخ الهنود الحمر وعلاقتهم بالأرض والوجود والآلهة والآخر. وأدرك، على نحو لا يقلّ عمقاً، دلالات العام 1492، بحدثَيْه المحوريين: رحلة كولومبس وسقوط غرناطة؛ وكيف اقتضى تأسيسُ مفهوم الغرب النهائي إبادةَ سبعين مليون هندي، و"إدارة حرب ثقافية طاحنة ضدّ فلسفة تقترن بالأرض والطبيعة، وبالشجر والحصى والتراب والماء"، كما يقول درويش في الحوار ذاته. المادة المعرفية، والموقف الأخلاقي من "الاكتشاف"/ الغزو، والوعي التاريخي بجوهر الصراع في أي مشروع استيطاني، وارتفاع سؤال الأرض عند الفلسطيني من المستوى السياسي إلى مستوى القداسة، وتماهي الفلسطيني مع التراجيديا، ونهوض منجز درويش الشعري على المشروع التراجيدي... كلّ هذه عناصر حاسمة تجمعت وتكاتفت كي تخرج قصيدة "خطبة الهندي الأحمر..." على الهيئة الوحيدة اللائقة بشروط كتابتها: أنها واحدة من النصوص الأدبية النادرة في تلمّس الابعاد الكونية لعولمة معاصرة تتكيء على تواريخ عابرة للأزمنة والجغرافيات.

السطور الأولى من القصيدة تفصح عن جملة الاستراتيجيات التي اعتمدها درويش لتحقيق غرضَيْن حاسمين: تقويض تنميط الغزاة للهندي الأحمر في سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية، ثم الانطلاق من ذلك أساساً إلى إطلاق فضاء المواجهة بين أهل الأرض (أينما كانوا، ولكن في المسيسيبي وفلسطين على وجه التخصيص)، والآخر القادم الذي اجتاح واستوطن؛ لهذا غرق أكثر فأكثر في عماء جهل الأرض وتواريخها وعناصرها ودفاعاتها السرية عن روحها وروح قاطنيها. التراجيدي هنا يلتحم في أعرض فضاء متاح من المقدّس، بحيث تتحوّل الذاكرة المنتهَكة (بعناصرها وشعائرها وطقوسها وحركتها في التاريخ) إلى إرث منتهَك بدوره، تفقده ضحية فيزيائية ومجازية محدَّدة، مُجتاحَة ومنفية ومهزومة ربما، ولكنها متجذرة في الأرض، وقائمة، ومقاوِمة.

وبين طرائق تنويع البُعد العَوْلَمي للحوار مع الآخر أنّ درويش يلجأ إلى البَثّ الحواري للضمائر على نطاق واسع في معظم مقاطع القصيدة، وضمن خطّين متوازيين هما "نحن" و"أنتم"؛ أو ضمن شبكات ثلاثية ورباعية ينضم فيها ضمير المفرد (المتكلم والمخاطَب والغائب) ليضيف عناصر "الغريب" و"الآخر" إلى صيغة التوازي الثنائية السابقة. وثمة هنا توزيع بارع خفي، يتسلل بيسرٍ ومرونة خلال عملية القراءة، لكنّ تحليل خصائصه الإنشائية يكشف عن هندسة تشكيلية تصاعدية يتنامى فيها ما يشبه المنظور التكعيبي للضمائر الثلاثية، والمنظور التزامني لإبدالات المعنى وقَطْع تلك الإبدالات في التوقيت المناسب، كما في المثال التالي:

"نبشّركم بالحضارة" قال الغريب، وقال: أنا

سيّد الوقت، جئت لكي أرث الأرض منكم،

(...)

يقول الغريب كلاماً غريباً، ويحفر في الأرض بئراً

ليدفن فيها السماء، يقول الغريب كلاماً غريباً

ويصطاد أطفالنا والفراش. بماذا وعدتَ حديقتنا يا غريب؟

(...)

فلا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السلحفاة التي

تنام على ظهرها الأرض، جدّتنا الأرض، أشجارنا شعرها وزينتنا

زهرها. "هذه الأرض لا موت فيها" فلا

تغيّر هشاشة تكوينها! لا تكسّر مرايا بساتينها

ولا تجفل الأرض، لا توجع الأرض. أنهارنا خصرها

وأحفادها نحن، أنتم ونحن، فلا تقتلوها ..

سنذهب، عما قليل، خذوا دمنا واتركوها

كما هي،

أجمل ما كتب الله فوق المياه،

له ... ولنا.(5)

حيث يتشكّل إبدال معاني لقاء الهندي الأحمر بالآخر وفق منظورات متضاعفة: الغريب/ المتكلم، والغريب/ الغائب، والغريب/ المخاطَب، الغريب المخاطب المفرد/ الهندي المتكلم بصيغة الجمع، والآخر/ المخاطب بصيغة الجمع أيضاً، والأرض/ الغائب، ، والله/ نحن... وإذا كان السطر الأخير يغلق إيقاع التصاعد عند ذروة ختامية هي برهة التقاء المعبود بالعابد، فلأنّ الأرض التي اغتُصبت وتعولمت قسراً هي موضوع اللقاء؛ ولأنّ القارىء لم يتوقف عن إحالتها سيكولوجياً إلى منظورات ظهورها (الغريب الذي جاء ليرثها، ليحفر فيها بئراً، ليجرح السلحفاة التي تحملها، ليوجعها...)؛ ثم متابعة تزامن حالات الظهور تلك مع منظورات أخرى (بئر لدفن السماء، كلام غريب لاصطياد الأطفال والفراش، تغيير هشاشة التكوين، الدم مقابل الأرض، الماء صفحة الله لكتابة الأرض)، وإلى العنصر البؤري (التكعيبي) الذي لا يكتفي القارىء بالإرتداد إليه في كل مرة، بل ويشارك في صناعة مضاعِفاته أيضاً.



III

يعدّ الأنثروبولجي الهندي الأصل أرجون أبادوراي بين أبرز الباحثين الذين اعتمدوا على مناهج دراسات ما بعد الاستعمار في تأمّل أقدار المخيّلة، والأدب والثقافة عمومًا، في ظلّ العولمة؛ وكتابه الممتاز "الحداثة على وسعها: الأبعاد الثقافية للعولمة" مرجع رائد بالغ العمق حول هذه المسائل الشائكة. وهو يرى أنّ العولمة "نظام معقد متشابك فاصل، لم يعد من الممكن النظر إليه في ضوء ما هو قائم من أنماط المركز/ الأطراف"؛ وأنّ "العالم الذي نعيش فيه اليوم يتّسم بدور جديد تلعبه المخيّلة في الحياة الاجتماعية". وكي نستوعب هذا الدور، ينبغي أن نضمّ، معًا، ثلاثة مفاهيم تخصّ التخييل: الفكرة القديمة عن الصورة  Image، خصوصًا تلك المنتَجة ميكانيكيًا (حسب والتر بنيامين ومدرسة فرانكفورت)؛ وفكرة "الجماعة المتخيَّلة   Imagined Communityعند بيري أندرسون (وهي، في عبارة أخرى، الأمّة في إنشائها الخطابي على يد الأفراد)؛ وأخيرًا، الفكرة الفرنسية عن"المخيال  L'imaginaireكمشهد مُنشَأ جَمْعيًا حول الطموحات والآمال.

وثمة إجماع على أنّ النصوص الأدبية، وسواها من الأعمال الفنية، هي اليوم العلامات الأشدّ قوّة في تبيان عولمة التخييل. وللباحثين عن الهجنة والتجانس وامحاء الحدود وانبناء وعي مترابط في نظام عالمي جديد، أيّة مرجعية أفضل، وأجمل، من تلك التي توفّرها قصيدة شارل بودلير "القطرس"، أو قصيدة ت. س. إليوت "الأرض اليباب"، أو قصيدة محمد الماغوط "أغنية لباب توما"، على سبيل الأمثلة؟ ألا تصبح مثل هذه الأعمال نصوصًا عالمية لأنها تحتوي على إطار مرجعي لم يعد يخصّ جماعة محلية أدبية أو ثقافية، بل كياناً أوسع، وقارّة أعرض، ونظام العالم بوصفه مجموعًا كليًا؟ هنا يقترح أبادوراي خمسة أبعاد للتدفّق الثقافي العولمي، كما تكاد تحتكره الصورة، أيقونة العولمة، مشاهَدة رقمياً: "إثنو ــ مَشاهد"، "ميديا ــ مَشاهد"، "تكنو ــ مَشاهد"، "تمويل ــ مَشاهد"، و"فكرة ــ مَشاهد"؛ حيث تكون المفردة المتكررة "مشاهد" بمثابة قرينة دالة على الحال المشهدية الزاخرة، غير العابرة، والتي تميّز عولمة رأس المال بقدر ما تميّز عولمة قصيدة الشعر.(6)

وهذا ما تقتضيه، ويتوجب أن تفرضه علينا، القراءة المتعمقة، التي هي بنت العولمة والعصر، للخرائط غير الظاهرة و"الكودات" المستبطنة وشبكات الشكل والمحتوى في عشرات النماذج الشعرية العربية المعاصرة؛ والتي قُدّمت نماذج بولص ودرويش كتمثيلات عليها، هنا، وليس البتة كمقاييس مسبقة لها، أو عنها.
إشارات:
ــــــــــــــــ
(1) سركون بولص: "عاصمة آدم". مواقف، العدد 2، فبراير 1969.
(2) سركون بولص: "دليل إلى مدينة محاصرة". مواقف،  العدد 1، يناير 1975.
(3) يُنظر:
Anthony Giddens: The Consequences of Modernity. Polity Press, London 1991.
(4) محمود درويش: "لا بيت للشعر خارج النظام". الكرمل، العدد 74، 1993.
(5) محمود درويش: "أحد عشر كوكباً". دار الجديد (بيروت) وتوبقال (الدار البيضاء)، 1992.
(6) يُنظر:
Arjun Appadurai : Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization. Minneapolis, 1996.

16/6/2019