وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 19 يوليو 2012

النظام السوري أمام منعطف الشام: أورام السرطان بعد تضخم القوة


قبل أيام تحمّل كاتب هذه السطور مسؤولية نشر التعليق التالي، على موقع "تويتر": "ما تشهده أحياء دمشق الساعة ليس، بعد، معركة تحرير العاصمة؛ ولكنه جولة فارقة، ومنعطف نوعي في انقلاب التوازنات. سجّلوا تاريخ 15/7/2012!". لم أكن أرجم بالغيب، بالطبع، أو كما أرجو أنّ القارىء الكريم أدرك على الفور؛ بل كنت ببساطة أحاول استقراء تطورات الموقف على الأرض ـ السورية عموماً، ولكن في ريف دمشق والعاصمة بصفة خاصة ـ كما تتجلى في أنساق الحراك الشعبي المدني، وتبدّلات أداء المجموعات المسلحة داخل صفوف المعارضة، وليس "الجيش السوري الحرّ" وحده، وسلوك النظام على مستويات عسكرية وأمنية وسياسية.

خصائص تلك المستويات هي، في وجهة أخرى، ركائز معمار "الحركة التصحيحية"، الذي شيّده حافظ الأسد طيلة ثلاثة عقود، وحرص فريق التوريث ـ بشار الأسد، وشقيقه، وأفراد أسرتَيْ الأسد ومخلوف، ومختلف الشركاء في مشروع تحويل البلد إلى مزرعة استثمار ونهب وفساد ـ على إدامة تقاليد ذلك المعمار، وتعزيز سطوة أجهزته ومؤسساته، بما يكفل غياب الأسد الأب، المؤسس، جسداً فقط، واستمرار حضوره كسلطة استبداد وفلسفة حكم. والذي يعرف، في الحدود الدنيا، طبائع اشتغال تلك الخصائص؛ ثمّ يضعها على خلفية وقائع الانتفاضة، خلال 16 شهراً وقرابة 20 ألف شهيد، ومئات الآلاف من الجرحى والمعتقلين والمفقودين والمشردين، سوف يدرك أنّ وصول المواجهات العسكرية إلى حيّ الميدان التاريخي ليس نقلة عابرة.

وإذا جاز أن تُوْضَع النقلة هذه في سياق معركة تحرير العاصمة (وهذه "معركة" جديرة بالتسمية، معقدة وطويلة ومركبة، لا تقتصر البتة على الفعل العسكري وحده)، تثميناً لإقدام الميدانيين، وانحناءً أمام تضحياتهم؛ فإنّ من الحكمة، والواقعية أيضاً، أن لا تُهدَر قيمتها في سياق التلهف على تحميلها أكثر، بكثير غالباً، مما تحتمل من مغزى ومعنى. هكذا أتاحت قراءة المشهد آنذاك، يوم 15 تموز (يوليو) الجاري؛ الأمر الذي كان يفرض، في الآن ذاته، عدم التسرّع في إغلاق أي احتمال، لأيّ سلسلة من تسارع الوقائع، أياً كانت الذرائع التي تُساق على سبيل التأني والتعقل والتبصر، خاصة وأنّ وصول المواجهات إلى قلب دمشق أطاش صواب النظام، وكان طبيعياً انتظار ردود فعل عسكرية وأمنية، قصوى وغير مسبوقة.

وهذا ما حدث، بالفعل، حين أبدى النظام علامات متزايدة على مزيج من الذعر والارتباك والتوحش، فأقام طوقاً أمنياً حول الحيّ، ونشر وحدات من الحرس الجمهوري، واستخدم المدفعية الثقيلة من ذرى جبل قاسيون، وتولت الحوامات مهامّ الاستطلاع والإسناد الجوي، وبعض عمليات القصف العشوائي أيضاً. امتد القتال ـ إذْ كان هكذا بالضبط، وبالمعنى العسكري الصرف للمفردة ـ من حيّ الميدان إلى مناطق واسعة من الأحياء المجاورة، في التضامن، والزاهرة، ونهر عيشة، والعسالي، والقدم، والحجر الأسود؛ بالإضافة إلي حيّ الشاغور، التاريخي بدوره، وحيّ ركن الدين العريق. والذي قُيّض له أن يرى مشاهد استسلام جنود النظام، من داخل دباباتهم أحياناً، وأسر عشرات منهم، وانسحاب وحدات كاملة، والاستيلاء على تجهيزات عسكرية وأسلحة وذخائر مختلفة... لن يخطيء كثيراً حين يصنّف تلك المشاهد في باب المنعطف النوعي الذي أخذ يقلب التوازنات.

على جبهات أخرى ـ وهنا، أيضاً، توجّب استخدام المفردة بمعناها العسكري المألوف ـ كان النظام يواصل قصف القابون، وجوبر، وكفر سوسة، داخل العاصمة؛ وبلدات المعضمية، ودوما، وحرستا، وعموم الغوطة الشرقية، وسواها من المناطق في ريف دمشق؛ كما يتبع السلوك العصبي، الوحشي، ذاته في قصف دير الزور وبلداتها، ومناطق متفرقة في محافظات حلب وحماة وحمص ودرعا وإدلب (حتى ساعة كتابة هذه السطور، منتصف نهار أمس الخميس، سقط أكثر من 80 شهيداً في مختلف أرجاء سورية). أمّا في قرى وبلدات الساحل السوري ـ وعلى نحو تمييزي عشائري، وليس طائفياً فحسب ـ كان النظام يستدعي إلى الاحتياط مئات المدنيين من أعمار مختلفة، ومن ضباط وصفّ ضباط وجنود، خاصة أولئك الذين أدّوا الخدمة العسكرية في وحدات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري.

إجراء آخر، يظل لافتاً وشديد الأهمية في الواقع، كان قرار النظام بسحب وحدات كبيرة، ولكن منتقاة بعناية بالغة، من القوّات الموالية التي كانت منتشرة في الجولان المحتلّ (وبينها اللواء 90، في المثال الأبرز)، واستقدامها إلى محيط العاصمة السورية وريف دمشق، ووضعها تحت تصرّف أركان الفرقة الرابعة أو الحرس الجمهوري. وكان الجنرال أفيف كوخافي، قائد وحدة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي، قد أبلغ أعضاء الكنيست أنّ "الأسد نقل العديد من قواته التي كانت في هضبة الجولان إلى مناطق النزاع الداخلي"، وأنه بالتالي "ليس خائفاً من إسرائيل في هذه النقطة" بقدر "رغبته في تعزيز قواته حول دمشق". وطيلة الشهور الستة عشر من عمر الانتفاضة، أحجم الأسد عن إعادة نشر قوّات عسكرية كبيرة من مواقع تمركزها بعيداً عن مركز العاصمة، وذلك خشية تسهيل انشقاق وحدات كاملة في صفوفها، حتى إذا كان ولاء آمريها المباشرين مضموناً تماماً.

كلّ هذه الوقائع حدثت قبيل التفجير الذي قيل إنه وقع في مقرّ مكتب الأمن القومي، وأودى بحياة ثلاثة من أرفع مسؤولي ما يُسمّى "خلية إدارة الأزمة"، وما يزال الغموض يكتنف ملابسات وقوعه، حتى بعد أن سارعت جهتان ـ "الجيش السوري الحرّ" ـ القيادة العسكرية لمنطقة دمشق وريفها، وجماعة "لواء الإسلام" ـ إلى إعلان المسؤولية عن تنفيذه. وأياً كانت الترجيحات، وسواء قضى رجالات النظام بالحزام الناسف أو بالسمّ أو بتصفيات بين بعضهم البعض، فإنّ معمار النظام العتيق دون سواه قد تعرّض لهزّة فاصلة ذات أصداء وآثار، لا تُلحق الأذى بتماسك النظام الراهن فحسب، بل تمسّ منطق توازناته وطبائع اصطفاف القوى داخله أيضاً. لا شماتة في الموت، بالطبع، وكنّا نفضّل تقديم هؤلاء، وسواهم، إلى محكمة الشعب في سورية المستقبل، بدل اغتيالهم على هذا النحو. ولكنّ انتفاء الشماتة أمر، يخدم القاعدة الأخلاقية؛ واعتبار هذا المصير بمثابة تحصيل حاصل يليق بجلاّدي الشعوب ومجرمي الحرب، أمر آخر يخدم القاعدة التاريخية.

ثمة جانب آخر، خاصّ، يتصل بواقعة التفجير هذه، وهي أن أياً من أفراد الحلقة الأمنية العليا للنظام (بشار الأسد، رأس النظام المعلَن؛ العميد ماهر الأسد، الشقيق، والقائد الفعلي للحرس الجمهوري؛ العميد ذو الهمة شاليش، ابن عمّة الأسد، رئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة؛ العميد حافظ مخلوف، ابن خال الأسد، والضابط الأبرز في الفرع 251، الأقوى نفوذاً في جهاز المخابرات العامة بأسره؛ واللواء علي مملوك، المدير الرسمي للجهاز ذاته)، لم يُعلَن عن وجوده في الاجتماع. فإذا اتضح أنّ العميد مخلوف كان بين المصابين، كما تردد، فإنّ السيناريوهات تفضي إلى خلاصة طارئة تماماً على تراث "الحركة التصحيحية": أنّ اللهيب وصل إلى داخل المعمار، وإلى قلب التحالف العائلي الوراثي، الأسدي ـ المخلوفي.

ذلك لأنّ مقتل آصف شوكت، صهر العائلة ونائب وزير الدفاع، ليس ضربة تصيب ذلك التحالف مباشرة، بافتراض أنه قضى جرّاء هذا التفجير بالفعل، وليس بسبب عملية التسميم السابقة التي جرت أواخر أيار (مايو) الماضي، فأوقعته في موت سريري معلّق بترياق مضادّ للسمّ. وأياً كانت الحال، فإنّ شوكت لا يشغل موقعاً مقرِّراً داخل التحالف الأسدي ـ المخلوفي، بل كان على الدوام عنصر تنغيض يكدّر صفاء العائلتين، منذ أن نجح في إجبار الأسد الأب على قبول زواجه من ابنته الوحيدة، بشرى، رغم اعتراض الأمّ والأخوة.

لا نرجح أياً من نظريات المؤامرة الشائعة، ولكننا لا نستبعد لجوء النظام إلى السيناريوهات الأقذر، والأشدّ عنفاً ودموية، إذا توجّب أن تكون هذه هي منافذ النجاة الأخيرة، أو كوّة الضوء الوحيدة التي تُبقي النظام على مرأى من نهاية النفق. يحدث، مراراً، أنّ النار تأكل بعضها إذا أخذت في التآكل، وشهادات حسن سلوك شوكت في ناظر التحالف الأسدي ـ المخلوفي (وبينها، مثلاً، ما قيل عن بلائه الشديد في إدارة المعارك الهمجية ضدّ حيّ بابا عمرو الحمصي الشهيد)، قد تكون انقلبت إلى أوراق محاصصة في الإرث، له ولعقيلته ولأبنائهما، أحفاد "الحركة التصحيحية"! وفي كلّ حال، فإنّ غيابه عن إدارة أيّ من دوائر التوحش ضدّ الشعب السوري يظلّ خبراً يثلج قلوب أمهات الشهداء، والثكالى، والأيتام، والمغتصبات، والجرحى، وضحايا النظام أجمعين.  

أستعيد، كذلك، تقديراً شخصياً يخصّ ما يُسمّى "خلية إدارة الأزمة"، سبق أن أعربت عنه في مناسبة واقعة التسميم، وتعززه اليوم حقيقة غياب أي من أعضاء الحلقة الأمنية العليا عن الاجتماع الذي قيل إنه شهد عملية التفجير، وأسفر عن مقتل داود راجحة وحسن تركماني وشوكت نفسه. ذلك أنني لم أخفِ، ولا أخفي اليوم أيضاً، ارتيابي في أنّ "الخلية"، ضمن توصيفها الذي شاع على الأقلّ، كانت تعمل على نحو يجعلها "مديرة" للأزمة فعلياً، أو هي صاحبة قرار أعلى. التسليم بصفتها الخرافية هذه يرقى، في يقيني، إلى مستوى الإقرار بأنّ النظام "عقلاني"، و"ائتلافي" و"مؤسساتي"، في حين أنّ نظام "الحركة التصحيحية" لم يعمل وفق هذا المنطق في أي يوم، حسب قناعتي؛ وما كان ممكناً له أن يعمل استناداً إلى صيغة في الإدارة تجعل القائد الفرد الأوحد مجبراً على الرجوع، فما بالك بالخضوع، إلى اجتهادات هذا أو ذاك من "قيادات" النظام الأدنى مرتبة.

ولهذا فإنّ الجولات الفارقة، التي تشهدها أحياء دمشق منذ أيام، لا تصنع منعطفات كبرى في انقلاب الموازنات بين الشعب والنظام، على المستويات العسكرية وحدها؛ بل كذلك على المستويات السياسية داخل سورية (في صفوف ما نسمّيه "الأغلبية الصامتة" الدمشقية خصوصاً، وفئات التجّار الذين يظلّ الميدان مسقط رأسهم، ورمز روح الشام المقاوِمة الرافضة للذلّ والخنوع)؛ وخارج سورية (راقبوا، منذ الآن، زيادة حرج الموقف الروسي، وانحسار الخيارات الدبلوماسية). هي، كذلك، جولات فارقة على مستويات عسكرية وأمنية، إذْ صار النظام رهين المؤسسات العائلية الضيقة أكثر من أي وقت مضى، وصارت هوامش الأسد رهن أداء الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، حصرياً تقريباً.

واتكاءً على أبسط المبادىء في أيّ تشريح مدرسي لطبائع الاستبداد، فإنّ ذلك التطوّر ليس في صالح النظام، لأنه ببساطة سوف يحصر معظم خيوط "إدارة الأزمة" في يد ماهر الأسد، أكثر من بشار الأسد نفسه؛ وسيقلب التضخم الأمني والعسكري لصلاحيات الشقيق، إلى تورّم غير حميد يسرطن ما تبقى من أطراف النظام. حتى إذا كان ما تبقى أقرب إلى جثمان، منه إلى جسد!