وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 19 فبراير 2012

تمرْكُس الظواهري وتأسْلُم غيفارا!

سارع البعض إلى أخذ الانتفاضة السورية بجريرة أقوال أيمن الظواهري في التسجيل الأخير، الذي يعدّل مواقف التسجيل السابق (الاكتفاء بالتضامن، اللفظي الصرف، مع السوريين)، ويحثّ "أسود الشام" على المضيّ إلى الأمام، ويتباكى على "سورية الجريحة"، التي "تنزف يوماً بعد يوم، والجزار بن الجزار بشار بن حافظ لا يرتدع". ورغم أنه لم يعلن تطوّع مقاتلي "القاعدة" للقتال إلى جانب السوريين، فإنّ الظواهري حثّ كلّ مسلم في تركيا والعراق والأردن ولبنان أن "يهبّ لنصرة أخوانه في سورية بكلّ ما يملك، بنفسه وماله وقوله ورأيه ومعلوماته".

ورغم أنّ الكثير من وجوه المقارنة نافلة، لأسباب عديدة، فإنّ ثمة قاسماً مشتركاً يجمع الظواهري، في هذه المناشدة، مع الفرنسي برنار ـ هنري ليفي، الذي أعلن تأييده للانتفاضة السورية في أسابيعها الأولى، وحثّ على مساندتها، وكان عرّاباً لمؤتمر صاخب على سبيل تأييدها، عُقد في العاصمة الفرنسية باريس مطلع تموز (يوليو) الماضي. ذلك القاسم هو التالي، ببساطة: تأييد أمثالكم وللانتفاضة هو وبال عليها، وعلى سورية المستقبل التي ينتفض السوريون من أجل إرساء دعائمها؛ وهو يخدم النظام أوّلاً، قبل أن يخدم أغراضكم، ما خفي منها وما تكشف، ولا يقدّم للانتفاضة إلا الأذى والتشويش والسمعة السيئة!

البعض، ممّن تلقف تسجيل الظواهري وكأنه ضبط الانتفاضة بالجرم المشهود، هرول دون إبطاء إلى اعتبار الموقف الجديد بمثابة دليل قاطع على ما هو أبعد بكثير من مجرّد احتمال تسلل "القاعدة" إلى صفوف المتظاهرين، أو مسؤولية عناصرها عن التفجيرات الإرهابية في دمشق وحلب، أو حتى "أقلَمة" الوضع السوري على المستوى "الجهادي" الأوسع نطاقاً. لم يكن هذا كلّه كافياً، إذْ توجّب الاتكاء على شريط الظواهري، بوصفه "خميرة" إعجازية تتيح طبخ كلّ المواصفات الرجيمة التي تُستخدم من اجل التشكيك في الحراك الشعبي العارم، وتفريغه من محتواه الوطني والديمقراطي والتعددي، وتأثيمه مباشرة أو مواربة. وهكذا، وجد هؤلاء ضالتهم في بلاغة الظواهري، المكرورة المستهلَكة الجوفاء، تماماً كما وجدوها قبلئذ في "فرّامة" عدنان العرعور ومقصّه المخصص للألسن، فرفعوا العقيرة بشكوى ـ ليست أقلّ اهتراء وركاكة، في المفردة كما في المعنى ـ من أن الانتفاضة تنزلق نحو العسكرة، والتسلّح، والطائفية، والعنف...

المحزن، إذا جاز انتهاج هذه الحال االشعورية، أنّ الطبخ ذاك لم تشهده مطابخ النظام المختصة، والمطابخ الأخرى التي يتولاها حلفاء النظام في صفوف "ممانعي" العرب والعجم، فحسب؛ بل انتقلت (على طريقة النسخ والقصّ واللصق المجرّد، أحياناً!) إلى صفوف بعض "المعارضين" السوريين، ولا سيما أولئك الذين لم يتحرّروا تماماً من أسئلة التشكيك التي تكاثرت كالفطر في قلوبهم منذ انطلاق الانتفاضة، ولم يعلنوا على الألسنة إلا القليل القليل منها. وتلك لم تكن أسئلة نقدية في أي حال، لأنّ الحراك الشعبي كان ويظلّ بحاجة إلى الكثير منها، بل كانت أقرب إلى مسرد مظانّ كابوسية، حول مخاطر عنف أهلي وطائفي وعسكري، لا سبيل إلى تهدئته إلا... بتهدئة الحراك ذاته، وبالحوار مع النظام، حتى في ظلّ الدبابة وراجمة الصواريخ والمدفعية الثقيلة وتعويم أرقام القتل اليومي.

مدهش، كذلك، أنّ هؤلاء ـ ومعظمهم ينتمون إلى اليسار، وسبق أن اعتُقلوا على ذمّة تنظيمات ماركسية ـ يلتقون، في هذا الربط الميكانيكي بين تسجيل الظواهري والعنف الأهلي، مع خلاصات تصدر عن جهات يندر أن تنتهج أدوات التحليل الماركسية، أو لا يُعرف عنها اعتماد مقاربة رصينة تنظر إلى الظواهر في روابطها الجدلية العميقة، ولا تكتفي بتلقف ظاهر أقوال الظواهري. الأمريكية جيسيكا ستيرن، صاحبة كتاب "إرهاب باسم الله"، والموظفة السابقة في مجلس الأمن القومي الأمريكي (قسم أوكرانيا، بالمناسبة!)، نشرت مقالاً بعنوان "تفسير الإدمان على الجهاد"، تقيم فيه الصلة التالية بين "القاعدة"، والعنف، والمفكر والمناضل المارتينيكي فرانز فانون: "انتبه الظواهري إلى أنّ النظام العالمي الجديد مصدر إذلال للمسلمين. وجادل بأنّ من الخير لشباب الإسلام ان يحملوا السلاح ويدافعوا عن دينهم بفخار وكرامة، من أن يخضعوا للمهانة. العنف، في كلمات أخرى، يردّ الكرامة للشبيبة المهانة. وهذا شبيه بفكرة فرانز فانون عن العنف بوصفه قوّة تطهيرية تحرّر الشباب المقهور من عقدة النقص، واليأس، والعجز عن الفعل".

هذه طبخة هجينة عجيبة، خبيثة عن سابق قصد، تخلط بين تفكير الستينيات (توفي فانون سنة 1961، حيث لم يكن فجر العولمة قد بزغ تماماً بعد)، وتفكير هذه الأيام؛ وبين مفهوم "الجهاد" الراهن، ومفهوم "العنف" الستيني بدوره، والذي كان مصطلحاً سياسياً له مدلول الكفاح المسلح ضدّ الاستعمار والإمبريالية وأنظمة الاستبداد والتبعية، وليس الإرهاب أبداً (وإلا لتوجّب أسْلَمة الثوري الكبير أرنستو تشي غيفارا، وتصنيفه على رأس الجهاديين الإسلاميين!). وإزاء الطبخة هذه، التي يتناوب على تنويع وصفاتها النظام وبعض فصائل "المعارضة"، يظلّ السؤال الأبسط، والأجدى، هو التالي: لماذا تأخر الظواهري أحد عشر شهراً، قبل أن يتحف السوريين بتأييده لانتفاضتهم ضدّ نظام الاستبداد والفساد والحكم العائلي الوراثي  السورية؟

واستطراداً، أيهما أصحّ، يا جهابذة التحليل المادّي ـ التاريخي، القول إنّ الظواهري تطفّل على الانتفاضة، أم أنّ الانتفاضة هي التي التحقت به؟