وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 24 سبتمبر 2012

"الربيع العربي" ودموع التماسيح


من جانب أوّل، يراهم المرء يرفعون راية حقّ (صيانة حرّية التعبير، حتى إذا استثارت الحساسيات الدينية)، ولا يشيرون إلى ما يمكن أن تنطوي عليه الراية ذاتها من باطل (التعبير الحرّ، ولكن على نحو رخيص، وعن سابق تصميم، يكفل استفزاز الغلاة). ومن جانب ثانٍ، إذا فشل مقدار كبير من أهداف المخطط (لأنه كذلك في الواقع، أياً كانت المعاني البريئة أو الخبيثة وراء التخطيط)، فإنهم يجنحون إلى الاختزال الفاضح، والنسبية المبتذلة؛ فيعتبرون، مثلاً، أنّ واقعة هجوم 500 سلفي متطرف على القنصلية الأمريكية في بنغازي هي المقياس والمعيار والمرجعية، ولا تُقارَن، ولا تُحال إلى نقيض، خروج 5000 متظاهر ليبي ضدّ أولئك السلفيين أنفسهم، استنكاراً  لما ارتكبوه من أعمال عنف. كلّ هذا في بلد هو الأوّل الذي شهد، ضمن ما جرى من انتخابات في بلدان "الربيع العربي"، تفوّق قوى غير إسلامية.

وهؤلاء، أهل الكيل بعشرات المكاييل، هم أنفسهم نفر المراقبين ـ والمحللين والأخصائيين والمستشارين... أو فقهاء علوم الشرق الأوسط، باختصار ـ الذين رحبوا بـ"هبوب رياح الديمقراطية" على المنطقة، واستسهلوا تسمية ربيع (جاء في أواخر الحريف، مطلع الشتاء عملياً!) مستمدّ من بطون رطانة اصطلاحية غربية لا تعبأ باختلاط حابل بنابل. ولهذا، ما أن أسفرت أولى العمليات الانتخابية عن تقدّم الإسلاميين في صناديق الاقتراع، في تونس ومصر (ولكن في المغرب أيضاً، قبل أن تبشّر أية سنونوة بدنوّ الربيع!)، حتى وجدهم المرء يطرحون السؤال: أهذا هو "الربيع العربي"؟ في عبارة أخرى، لا يرجحها الظنّ وحده: أهذا هو "ربيعنا" الذي صفقنا له، نحن، أهل الغرب؟ وأمّا حين وقع الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي (ولم يقع أي هجوم على مكاتب أسبوعية "شارلي إيبدو" الفرنسية!)، فإنّ السؤال انقلب إلى جزم، أقرب إلى القرار: كلا، ليس هذا هو "الربيع العربي"!

وراهنوا أنّ الأسئلة لن تُطرح بهذه الشفافية (وتلك فضيلة، لغوية على الأقلّ!)، بل ستُلوى وتُحوّر وتُشوّه، بما يقوّي حجة القائلين بأنّ الربيع انقلب إلى شتاء أو خريف؛ ولكن، أيضاً وعلى نحو أخبث: لكي تُجرّد انتفاضات العرب من أغراضها الشعبية الكبرى، في الكرامة والحرية والمساواة، وتُسحب إلى حيثيات أخرى ترفع، هنا أيضاً، راية حقّ لا يُراد منها إلا الباطل. توماس فريدمان، المعلّق الشهير في "نيويورك تايمز" كتب مقالة بعنوان "الربيع العربي الآخر"، بدأها بافتراض تحريفي رديء (أنّ البوعزيزي أحرق نفسه، في تونس، وسط مناخات ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالمياً؛ وأنّ الفلاحين، في درعا السورية، ثاروا على النظام بسبب منعهم من بيع أراضيهم المحاذية للحدود مع الأردن)؛ واختتمها بتحذير أشدّ عجباً، ورداءة: الخطر الأكبر، الذي يتهدد البشرية، هو... التصحّر البيئي!

وفي فرنسا، بمزيج من السخرية والاستهجان، يهتف أوليفييه روا، أحد كبار الأخصائيين في شؤون الإسلام والشرق الأوسط: "ما الذي دهاكم! هل نبدأ من جديد؟ صدام الحضارات، وسخط المسلمين، والعالم المسلم الذي يلتهب، وعجز الإسلام عن قبول الروح النقدية وحرّية التفكير"... والرجل، الذي استهلّ "الربيع العربي" بتوبيخ زاعمي معرفة الإسلام والمسلمين، بمقالة شهيرة لاذعة عنوانها "ليست ثورة إسلامية"؛ يناشد الناس أن لا يجرّموا "الربيع العربي" اتكاء على أعمال العنف التي أعقبت الفيلم المسيء، وحدها: صحيح أنها لم تلجأ إلى هذا المستوى من العنف، ولكن ألم تتظاهر جماهير مسيحية في الغرب، وعلى نحو عنيف أحياناً، ضدّ "الإغواء الأخير للمسيح"، شريط مارتن سكورسيزي، سنة 1988، يسأل روا؟ ألم تضغط الكنيسة الكاثوليكية، وإنْ بطرائق أقلّ صخباً وأكثر فاعلية، ضدّ ملصقات "نزهة الجلجلة"، شريط رودريغو غارسيا، سنة 2011، يسأل روا ثانية؟ 

فإذا انتقل المرء إلى الساسة، وأهل الصفّ الأوّل بينهم، جدير بالتذكّر أنّ بين كبريات فضائل برقيات "ويكيليكس" كانت الكشف عن سلسلة تقارير وبرقيات وتقديرات تخصّ تلك الخديعة الكبرى، التي انخرط فيها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، وكبار مساعديه، وبعض رجالات الصفّ الأوّل من "المحافظين الجدد"؛ والتي سُمّيت "نقل فيروس الديمقراطية إلى العرب"، من خلال احتلال العراق، وإقامة نظام ديمقراطي غير مسبوق، ثمّ تصديره إلى الجوار بطريق الإغواء أو القسر أو العدوى. خَلَفه، باراك أوباما، تابع نهج سلفه، ولكنه أضاف إليه "مسحة أسلوبية" شخصية، هي مداهنة المسلمين (في خطبتَيه أمام البرلمان التركي ومن جامعة القاهرة)، في العلن؛ والإمعان أكثر فأكثر في تخريب العلاقات مع العالم المسلم من خلال سياسات الانحياز المطلق لإسرائيل، ومراقصة الطغاة، وتعليق الأمل على نواياهم "الإصلاحية" حتى ربع الساعة الأخير قبيل سقوطهم (المر يتذكّر مدائح هيلاري كلنتون، لأمثال زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح، وحتى بشار الأسد نفسه).

وإلى مواقف المعلّق والمراقب والسياسي، حيث انطلقت مواسم الوقوف على أطلال "الربيع العربي" وذرف دموع التماسيح، ثمة ذلك النصح البارد الذي أتى من برنارد لويس، "بطريرك الاستشراق" بلا منازع: الكثير ممّن نسمّيهم "أصدقاء أمريكا" في المنطقة هم "ثلّة فاسدين"، ولكنهم "خير لنا من الراديكاليين الإسلاميين". بالتأكيد، شريطة أن يستطيع الغرب إحياءهم من رميم، أو انتشالهم من هوّة السقوط الأكيد!