وعزّ الشرق أوّله دمشق

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

أغاممنون الأسد

من إنتاج الشركة البريطانية "رفيوج"، شهدت العاصمة الأردنية، عمّان، عرضاً مسرحياً بعنوان "نساء طروادة"، نفّذه فريق عمل سوري تألف من ماري إلياس(التي قدّمت ترجمة جديدة لنصّ يوربيديس الكلاسيكي)، عمر أبو سعدة (المخرج، الذي يُعرف له تعاون مميّز في المسرح التفاعلي، مع عدنان عودة ومحمد العطار في "المردود والمكحلة"، 2006)، و48 لاجئة سورية يصعدن للمرّة الأولى على خشبة مسرح (تولت تدريبهن الممثلة ناندا محمد)، وعُهد بالسينوغرافيا إلى بيسان الشريف. ردود الفعل على العرض، كما عكستها التقارير والتغطيات الصحفية، تفاوتت بين الترحيب والرفض، لاعتبارات فنّية تخصّ المسرح والنصّ في المقام الأوّل؛ وأخرى سياسية وأخلاقية تنبثق من إشكاليات الاقتباس، والتطابق أو التنافر، بين المعطيات الإغريقية والمأساة السورية.

ولأني لم أشاهد المسرحية، وقراءة الكتابات التي تناولتها، أو مشاهدة بعض أشرطة الفيديو التي عرضت مشاهد من أطوار عمل الفريق، لا تكفي لإطلاق أيّ طراز من أحكام القيمة؛ فإنّ هذه السطور لن تكون، بالطبع، طرفاً في السجال النقدي حول العمل. الأمر الذي لا يلغي الحقّ، المبدئي، في التعليق على الفكرة الطروادية ذاتها، بصفة مستقلة؛ والترحيب، استطراداً، بمبادرة فنّية وثقافية وتربوية، قد تنطوي أيضاً على العنصر النفسي والعلاجي الذي يمكن أن يوفّره العرض للاجئين السوريين في الأردن (الذين سُمح لهم بحضور العرض مجاناً)، فضلاً عن المردود المادّي الذي سيُخصص لتحسين شروط لجوئهم (حسب وكالة أنباء "رويترز"، حقّقت المسرحية، في يومين، مبلغ 100 ألف دولار أمريكي).

أعود إلى طروادة، إذاً، لأشير إلى أنّ وقائع حصار هذه المدينة، ثمّ سقوطها وتدميرها بعدئذ، صنعت الحكاية غير الدينية الأكثر سرداً وتناقلاً وإلهاماً واستلهاماً على مدى التاريخ. ولقد توفّرت، في كلّ الأحقاب الرئيسية من عمر البشرية، هذه الحزمة أو تلك من الشروط التي تشجّع على استعادة الحكاية وتوظيفها بما يخدم سلسلة من الوظائف الإيديولوجية والأخلاقية والسياسية والتعبوية والمعنوية والثقافية. وإذا كان من غير المدهش أن تتحوّل أمثولة طروادة إلى مصدر للاقتداء والتماهي عند الشعوب والجماعات المقهورة، أو تلك التي تعيش مأزق هوية من أيّ نوع، أو تبحث عن أصل تليد أفضل ممّا تنتسب إليه فعلياً؛ فإنّ من غير المدهش، على قدم المساواة، أن يكون القاهر نفسه محتاجاً، بدوره، إلى الأمثولة ذاتها!

لقد سقطت طروادة على أيدي الإغريق، الذين كانوا المجموعة الأقوى شوكة في تلك الأحقاب؛ ثمّ فرّ الأحياء من أبناء طروادة إلى إيطاليا، بعد أن مرّوا بمملكة قرطاجة وعاثوا فيها فساداً، لتأسيس الإمبراطورية الرومانية التي لن تغرب عنها الشمس، بحيث انقلب المقهور إلى قاهر (كما تروي ملحمة فرجيل "الإنيادة").
وعلى مرّ العصور احتاجت الزعامات الإمبريالية إلى ملاحم من طراز الحروب الطروادية. وحين وطأ الإسكندر المقدوني سهل طروادة الذي شهد سفك دماء الآلاف، كانت أوّل خاطرة تعبر ذهنه هي التالية: من أين لي بهوميروس جديد يفعل معي ما فعل ذلك الشاعر الأعمى مع آخيل! وفي مسرحية شكسبير الشهيرة، لكي يقدّم هاملت العرض المسرحي الأكثر تأثيراً في النفوس، يطلب من الممثلين أداء ذلك الجزء من "الإنيادة"، حين يروي إينياس لملكة قرطاج، ديدو (إليسا، عليسا، أليسار...)، وقائع خراب مدينته طروادة واجتياحها وتدميرها.

وفي سنة 2004، حين شهدت صالات العالم عروض فيلم "طروادة"، أحدث اقتباس هوليودي للملحمة الطروادية وأكثرها كلفة (175 مليون دولار) وفخامة وسطحية؛ لم تكن المصادفة الزمنية هي وحدها التي جعلت الكثيرين  يربطون بين الملك الإغريقي أغاممنون كما يظهر في في شريط ولفغانغ بيترسن، ووزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد كما يظهر في أشرطة البنتاغون! وفي قلب مهرجان كان الفرنسي، اعتبر النجم براد بيت، الذي يؤدي دور آخيل في الشريط، أنّ هذه الحكاية التي تروي التعطش للدماء، وحصار الشعوب، وشهوة السلطة، وجشع الملوك؛ لا يمكن إلا أن تتوازى، مباشرة وبوضوح، مع ما يفعله زعماء أمريكا وبريطانيا في العراق.

وذات يوم، في برهة حاسمة من تاريخه الشخصي الوطني والجمالي، حين كان مكتبه في رام الله محاصراً من دبابات أرييل شارون، قال محمود درويش: "خياري أن أكون شاعراً طروادياً. أنا منحاز تماماً إلى الخاسرين، الخاسرين المحرومين من حقّ تسجيل خسارتهم". وأيضاً: "أنا فعلاً منحاز إلى طروادة لأنها الضحية، ولأنّ تربيتي وتكويني النفسي وتجربتي هي تجربة الضحية. وصراعي مع الآخر محوره: مَن منّا هو الأحقّ بموقع الضحية؟". كذلك، أخيراً: "أختار أن أكون طروادياً. أختار أن أكون شاعر طروادة، لأنّ طروادة لم ترو قصتها. نحن حتى الآن لم نرو قصتنا رغم كل الكتابات التي كتبناها. وهذا ما يفسّر مقطعاً قلت فيه إن من يكتب حكايته يرث أرض الكلام".

لا يُلام السوريون، إذاً، حين يلتمسون في التاريخ الطروادي قبسة ارتقاء بالحسّ التراجيدي، الإنساني الكوني؛ أو حين يبدو الغزو الخارجي في طروادة وكأنه طبعة معاصرة من الاحتلالات العسكرية والأمنية والمذهبية الداخلية في سورية، فيتماهى أغاممنون مع بشار الأسد؛ أو حين يتنبه السوريون، الآن وليس غداً، على نقيض ممّا فعل الطرواديون، إلى الأخطار المحدقة التي تحملها أحصنة كثيرة مطهمة، دخلت إلى قلب الانتفاضة، أو تتزاحم على البوابات!