وعزّ الشرق أوّله دمشق

السبت، 6 أغسطس 2011

حوار مع صبحي حديدي ـ فصلية "نزوى" العُمانية


صبحي حديدي:

النقد رديف للإبداع، وليس إبداعا في ذاته 

لا أدخل نفسي فـي معركة فاشلة مع نص رديء
 

حاورته: هدى الجهوري


أتاحت زيارة الناقد والباحث والمترجم السوري صبحي حديدي لمكتب الشاعر سيف الرحبي فرصة لإجراء حوار يسبر أغوار تجربته، منذ خروجه من القامشلي إلى فرنسا، من علاقته بالشعر إلى تحوله للنقد، من صداقته بمحمود درويش، واعترافه بانتهاء أدونيس كشاعر، من الترجمة إلى الأسباب التي جعلت رواية من مثل عمارة يعقوبيان تحدث ضجيجا رغم كونها متواضعة، من رفضه للبوكر العربية إلى خوضه تجربة تحكيم جائزة العويس، من دفاعه عن قصيدة النثر، واعترافه أنها مسقوفة، وبحاجة إلى مخارج جديدة، من تبرئته للنقد من أن يكون سببا لتأخر عجلة الإبداع، إلى اعترافه أن النقد رديف للإبداع وليس إبداعا.
ولد صبحي حديدي في القامشلي، عام 1951. تخرّج من جامعة دمشق – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، وتابع دراساته في فرنسا وبريطانيا. نشر العديد من الأبحاث النقدية والترجمات في دوريات عربية وأجنبية مختلفة، وقدّم دراسات معمّقة في التعريف بالنظرية الأدبية والمدارس النقدية المعاصرة. نقل إلى اللغة العربية العديد من الأعمال في الفلسفة والرواية والشعر والنظرية النقدية. يقيم في باريس، ويكتب بصفة دورية في صحيفة «القدس العربي».

vv لنبدأ من منطقة القامشلي في سورية..المدينة التي ولدت وتربيت فيها.. بالتأكيد هنالك حكايات ومصادفات ساهمت في تكوين وعيك. ماذا يخطر في ذهنك بمجرد أن أذكر لك القامشلي؟
- لا يغادر ذهني البتة ذلك النسيج التعددي المذهل الذي تتميز به مدينة القامشلي. نسيج لغوي وثقافي متنوع، لكونها تضم كرداً وآشورين وسريان وأرمن بالإضافة إلى العرب طبعا. يفد إليها الذين يعملون في الحصاد في فترة الصيف، وبالتالي يحدث فيها شكل من أشكال الاختلاط.
 صفة التعددية الثقافية هي الميزة التي كانت تميز القامشلي، وقد أتاحت لي هذه الميزة في فترة مبكرة من عمري فرصة لأن أربي نفسي على التعددية الثقافية، فأنا مثلا أتكلم الكردية بالرغم من أني لست كرديا، وأجيد قليلا اللغة السريانية والأرمنية، وأفهم بعضا من اللغة الآشورية، وكل هذا جراء الاحتكاك بالآخر.
 في القامشلي جمعتني صداقة كبيرة بالشاعر سليم بركات حيث كنّا أبناء مدرسة واحدة، وجيل واحد، وبدأنا الكتابة معا. ولا أكتمك سرا بدأت بكتابة الشعر قبل كتابة النقد. ثم توقفت لأني اكتشفت أنه ليس ميداني، وأن عقلي يميل إلى الجانب التحليلي أكثر.
 القامشلي بالنسبة لي هي هذه الحالة من التعددية الخصبة، وقد تعلمت منها جماليا وذوقيا وبصريا، ولكن للأسف اندثر الآن هذا كله.

vv إدوارد سعيد قال: «المنفى حقل كريم»، وأنت تردد دائما هذه العبارة التي تخصه، فهل تخلصت من ضغط الهوية والانتماء، أم أن هذا الكلام وسيلة للتحايل على المنافي التي نحن أصلا لا نختارها؟
- لكي أصدقك القول أنا لم أبلغ المرحلة التي وصل إليها إدوارد سعيد، حين اعتبر المنفى حقلا كريما.
 أجريت حوارا مطولا مع إدوارد سعيد عام 1995، وبعد انتهائي من الاشتغال على المادة طلب مني أن يكون هذا العنوان هو عنوان الحوار «المنفى حقل كريم». بلغ سعيد هذه المرحلة في تصاعد إحساسه بالغربة والتشرذم.
 أنا لا أتحايل على المنفى، ولكني أحاول استثمار الحس بالتعددية للتفاعل مع الآخر، والتثاقف معه على مستوى الهوية، وليس على مستوى الذائقة والعقل والوعي.
 بالفعل المنفى لم يكن اختياريا، لعلي أجبرت عليه لأسباب سياسية محضة، ولكن عذاباتي لم تكن تخص المنفى، وإنما تخص ما ألم بي جراء الابتعاد عن الوطن، لأني كنت ومازلت مسيسا، واعتبر أن الابتعاد عن الوطن جعلني أخسر الحس بالمشاركة، ربما بهذا المعنى لم يكن المنفى حقلا كريما، رغم أني اعترف أن المنفى في ذاته لم يكن بخيلا عليّ.
لكن اعتقد أن المرحلة التي بلغها إدوارد سعيد عندما قال هذه العبارة، ليست مرحلة يمكن أن يبلغها أي أحد كائنا من كان.
 بالمقابل أنا مضطر لأن أتعايش مع هذه الحالة، وما يساعدني على ذلك أن خياراتي مع الوقت بدأت تتضح أكثر من قبل. تمكنتُ من ترويض نفسي لتحويل العذابات وتوظيفها إيجابيا، من دون أن اضطر إلى مسخ نفسي لكي أتشبه بالآخرين.
 أنا الآن أسير في باريس كالغريب، وهذا ليس إحساسا ضارا بي. فأنا مدين لباريس سواء على مستوى اللجوء الإنساني، وعلى مستوى اللجوء الفكري بالإضافة إلى التربية والتعلم والذائقة، ولكن فعلا أشعر بضرورة التأقلم بالمعنى الإيجابي، بدلا من لعق الجراح في المنفى.

vv كيف استطاع المنفى تدريبك على فهمٍ أعلى للعائلة والبلاد؟
- أظننني تعلمتُ التعامل مع أسرتي بطريقة أفضل، بمعنى أني أصبحت أقل حدة وأقل شرقية، وأنا لم أكن كذلك تماما. كنتُ ديموقراطيا مع الأهل والأصدقاء، ولكن ليس بالدرجة الكافية.
 اعترف أني ربيت ذاتي على طرائق أرقى في التعامل مع الآخرين، وهذا ليس بالمعنى السلوكي فقط، وإنما بالمعنى الثقافي أيضا والإنساني.
 علاقتي بالآخر أيا كان، تأثرت كثيرا بإقامتي في الغرب نتيجة احتكاكي بسلوكيات جديدة. ولكني أيضا بذلتُ جهدا في الغرب لمقاومة سلوكيات شائهة، فالغرب يُقدم هو الآخر صفقة سلوكيات متكاملة، والمشكلة تبقى في أن نختار حزمة السلوكيات الملائمة لنا.
 أظن أني لو بقيت في القامشلي لما كنت استطعت التعامل مع ابنتي بالطريقة التي أتعامل بها الآن، وأنا موجود باريس.
وبالنسبة للبلاد فلم تعد سورية أو الوطن العربي بالنسبة لي كما كان. أنا انتمي لقضايا سورية وقضايا الوطن العربي تهمني أيضا، وأعيش عليها بشكل يومي، ولكن نظرتي توسعت وصرت أرى في سورية حالة تعددية أو مشروع حالة تعددية أكبر مما هي عليه الآن، كأنها صيغة أمل مرتجى.
 في الماضي كنت أتعصب لمسألة الانحياز للبلاد، وكفى بذلك فضيلة. الآن أرى المسألة في إطار أعرض من ذلك بكثير، وأكثر تسامحا.

vv ألا تجهض حق النقد والترجمة عندما تقول أنهما فعل معرفي وليس فعلا إبداعيا، بالرغم من توفر نظريات أخرى تقول بأن النقد هو نص مواز للنص المكتوب؟
- أظن أن النقد الأدبي يقوم بوظيفة أساسية، ولكن قد يتولد من قيام النقد بوظيفته وظيفة أخرى أكثر حيوية، وإن نجح في أن يقوم النقد بالوظيفتين فذلك منتهى الإنجاز بالنسبة له. الوظيفة الأولى هي أن يقترح النقد على القارئ قراءة أخرى تضاف إلى عشرات ومئات القراءات التي قد تبلغ عدد نسخ الكتاب الصادر على سبيل المثال، وينبغي أن تتصف هذه القراءة بأن تكون مسلحة بمنهجية عالية، وتقترح على القارئ قراءة قد تقنع القارئ بأنها أفضل من قراءته الشخصية، وبالتالي ينصف النقد العمل الفني أكثر مما أتيح للقارئ أن ينصف العمل.
خلال هذه السيرورة قد تتيح هذه القراءة النقدية المدربة والمسلحة إمكانية العثور على نظرية نقدية بالمصادفة أو بالقصد مستمدة من العمل نفسه، ومن ثم تتحول إلى أداة تخدم الأعمال الأخرى أي تصبح نظرية صالحة للاستخدام مع أعمال أخرى.
عندما علًق تي إس إليوت على شخصية هاملت في مسرحية شكسبير تحدث عن البديل الموضوعي، ومن ثم تبين له وللآخرين أنّ نظرية المعادل الموضوعي تصلح كنظرية نقدية للكثير من الأعمال التي تتقاطع خطوطها العريضة مع المحتوى الذي قيلت فيه النظرية.
وبالعودة إلى سؤالك حول النقد كونه عملية ابداعية، فأنا لا أظن ذلك. فالنقد يصبح إبداعا بالنسبة لي عندما يكتب الناقد بلغة مجازية، وعندما يمزج عامدا بين الجانبين الإبداعي والتحليلي كما يفعل الناقد عبد الكبير الخطيبي على سبيل المثال، وكما كان يفعل رولان بارت في بعض الأحيان وليس دائما. بالمقابل لدى رولان بارت دراسات أخرى جافة ودقيقة.
الدراسات التي تمزج التحليل بالأسلوب الأدبي لا اسميها إبداعا، وإنما نزوع نحو الإبداع أو تحرش بالإبداع، وأؤكد دائما الناقد يأتي خلف الإبداع، والنقد رديف للإبداع في أفضل الأحوال، ولكن لا يمكن أن يكون إبداعا في ذاته، كما أن الترجمة ليست إبداعا إلا بمعنى نقل الإبداع من لغة إلى أخرى، فهي كالجسر الموصل بين لغتين.

vv ألا تظن أن المترجم الجيد عندما يقدم نصا مدهشا ومغريا بالقراءة هو مبدع مقارنة بمترجم يُسيء إلى النص الأصلي؟
- لا أسمي هذا إبداعا، وإنما أسلوبيات. كأن نقول أسلوب فلان في ترجمة سونيتات شكسبير أفضل من مترجم آخر. الآن لدينا أيضا على سبيل المثال ترجمات كثيرة لقصيدة «أرض اليباب»، نختلف في تقييم إحداها عن الأخرى، ولكن هذا لا يدعونا لأن نقول ترجمة فلان أكثر إبداعا. لأن الإبداع يكون في ذاته.

vv النقاد الجيدون هم: إمّا كتاب شعر فاشلون أو كتاب نثر فاشلون، وبما أنك ناقد جيد فهل يعني ذلك أنك كاتب فاشل؟
- (يضحك). لا أدري إن كنتُ ناقدا جيدا حقا، ولكن أتمنى أن أكون دارس أدب جيداً.
عندما أشيعت هذه المقولة في وقتها كانت كلمة الفشل في سياق آخر، غير الذي نفهمه اليوم. برأيي الشخصي لا يمكن لأي مشتغل في حقل الإبداع سواء أكان في المسرح أو في السينما أو الرواية أو فن التشكيل أو في التصوير الفوتوغرافي أو غيرها أن يمر بالإبداع من دون أن يمر بالشعر سواء نشر ذلك الشعر أم لم ينشره، لأن الشعر هو محطة إنسانية لا مفر منها، وربما من حسن حظ الناقد أن يكون قد بدأ بكتابة الشعر، لأن ذائقته بذلك تكون قد تدربت قليلا على تحسس مشاق ولادة النصوص، وتعرف على كنوز خصائص الجمال المكتنزة في النصوص.
على نحو ما أنا أفضل أن يكون ناقد الشعر قد بدأ شاعرا- مع أن هذا ليس مقياسا- بالمقابل أفضل الناقد المختص بالرواية أن يكون قد بدأ ساردا.
المقولة طريفة، وهي شكل من أشكال تسطيح الناقد، وأرى ضرورة أن يٌعاد الناقد إلى وضعه الطبيعي. فالناس تلوم الناقد عندما لا يُقرأ الشعر، يلام الناقد عندما لا يُلتفت إلى الروايات، أو عندما لا يُفهم الأدب جيدا. بينما الناقد ليس هو الشماعة التي تعلق عليه جميع الأخطاء. وهنا أكرر النقد يأتي خلف الإبداع، وإذا تباطأ النقد فالمشكلة في الإبداع وليس في النقد.

vv دعنا نقترب منك أكثر، لنعرف ماذا كتبت قبل الاتجاه ناحية النقد؟
- حسنا.. نشرتُ الشعر في مرحلة ما قبل الثانوية، كانت مرحلة مبكرة جدا، أذكر أن ذلك كان في عام 1968، وتابعتُ النشر إلى عام 1973 ثم توقفت. كنت أكتب شعر التفعيلة. المشكلة التي دفعتني لأن أتوقف عن كتابة الشعر هو ميلي إلى تحليل قصائدي وأنا أكتبها، وهذا في ظني يقتل عفوية الشعر. أدركتُ فعلا أن مزاجي في التعبير مزاج تحليلي.
 بدأتُ حياتي النقدية منحازا إلى الرواية ومن ثم اتجهت إلى الشعر، وعلى الأرجح أني لم أكن موهوبا في كتابة الشعر، وإلا لكنت أكتب الشعر إلى اليوم.

vv لماذا تستنكر على الناقد والمثقف عدم ممارسة للترجمة، ماذا تضيف الترجمة لكليهما؟
- بالفعل أنا أستنكر على الناقد أو الباحث الذي يملك اللغة الأجنبية أن لا يمارس مسؤولية الترجمة، وهي حقل في منتهى الخطورة. صدر لي ثمانية كتب مترجمة، بينما أتردد في إصدار كتاب نقدي واحد، مع أني كتبتُ الكثير في النقد، وذلك لسبب بسيط هو أني أشعر بالمسؤولية تجاه الترجمة، بينما النقد يمكن ممارسته عبر الدراسات المتفرقة.
ما يحصل أني عندما اقرأ رواية أو دراسة، وأشعر أنها أفادتني كثيرا، أتمنى أن تفيد الآخرين أيضا من أبناء لغتي، وإذا توانيت عن الترجمة، أشعر أني ارتكبت مخالفة كبيرة، لكي لا أقول إنها جريمة.

vv كيف ترى المشهد النقدي اليوم بعد إحسان عباس وشوقي ضيف، و«لماذا لم يعد النقد اليوم بحاجة إلى جهد جماعي» كما قلت؟
- النقاد النجوم الذين ذكرتهم في سؤالك، لعبوا دورا معرفيا حيويا وثمينا جدا، وكان المرء يركن إلى أعمالهم ويثق بها مسبقا. لكن الحياة اليوم تعقدت، والكتابة تعقدت، وبالتالي النظرية الأدبية تعقدت. لم يعد من اليسير في ظني ولادة ناقد نجم نستطيع الارتكان إلى ذائقته وأدواته النقدية.
ليس بسبب أن الأرحام عجزت عن ولادة ناقد، بل لأننا صرنا بحاجة إلى جهد جماعي يوالف بين الكثير من النظريات والمناهج، ويحاول أن يجد بينها صيغة تعددية، وبالتالي فإن أفضل إنجازات النقد العربي لن تتحقق إلا بصورة جماعية، وليس بصورة أفراد، وهذا لا يُلغي طبعا وجود عدد من الأفراد من النقاد اللامعين. ولكن ما أعنيه: أنّ ما أنجزه النقاد في الخمسينيات والستينيات أصبح متعذرا الآن لأسباب تخص الحياة أكثر مما تخص النقاد.

vv قلت يوجد نقاد أفراد كثر..فمن يمكنك أن تسمي منهم؟
-         اطلبي مني الحقل الذي تريدين، وسوف أجيبك.
-          
vv سأسمي لك أربعة أسماء، وسأطلب رأيك فيها؟ فيصل درّاج، محمد لطفي اليوسفي، عبد الفتاح كليطو، جابر عصفور.
- فيصل درّاج: ناقد في الرواية متمكن، دؤوب ومخلص في منهجيته في تحليل الرواية، وهو رجل جدير بالإعجاب، وجدير بالاختلاف أيضا. محمد لطفي اليوسفي: أحد أمكر قراء القصيدة العربية المعاصرة (والمكر هنا صيغة مدح)، وهو يتسم بمنهجية متعددة تمزج بين معطيات النقد الفرنسي، وبين ومعطيات النقد العربي. عبد الفتاح كليطو: ناقد مبدع على غرار الناقد المبدع عبد الكبير الخطيبي، كليطو لا يكتب نقدا بقدر ما يتأمل ويراقص التعبير، ويراوغ النص الذي يدرسه لغويا، وأظنه كاتب مقالات إبداعية أكثر منه ناقد، (وهذا ليس قدحا) ولكنه من النقاد الذين لديهم إبداع في كتابتهم النقدية.
جابر عصفور: أكاديمي مستنير ودؤوب، ولعله من أفضل النقاد المصريين الذين انفتحوا على آداب المشرق وآداب الخليج العربي وبالتالي ثقافته موسوعية، وهو صاحب موقف نقدي وأركز مرة أخرى أنه أحد كبار المستنيرين في العالم العربي المعاصر.

vv أنت ترى أنّ الكتابة عن كتاب جديد في صحيفة، أكثر حيوية للقارئ من تأليف مجلد ضخم، ونعلم أنه لديك الكثير من المقالات المتفرقة التي لم يضمها كتاب إلى الآن.. ألا يدفعك هذا لأن تصبح كاتبا لحظيا في صحف يومية وسيارة؟
- ليس لدينا للأسف ثقافة المراجعة النقدية الصحفية التي تتيح للقارئ مواكبة الإبداع، هذا تقليد موجود عند الغرب وهو تقليد جميل، فقبل أن يصدر الكاتب روايته أو عمله الشعري، يوزع الناشر العمل على الصحف من أجل المراجعة النقدية في الصحف الكبرى، وهم الذين يثق القارئ باختياراتهم، هذه الخطوة تحدث قبل صدور الكتاب إلى المكتبات وبالتالي هنالك عدد من القراء يثقون بمراجعي كتب محددين وبالتالي يشتري القارئ الكتاب ثقة بالمراجع، وهذا أمر له سلبيات إلا أن إيجابياته بالمحصلة أكثر بكثير من السلبيات.
للأسف صحفنا تفتقر لهذا النوع من المراجعات، وإن كانت هنالك مراجعات فإنها تأتي بعد صدور الكتاب، وهي مراجعات سريعة لأننا نفتقر أيضا لثقافة مراجعة الكتاب.
طبعا النشر في الصحف ليس أهم من إصدار كتاب يحتوي على عدة دراسات نقدية، ولا يمكن أن نقارن بينهما فلكل منهما مجال حيوي ولا يمكن المقارنة بينهما، وحقيقة لو سئلت سأقول المراجعة النقدية أكثر حيوية لأن الدراسة النقدية هي ميدان القارئ المدرب، لكن المراجعة الصحفية هي ميدان القارئ العريض الذي يهمني أنا شخصيا في علم اجتماع الأدب.
الأمر بكل بساطة يتعلق بنزعتي المزعجة لي، وربما لآخرين الذين يثقون بكتاباتي نزعة البحث عن الكمال قدر الإمكان لأني لا أرضى بسهولة عن دراسة ما. تجميع النصوص المنشورة لديّ تعليق عليها أرجو أن لا يخدش حياء القارئ، إذ تبدو بمثابة تقديم طعام بائت، أو تسخني له طعاما من البراد وإطعامه إياه. وأرى أنه من الأفضل أن نطبخ له وجبة جديدة، وهذا لا يعني أن الطعام البائت ليس له طعم. من جانب آخر أؤمن أن تأليف الكتب ينبغي أن يبدأ منذ فكرة الكتاب من الفقرة الأولى في الصفحة الأولى إلى الفصل الأول حتى نهايته. بمعنى التخطيط للكتاب. تجميع الدراسات أمر سيأتي ذات يوم، ولكن ليس قبل أن أنشر الكتب التي هي حبيسة جهاز الحاسوب الخاص بي، وأنا أمر عليها وأعدلها وأشتغل عليها، وأشعر كما قلت سابقا أنني لست تحت ضغط نشرها قبل أن أرضى عنها. مزاجي متطلب، كل ما مر يوم أقول أستطيع أن أقدم ما هو أفضل وأردد على نفسي العبارة الشهيرة «عرفت شيئا، وغابت عنك أشياء».

vv يتطلب منك النقد أن تقف على الحياد، بالمقابل لديك أصدقاء من منطقة الشعر والسرد قد تقرأ لهم، وتفكر بالكتابة عنهم..هل أودى بك النقد إلى خسارة أصدقاء؟
- سأكون صريحا معك وأقول التالي، معظم من كتبتُ عنهم لا أعرفهم شخصيا، أو بالأحرى لم أكن أعرفهم عندما قررتُ الكتابة عنهم ما عدا قلة قليلة جدا. وبالتالي لا أبدأ من موقع التقليل من شأن الأصدقاء، فلديّ الكثير الأصدقاء الذين أحبهم جدا، ولكن لم أكتب عنهم لأن نصوصهم ليست صديقتي كما هم أصدقائي، وهم يعرفون ذلك وأظنهم يتفهمون الأمر بصمت فيما بيننا لأنهم يعرفون لماذا لا أكتب عنهم. الجانب الآخر في المسألة أني اتخذت قراري منذ زمن طويل، وهو كالتالي: أن لا أكتب عن النصوص الرديئة. أتمنى أن أحصل على وقت كافٍ وإمكانيات كافية لكي أكتب عن النصوص الجيدة والممتازة وبالتالي لست معنيا بالكتابة عمّا هو رديء.
لذا عندما أكتب عن الأعمال التي تعجبني فأنا أخلق صداقات أكثر مما قد أخلق عداوات، لأني أكتب في تثمينها. أحيانا تخلق لي عداوات غير مباشرة، نصف أعدائي إذا صح وجود أعداء لي من الوسط الذي لم اكتب عنه طبعا باستثناء أصدقائي الذين يتفهمون ذلك بصمت، والنصف الآخر، لأني كتبت عن فلان ولم أكتب عن فلان آخر، مما يخلق لاحقا حساسية. ولكن ليس لي خصومات مباشرة، لأني لا أدخل نفسي في معركة فاشلة مع نص رديء.

vv أنت تردد: فليخجل الكاتب من نفسه إذا لم يكتب في السياسة؟
- الناقد الأدبي أو الناقد السينمائي أو الفني الذي لا يتصدى لكتابة السياسة هو مستقيل من كتابة حيوية وحاسمة ومسؤولة، ليس لأن السياسة داخلة في كل تفاصيل حياتنا، ولكن لأن السياسة تخص النطاق الأعرض من اهتمامات البشر، والتصدي لها مسؤولية تخص الوعي، من جانب آخر تخص الجانب اللغوي لكتابة نص سياسي جذاب، وأيضا قادرا على حمل معلومة سياسية وتحليلها.

vv عندنا لا يبرز الشعراء، ولا تتطور علاقة القراء بالروايات، أو عندما يبتعد القراء عن فعل القراءة يُعلق كل هذا على شماعة النقد؟
- أرى أنه من الضروري عدم تحويل أي ميدان معرفي حول الإبداع سواء أكان النقد أو النشر أو الدراسات الأكاديمية أو الترجمة، أو أي نشاط معرفي آخر إلى مشجب تُعلق عليه مسألة وصول أو استجابة العمل الإبداعي للقارئ. هنالك أعمال كثيرة غاب عنها النقد والنقاد والفعل الأكاديمي، ومع ذلك وصلت إلى القارئ الراجح، ولا يعني ذلك أن وصول المادة إلى القارئ وصول الاشتغال إلى درجة عالية من الكمال، فهذه علاقة شديدة الالتباس وتخص علم الاجتماع بالفعل، وتخص أيضا طبائع القراءة وحساسيات القراءة، تطورات الذائقة في مرحلة ما، ولكن لا شك أن أي نشاط معرفي حول الإبداع يلعب دورا بارزا وحيويا وحساسا في توطيد ظاهرة إبداعية ما أو في التجني عليها أو التقليل من حضوره. وسأضرب على ذلك مثالا بسيطا، رواية علاء الأسواني نجحت نجاحا باهرا ليس في الوطن العربي وحده ولكن لدى الغرب أيضا. نجحت في ذائقة القراءة الأمريكية، وفي ذائقة القراءة الفرنسية، وذائقة القراءة الروسية، وغيرها من الذائقات. إذن هنالك ظاهرة ما تخص هذه الرواية، ولو طلبت رأيي فيها كناقد وكدارس للأدب سأقول هذه رواية لا تعدو أن تكون رواية متواضعة، وهي بالتأكيد ليست أعظم من روايات محمد البساطي في مصر، أو بهاء طاهر، ولكن هنالك سطوة للذائقة تدخلت.

vv ماذا تعني بالسطوة القرائية، وكيف اتفقت أكثر من ذائقة على نجاح عمل تفترض أنه متواضع؟
- ما حدث هو أن كل شريحة قرائية وجدت في عمارة يعقوبيان ما يرضي تعطشها للفن، وبالتالي نجحت الرواية بمعزل عن النقد. لم يقم أي نشاط معرفي برفع علاء الأسواني، وهنالك على العكس تماما روايات قد تكون مغمورة، ويأتي النقد ويسلط عليها الأضواء ومعظم الأعمال الكبرى الأدبية في تاريخ الإنسانية كان النقد غائبا عنها، وغالبا ما كانت القراءة تصطدم بها أولا، ثم تثبت الأيام أنها من الأعمال الكبيرة، من مثل رواية «يوليس» لـ جيمس جويس إنها الرواية الأهم في القرن العشرين.
نخب قليلة جدا من القراء ثم من كبار الشعراء والروائيين انتبهوا لها في ثلاثينيات القرن الماضي من باب الانبهار بتجربته اللغوية الفريدة، فيما بعد تبين أنها العمل الذي يبيع ثالثا بعد شكسبير، وكتاب التوراة، رغم كونها رواية شاقة وصعبة جدا، ورغم أن النقد كان بعيدا عنها. مع وجود الفارق الكبير بين رواية يوليس ورواية عمارة يعقوبيان، لكن هنالك اعتبارت معقدة فرضت حضور الروايتين لا تخص دور النقد.
في الغرب كانوا سعيدين بأمرين فيما يتعلق برواية عمارة يعقوبيان، أولا كونها تقدم صيغة تلصص على المثلية الجنسية في مصر ولأول مرّة رواية تكتب عنها بهذا الوضوح، وفي الغرب هذا حق لا يمكن أن يتم فيه نقاش. ثانيا لظن الغرب من خلال تجربته الاستعمارية لمصر أن له يد بيضاء على هذا الشعب. في مصر نجاح الرواية له علاقة بكشف الفساد من خلال مجتمع يسكن في بناية واحدة، وتقديم اختزال لروح مصر.كان امتياز الرواية أنها تستجيب لمستويات متنوعة من القراءة من ثقافات مختلفة، باختصار العمل حمل نفسه بنفسه دون أن يلعب النقد دوره. أنا أؤكد على أنّ المطلوب من النقد هو أن يكون رديفا للعمل الفني، وأن يمارس دوره في إضاءة العمل والجوانب التي تخفى على القارئ العادي أو حتى المدرب، ولكن إذا تعثر الأدب في وصوله إلى القارئ هذا لا يعني أن النقد هو المسؤول.

vv أعجبتني ملاحظتك أنك لا تكتب عمّا هو رديء؟ بينما هنالك نقاد يقصدون الكتابة عن الأعمال الرديئة أو الساذجة، وإذ بهم يُلمعون العمل ويدفعون القارئ إليها كما حدث على سبيل المثال مع رواية «بنات الرياض»، هذه الرواية البسيطة التي كان يمكن أن تنتهي بسهولة لولا النقد؟
- هنالك ما هو أكثر من ذلك، فثمة مراجعو كتب، ونقاد (إن صح لنا التعبير)، لا يعيشون إلا على الكتب الرديئة، إما لاستسهال الكتابة عنها لأنها رديئة، (حتى مديحها لا يحتاج إلى مشقة) أو يكتب عنها على طريقة ما يسمى بالديوانيات، أي الصداقات والعلاقات، وتقديم الخدمات، خاصة فيما يخص كتابات المرأة، كأن كل ما تكتبه المرأة جدير بالامتداح، وهذا موجود لدينا أكثر من أي مكان آخر. هذا أمر يخص الوعي، ومداومة القارئ على المراجعات الصحفية، إذا كان القارئ لا يكترث بالمراجع الصحفي فهو لا يكترث إن كان قد مدح أو ذم. في مواقع أخرى يكتشفون أن هذا ليس إلا نوعا من الضحك على القارئ.
 فيما يخص المثال الذي ذكرته «بنات الرياض»، فالحقيقة هنالك مؤسسات متكاملة تهتم بترويج الأدب الضحل والسهل، السلطات السياسية ليست غائبة عنها، والأنظمة تشجع بعضها على مديح ما هو ضحل، وللأسف ليست هنالك مساءلات عميقة من قبل القراء. فمن كتب عن عمل رديء لم يخضع لمساءلة القارئ.

vv هنالك الكثير من التركيز على كتابة المرأة خصوصا عندما تتناول التابوه الثلاثي الدين والجنس والسياسة، يتم التعامل مع كتابة المرأة بطريقة تختلف عن تناول كتابة الرجل؟
- أظن، وأتمنى أن تكون هذه الظاهرة قد انحسرت، لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا يمكن الكذب طوال الوقت، حتى إن أدب المرأة السعودية بانت حدوده القصوى، وصار واضحا من هي التي تكتب رواية معقولة ومن هي التي تكتب، وعينها على الترجمة والفضيحة واستجلاب الناشر والمترجم والناقد، أعرف الكثيرات (ليس فقط المرأة السعودية)، هناك كتاب كبار أيضا يكتبون وأعينهم على الناشر والمترجم والناقد.
vv هل هنالك كاتبات أو حتى كتاب يعرضون عليك أن تترجم لهم؟
- طبعا يحدث، وبالعكس إذا كتب كاتب باللغة العربية وشعر أنه جدير بالنقل إلى اللغات الأوروبية فهذا طموح مشروع، ولكن أن يعرض عليّ شيء وأن أوافق شيء آخر طبعا. أنا لا أترجم من العربية إلى اللغات الأخرى، إلا في حدود قليلة جدا، لأني أكرس وقتي لفعل العكس أي الترجمة من اللغة الأجنبية إلى العربية، ولكن من تلقاء ذاتي عندما يعجبني عمل كتب بالعربية أخبر بعض الأصدقاء عنه ليقوموا بالترجمة.

vv بما أننا نتحدث عن حقل الترجمة الآن، فما هي آلية اختيار الكتاب الذي تترجمه من اللغة الاجنبية إلى اللغة العربية، وما هي الاشتراطات التي تتبعها قبل الترجمة؟
- ترجمتُ أعمالا في الفكر السياسي، أعمالا في الفلسفة أعمالا في النقد، وروايات وشعر، وكتبا في النظريات الأدبية. اشتغالي متنوع. المعيار الأول هو أن يشدني الكتاب لخصائص متنوعة لأسباب فكرية. الاعتبار الثاني أقيم موازنة، وأحاول قدر الإمكان أن أكون منصفا بين إعجابي بالكتاب، وبين احتمالات إعجاب القارئ العربي به، فإذا حصل نوع من التوازن بين الطرفين، فإني في الاعتبار الثالث أسأل نفسي: ماذا يفيد القارئ العربي هذا الكتاب إذا ترجمته؟ وإذا توصلت إلى إجابة هذا السؤال بإيجابية فلا أتردد أبدا في الترجمة. لكن لم يحدث أبدا أني ترجمتُ عملا لمجرد أني أعجبت به، خشية من الاصطدام بذائقة القارئ العربي.

vv بدأت بكتابة نقد الرواية، لكن أعادك محمود درويش لكتابة نقد الشعر؟
- أنا في البدء جئتُ إلى النقد الأدبي من باب النظرية السياسية، تحديدا من الزاوية الماركسية، وهي التي قادتني إلى علم الجمال الماركسي، وألمع علماء الجمال الماركسيين آنذاك كان جورج لوكاتش في كتابه الشهير «الرواية التاريخية»، و«تاريخ الوعي الطبقي»، ثم صار لديّ نزوع واعترف الآن أنه نزوع خاطئ إلى أن الرواية هي فن التاريخ، وهي القادرة على إحداث تغير اجتماعي، في حين أن الشعر لا يستطيع ذلك لأنه مسألة ذاتية وشخصية، وليس صانعا للتاريخ.
موقفي من الشعر كان أقل تثمينا من موقفي للرواية. الذي أعادني فعلا لثيمة الشعر هو محمود درويش، فكل الفنون التي تتسم بسمات نوعية عالية يجب أن تنتهي إلى الشعر أبو الفنون. قصيدة درويش لم تقنعني أن الشعر هو حامل الجموع والجماهير، وبالتالي أكثر من قد يحمل التاريخ هي الرواية، وإنما أقنعتني أن هذه المهام ليست من مهام الفن. إذ ان قصيدة درويش ساهمت في إحداث تحول كبير في تفكيري. كان درويش في هذه المرحلة ينتقل من كونه شاعر مقاومة والتزام تجاه قضية إلى بدايات تحسس الصيغة الأدبية، حركت قصيدة درويش بداخلي حس مراجعة الذات، بطريقة مختلفة عمّا كان يكتبه الكبار من مثل الماغوط، أدونيس أو سواهما من نجوم تلك الفترة. درويش بهذا المعنى لم يعدني فقط إلى الشعر وإنما طوّر نظرتي إلى وظيفة الفن، وعلاقة الفن بالحياة. أنا الآن أعرف أن وظيفة الفن أكثر سموا ونبلا وأهمية من الخطاب المباشر أيا كان هذا الخطاب. واعتبر نفسي الآن متخصصا في الشعر أكثر من الرواية ربما بالرغم من أني أقرأ رواية أكثر من الشعر.

Vv خرجت في تلك الفترة من وضع سياسي، ودرويش في مرحلته المبكرة كان يكتب شعرا ذا طابع سياسي، ألا ترى أن السياسة جمعتكما أكثر من الشعر؟
- إذا كنت سأتبع المنطق الذي تتحدثين عنه الآن فسيكون الأولى بي أن أبقى في منطقة الرواية، لأن الرواية هي التي تعبر عن المجتمع والطبقات الاجتماعية، ولكن السياسة ليست فقط الموقف من القضية في فلسطين، وليست التاريخ والصراعات. كنت أظن أن الشعر لا يستطيع حمل كل هذه الأفكار وهذا صحيح. الذي أعادني لدرويش هو تحول درويش. اصطدمنا حول هذه الفكرة وقلت له: «أنت ستصبح شاعرا كونيا كبيرا إذا تناسيت وكففت عن اعتبار نفسك شاعر مقاومة.. أنت أكبر بكثير من ذلك». السياسة ليست بالضرورة هي الرافعة التي ترفع الفن، وإنما الفن هو الذي يرفع السياسة. كمن ينظر إلى لوحة واقعية تصور الصراع بطريقة جميلة، ومن ثم ينتقل إلى لوحة جرنيكا لـ بيكاسو هي بالضبط لوحة سياسية بامتياز رغم أنّ بها تجريد وتكعيب.

vv كيف تطورت صداقتك لاحقا بدرويش؟
- بمعزل عن العلاقة الشعرية، كانت بيننا صداقة شخصية، وأنا سعيد لأني عشت في زمنه، كانت علاقة من جانبي بالغة الإثراء، أضافت لي الكثير، كنتُ أراقب ولادة قصيدة درويش من المسودة حتى تذهب إلى المطبعة، وهذه بالنسبة إلى الناقد نعمة لا يحظى بها أي دارس أدب.

Vv هل كان رأيك يهمه؟
- كان يشاركني الرأي، وكان يطلعني منذ مجموعته «لماذا تركت الحصان وحيدا»، لم يصدر أي مخطوط شعري من دون أن اقرأه، نتشاور بعمق ليس من باب إطلاع صديق لصديقه، وإنما من باب التشاور والتناقش، وعندما كان يقتنع بملاحظاتي كان يُغير في نصه، وبصراحة لم أكن أتوانى عن القول أن هذه الجملة غير مناسبة، وهذا العنوان يمكن العثور على ما هو أجمل منه، وكان هذا ناجما عن علاقتنا كأصدقاء وليس من مسؤوليتي كناقد، وهذا أمر أزاوله مع أصدقائي الشعراء الآخرين، فعدد من أصدقائي الكُتاب والكاتبات يشرفونني بقراءة العمل وهو لا يزال مخطوطا، وأقول بصراحة رأيي، ويطلب البعض أن أكتب مقدمة لأعمالهم.

vv هل ترى أن هذه الخطوة مهمة لكاتب السرد أو الشعر، أعني إشراك الأصدقاء من النقاد في قراءة العمل قبل طباعته؟
- لا أظن أن أحدا يُصدر عملا قبل أن يشاور أحدا. المسألة تخص طبيعة العلاقة بين الكاتب والناقد أو الصديق الذي يُطلعه على العمل قبل النشر، إذا كانت العلاقة بها ثقة، وبالتالي المسألة بالغة الأهمية إذا كانت العلاقة تتيح ذلك. عندما كتب تي إس إليوت قصيدته الشهيرة أرض اليباب، وقدمها إلى صديقه وهو ليس ناقدا وإنما الشاعر عزرا باوند (وهو برأيي الشخصي شاعر أهم من إليوت) وحذف منها مقاطع كثيرة، بعضها مقاطع كاملة، وبعضها سطورا، فقال له: إذا أردت أن تكتب قصيدة القرن العشرين، يجب أن تأخذ بهذه الحذوفات، وأنت حر، فأخذ إليوت بكامل الحذوفات، الآن هنالك عشرات الأطروحات الأكاديمية التي تدرس الفارق بين النص الأصلي وبين المخطوط، وأنا بكل تواضع اختلف مع عزرا باوند وكنت أفضل أن يظهر النص كما كتبه إليوت، ولكن المصفاة النهائية هي الكاتب، والمسألة تخص العلاقة بين الاثنين إذا كان الشاعر نجما أظن من التواضع الكبير أن يتشاور مع الصديق سواء أكان ناقدا أو كاتبا أو حتى نجارا، فهذا شكل من أشكال التفاعل المثمر، هنالك ما سأرويه الآن ولا أرويه إلا لأن درويش رواه بنفسه، وكانت أمانة بيني وبينه. ختام قصيدة جدراية وهي عمل درويش الأهم كقصيدة طويلة كان غير ذلك على الإطلاق وكان ضعيفا، قلت له: هذه ليست نهاية تليق بملحمة مهمة كالجدارية، ففكر في الأمر وعدّل التعديل الثاني كان هو وقتها في عمّان وأنا في باريس فقلت له: هذا أفضل، ولكن ليس تماما، وعدل للمرة الثالثة، فقلت له هذه هي الذروة، واتصلت به في ساعة متأخرة من الليل لأني لم أحتمل أن أرد عليه بالفاكس، لأخبره بذلك. وعدّل التعديل الأخير قبل ساعات فقط من دخول المطبعة مما يعني أن لديه قلق على النص، واحترام للقارئ أيضا.

vv كيف ترى الشعر بعد درويش؟
- ثري وجميل ومتعدد، ولدينا تجارب شعرية ناضجة، (وهذا لا يلغي أن درويش خسارة كبيرة)، وكانت له خصوصية مهمة، عدد مبيعات درويش في فرنسا أكثر من الشعراء الفرنسيين أنفسهم، وليس الأمر بسبب كتابته عن القضية الفلسطينية كما يشاع، فدرويش يبيع أكثر من شعرائهم الراسخين من مثل رينيه شار.
 ولكن هذا لا يلغي وجود الكثير من الأصوات الشعرية اليوم، هنالك أسماء كبيرة في جيل سعدي يوسف، في جيل أدونيس، وجيل عباس بيضون، أمجد ناصر، سيف الرحبي.. الكثير من الأسماء تتولى الدفة الآن. ربما الأكثرية في الساحة اللبنانية، ولكن يوجد شعراء جيدون في المغرب العربي، وفي سورية فلسطين، ودول الخليج العربي، ولكن صيغة الشاعر النجم انحسرت وهذا خير للشعر، فنحن بحاجة إلى أصوات متعددة.

vv قلت بأن الماغوط أفضل شعراء المرحلة الأولى، ولم تقل أدونيس، أنسي الحاج، توفيق الصايغ، يوسف الخال؟
- الأفضل في قصيدة النثر، وبالتأكيد هذا رأيي، لأن أدونيس وأنسي الحاج استوردا صيغة قصيدة النثر من فرنسا في تجربة مجلة شعر، وبالتالي قدموا قصيدة النثر، وكأنها شعر مترجم. لكن الماغوط ربما لأنه لم يكن يقرأ لغة أجنبية، لغته خام وطبيعية وشعرية وتلقائية.
 تمكن الماغوط من كتابة قصيدة خالدة، ليست محل إشكال لدى الأجيال اللاحقة. هنالك إجماع على قصيدة الماغوط سواء من قراء النثر، أو من قراء قصيدة التفعيلة. وهذا الإجماع ليس اعتباطا، ونابعا من شعريات خاصة تجلت لديه، ولم تتجل لدى غيره، ولكن هذا لا ينفي أن أنسي الحاج تطور لاحقا تطورا كبيرا.

vv بالعودة للحديث عن الشاعر النجم، ألا تظن أن أدونيس هو الشاعر النجم الآن؟
- لا أظن ذلك، وإن كان هنالك شاعر نجم فهو الشاعر سعدي يوسف، أظن أن أدونيس انتهى شعريا، وإن كنت تقصدين بالنجومية الحضور على الألسن فأدونيس حاضر على الألسن بسبب مماحكاته ومعاركه الفكرية وليس بسبب شعره، فهو يدلي بحديث صحفي ويشتم الإسلام قليلا يشتم الثقافة العربية كثيرا، ومن ثم يثير زوبعة.. أظن أنه توقف شعريا منذ أواسط التسعينيات. وبالتالي لم يعد النجم الأول كشاعر.

vv أخذت القصيدة عدة أشكال في انتقالها من قصيدة الوزن والقافية إلى قصيدة النثر، أنت كناقد هل تراهن على تحول هذا الشكل النثري إلى أشكال أخرى؟
- من أبرز مشكلات قصيدة النثر أنها مسقوفة بالمقارنة مع العمود الذي يمتلك البحور والشاعر يختار من بينها، وكذلك شاعر التفعيلة يمتلك تفاعيل والشاعر ينوع فيما بينها.
براعة شعراء النثر تتجلى في شعرنة النثر، وبالتالي ما يُسمى بالموسيقى الداخلية هو أسطورة، وإن كانت فمعنى ذلك أن هنالك موسيقى في القصة القصيرة وفي المقال السياسي.
امتياز قصيدة النثر(وهذا هو التحدي الكبير) في أنها تتخلى عن الموسيقى المباشرة والإيقاعية أعني التفاعيل والأوزان، وتبحث عن بديل لها من داخلها، وهذا حق مشروع وجميل، لكنه يخلق سقفا للشكل وبالتالي ما يمكن أن يتميز به كاتب الشعر هو المجاز اللغوي والبراعة في استخدام الصور، وخلق مناخات معينة. ولأن الشكل مسقوف كما قلنا، فالشعراء الذين يشعرون بقلق تعبيري ويشعرون بالمسؤولية تجاه شعرهم يحاولون إيجاد تقنيات جديدة كأن يُدخلوا خط سردي خفيف على شعرهم كما يفعل أمجد ناصر مثلا، الذي أدخل إلى شعره خطاً حكائياً بسيطاً، ومال لاستخدام القصيدة الكتلة، بمعنى الفقرة الكاملة، وليست المقطعة. ومادمت في عمان فأنا أجد أن سيف الرحبي في الآونة الأخيرة بدأ باعتماد صيغة حوارية، وهذا جزء من تفتيش الشعراء عن مخارج. وليد خزندار وهو شاعر فلسطيني ممتاز يكتب داخل القصيدة الواحدة تفعيلة ونثرا، وهذا فيه مشقة كبيرة، الشاعر زهير أبو شايب من الذين أخذوا بالمزج بين شكلين من أشكال الشعر. هنالك مأزق في البحث عن مخارج، (وبالرغم من أني اتهمتُ بأني منظر في قصيدة النثر)، إلا أني أقول لا بد من البحث عن مخارج من داخل الشكل وليس من خارجه. على قصيدة النثر أن تكسر سقفها من الداخل.
على مدار التاريخ لم تكن الأشكال ثابتة، وأخطأ من توهم أن مستقبل الشعر هو قصيدة النثر. أدونيس عاد لكتابة قصيدة التفعيلة.. أشكال التعبير لا تموت، وينبغي التنويع فيما بينها.

vv من الملاحظ وجود حالة من الرفض بين من يكتب النثر وبين من يكتب الأشكال الأخرى من الشعر؟
- بالفعل كان هنالك نوع من التعصب من قبل عدد كبير من الشعراء، ومن ثم أدرك الشعراء أنفسهم أن المسألة ليست مسألة صراع تخيلي. أحمد عبد المعطي حجازي كان ضحية عباس محمود العقاد الذي رفض اعتبار قصيدته شعرا، وصنفها في خانة النثر، لكن لاحقا أصبحت قصيدة النثر مقبولة بدليل أن محمود درويش نفسه في ديوانه الأخير كان أكبر هم لديه هو محاولة كسر الهوة بين قصيدة النثر والتفعيلة. صحيح أنه لم يطلق على ما كتب قصيدة النثر، وأظن أن ذلك كان من باب المكابرة، لأنه بالفعل كتب قصيدة النثر داخل المجموعة الواحدة. التصالح بين الأشكال وعدم التعصب في صالح الشعر العربي عموما. وبالنسبة لي يطربني محمد مهدي الجواهري، كما يطربني عباس بيضون، كما يطربني محمود درويش.

vv كانت آخر شاعرة حصلت على نوبل عام 1996 فيسوافا شيمبورسكا، هل يحمل ذلك دلالات على تراجع الشعر؟
- نوبل أولا ليست معيارا، وإن كانت مؤشراً على أن الرواية هي الشكل الأقرب لتمثيل التاريخ. الروايات بالإجمال تركز على تصوير عذابات البشر، لذا ليس من الغريب أن يفوز روائي رديء من مثل كريكتش بمجرد أن له رواية رديئة حول الهولوكست والمحرقة.
وإذا ما خرجنا من إطار نوبل، الرواية في الإطار العربي ليست ديوان العرب، كما قد يظن البعض.أنا اعترف بوجود مشكلة في إقبال القارئ على الشعر، بسبب شكل قصيدة النثر والتي هي غير شائعة مثل قصيدة التفعيلة، وبالتالي قصيدة التفعيلة لا تطرح جديدا، ولم يعد فيها نماذج لامعة تشتغل عليها، وما تبقى من العمودي تقرأه شرائح محافظة وتقليدية. لذلك حجم قراءة الرواية أوسع، وموضوعاتها تستجيب أكثر لهواجس المجتمع. ولكن في تقديري حضور الشعر موجود في دواخل المبدع العربي الروائي، والدليل هنالك الكثير من الشعريات داخل الرواية. أنا أحث على أن تكون الرواية بعيدة قدر الإمكان عن الشعرنة. ولكن ألاحظ إصرار كتاب القصة والرواية في الوطن العربي على إدخال الكثير من اللغة الشعرية، مما يدلل على وجود الشعر.

vv دعيت لتحكيم البوكر فرفضت، بالمقابل قبلت التحكيم في مسابقة العويس؟
- ليس لديّ أي اعتراض على الجائزة، بالعكس أنا أشجعها، وأتمنى استمراريتها. اعتراضي له علاقة بطبيعة النظام الداخلي. أنا لا أظن أنها تتلاءم مع روحانية البوكر. لستُ ضد لجان التحكيم، فالمشكلة ليست في أسماء اللجان، ولكن برأيي يجب تكريس فكرة أن تذهب جائزة البوكر إلى العمل وليس إلى صاحب العمل، يجب أن ننظر للعمل وننسى مثلا أنه لعلوية صبح، أو أنه لأنسي قنديل أو عبده خال. في البوكر الغربية لا يحكم نقاد بل على العكس يتهربون من النقاد. لذا قد يشارك ضابط متقاعد ولكنه قارئ جيد للرواية، أو حتى مهندس زراعي، لأن البوكر العالمية تهتم بتكريس عمل بذاته، وليس اسما. الجائزة العربية لم تتمكن إلى الآن من الإفلات من سطوة الاسم.
أقول هذا وليس لي موقف معاد للجائزة. بالمقابل جائزة العويس عالية الاحتراف في مجلس التحكيم، وموضوعية جدا، ولا يتدخل أصحاب الجائزة في النتائج، والتحكيم يتم بصورة سرية للغاية.

قاصة من عُمان

جرى الحوار في تشرين أول (أكتوبر) 2010

ونُشر في فصلية "نزوى" العمانية، العدد 65، أيار (مايو) 2011