وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 2 أكتوبر 2011

"خوش صموتيم" المثقف السوري


كان يحلو للفنّان الفلسطيني الراحل ناجي العلي أن يعقد جناساً لفظياً طريفاً، ومريراً قاتماً في الآن ذاته، بين حركة «غوش إيمونيم» الإسرائيلية المتطرّفة، وما أسماه حركة "خوش صموتيم" العربية التي ينتسب إليها الحكّام العرب كافة، والتي لا تمارس إلا الصمت في أفضل (أي: خوش) أنماطه! وفي الوسع استخدام ذلك الجناس اليوم أيضاً، لوصف صمت عشرات المثقفين العرب عن قبائح أنظمة الاستبداد العربية، أو انخراطهم في تجميلها تحت ذرائع فاضحة ومفتضَحة؛ وذلك رغم أنّ "خيانة المثقف"، في المفهوم الذي أشاعه الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا منذ عشرينيات القرن الماضي، ليست طارئة في التاريخ، قديمه وحديثه، وليست البتة مفاجئة، بسبب من طبيعة موقع المثقف الإيديولوجي والوظيفي والاجتماعي.

وأبقى في بلدي، سورية، ليس لأنني أدرى بشعاب مثقفيها، كما أرجو، فحسب؛ بل لأنّ الانتفاضة السورية صارت أمّ انتفاضات العرب، ولا فخر، إذْ تدخل شهرها السابع أكثر عزيمة وصموداً، وأشدّ مضيّاً في بذل التضحيات وتطوير ثقافة المقاومة، ومعها تذهب أجهزة نظام الاستبداد والفساد إلى المدى الأقصى في البربرية والهمجية، وفي اليأس والسلوك الانتحاري. وأبقى في سورية لأنّ العشرات من مثقفيها المشاهير يواصلون الانضواء في "حركة صموتيم"، مخجلة تماماً حين تُقارَن بمواقف زملاء لهم، سوريين وعرب وأجانب؛ كما أنها مخزية حين تضع ضمير الصامت أمام تفاصيل الأهوال التي يتعرّض لها بنات وأبناء بلده، وحين تُخرج صمته من نطاق الرأي الشخصي أو الموقف من الانتفاضة، لتنتهي به إلى المشاركة في المجزرة والاغتيال والاعتقال وجلسة التعذيب وكسر التظاهرة، فضلاً عن حصار الحيّ والقرية والبلدة والمدينة، ودكّ البشر والحجر والزرع والضرع بأكثر الأسلحة فتكاً وتدميراً.

ولعلّي أعود إلى برهة مفصلية في تاريخ علاقة المثقف السوري بـ"الحركة التصحيحية"، نظام حافظ الأسد ووريثه بشار الأسد، هي "بيان الـ99"، الذي صدر بتاريخ 27/9/2000، أي بعد قرابة ثلاثة أشهر على توريث الأسد الابن. لم يكن مألوفاً، آنذاك، أن يصدر بيان يحمل تواقيع 99 من أبرز مثقفي سورية، يطالب بثلاث: 1) إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية المطبقة في سورية منذ 1963؛ و2) إصدار عفو عام عن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير والملاحقين لأسباب سياسية، والسماح بعودة المشردين والمنفيين؛ و3) إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القوانين والقيود وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين التعبير عن مصالحهم المختلفة في إطار توافق جماعي وتنافس سلمي وبناء مؤسساتي...

فأين يتموضع اليوم الموقّعون على البيان، وما موقفهم من الانتفاضة تحديداً؟ ثمة أولئك الذين رحلوا عن عالمنا، ومن الوفاء البسيط أن نستذكرهم (أنطون مقدسي، عبد المعين ملوحي، عبد الرحمن منيف، علي الجندي، ممدوح عدوان، عمر أميرالاي)، وأن نعتبر مساهماتهم في نقد الاستبداد معيناً أساسياً يرفد تراث الانتفاضة الإجمالي. ثمة، في المقام الثاني، أناس يواصلون روحية ذلك البيان، بوسائل وتعبيرات شتى، وعلى نحو أوضح انحيازاً إلى الشعب والانتفاضة وسورية المستقبل؛ وكان طبيعياً أن ينالهم من عسف السلطة الكثير، وبعضهم يعيش شرط الحياة السرية أو غادر إلى المنفى. وثمة، ثالثاً، مَن اختاروا تعليق الآمال على النظام ذاته، واعتبروا أنّ إسقاطه شعار "مغامر" أو "غير سياسي" أو "غير ممكن"، ومن الخير حثّ رجالات السلطة أنفسهم على القيام بإصلاحات تكفل انتقال سورية إلى نظام ديمقراطي مدني، وتضمن في الآن ذاته عدم تفكيك مؤسسات الدولة.
 
فئة رابعة اختارت الوقوف في صفّ السلطة، ظاهراً أو باطناً، بذرائع تتراوح بين "الشفقة" على سورية من أخطار المستقبل، أو ازدراء الحراك الشعبي بوصفه محض مظاهرات تخرج من الجوامع، تتألف من "إسلاميين" أو "رعاع" أو "دهماء". مثقفو هذه الفئة لا يتورعون عن الكتابة في إعلام السلطة، أو العمل لدى المؤسسات الحليفة لها، دون رادع أو حرج. وأمّا الكتلة الخامسة، والأكبر للأسف، فهي تنتمي إلى جماعة الـ"خوش صموتيم"، حيث لا يُكسر الصمت إلا في المجالس المغلقة، رغم أنّ تهديم جدران الخوف، واحداً تلو الآخر، صار عادة مفضّلة لدى السوريين منذ انطلاق الانتفاضة. وبالطبعـ لا يُدهَش المرء إزاء صمت مثقفين ينتسبون إلى أحزاب متحالفة مع النظام، وبينها حزبان ما يزالان يزعمان هوية شيوعية (جماعة بكداش، وجماعة يوسف فيصل)؛ أو مثقفين ينتابهم الخواف على مصير الأقليات، طائفية كانت أم دينية أم إثنية، وذاك ترحيل مقنّع لرغبة دفينة في اللوذ بحياض النظام القائم.

هذا هو "خوش الصمت"، لإنه ذروة في النطق ضدّ الانتفاضة عن طريق الإحجام الإرادي عن النطق لأجلها، وليس في الأمر مفارقة أو تضاد إذا تذكّر المرء فلسفة النظام الأمنية الراهنة: مَنْ ليس معهم، فهو معنا نظرياً و... عملياً في المحصلة! وإذا كان انقسام شرائح المثقفين السوريين إلى فئات خمس هو مصيبة، في حدّ ذاته؛ فإنّ انخراط البعض في التراشق بالبيانات وشنّ حملات التخوين، بالنيابة عن أجهزة النظام، ليس المصيبة الأعظم فحسب، بل هو صمت القبور الأعلى صخباً، وجعجعة!