وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 29 أكتوبر 2012

سورية وديمقراطية الذئاب اليانكية

عن الفارق، في الموقف من الانتفاضة السورية، بين المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية، الرئيس الحالي باراك أوباما، وخصمه المرشح الجمهوري ميت رومني؛ وجدتني أعود بصديقي السائل إلى أمريكا أواخر القرن الثامن عشر، وإلى سياسي وكاتب وعالِم وموسيقي يحلو لأبناء العمّ سام أن يطلقوا عليه صفة "الأمريكي الأوّل". ففي تعريفه لمعنى الديمقراطية، قال بنجامين فرنكلين (1706 ـ 1790): "إنها اجتماع ذئبَيْن على خروف، والهدف هو التصويت لاختيار طعام العشاء". وأياً كانت مضامين الاختلاف بين أوباما ورومني، سواء تلك المعلَنة أم المخفية، وعلى مستوى الأقوال أم الأفعال، فإنّ الخلاصة البسيطة هي افتراق في البلاغة واللفظ و"الزعبرة"، حسب التعريف الشعبي الأفضل للنفاق الديماغوجي؛ واتفاق مذهل في طبيعة الإجراءات على الأرض، سياسياً أو دبلوماسياً أو عسكرياً.

ولأني من المؤمنين ـ بل المحاربين القدماء، كما أجيز لنفسي القول ـ بأنّ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، بصرف النظر عن هوية شاغل البيت الأبيض، تبدأ من رعاية مصالح إسرائيل، وإليها تنتهي؛ ثمّ لأنّ مصلحة إسرائيل تقتضي اليوم، كما كانت طيلة حكم حافظ الأسد ووريثه، إطالة عمر هذا النظام ما أمكن، وتخريب سورية أكثر فأكثر؛ فإنّ رومني في يقيني هو نسخة كربون، أو يكاد، عن منافسه أوباما. بيد أنّ إيماني العميق بأنّ انتفاضة الشعب السوري سائرة إلى نصر مؤزر، تاريخي واستثنائي وصانع لأكثر من أمثولة كفاحية، سياسية واجتماعية وأخلاقية وثقافية، وأنّ هذا النظام زائل لا محالة، سائر حثيثاً إلى مزابل تواريخ الشعوب؛ فإنني أكملت لصديقي السائل الشطر الثاني من تعريف فرنكلين: "وأمّا الحرّية فهي خروف جيّد التسلّح، يأبى ذلك التصويت"!

فإذا توقف المرء عند مستوى آخر من تعامل ساسة أمريكا مع ملفّ الانتفاضة السورية، وانتقل إلى بنات العمّ سام هذه المرّة، فإنّ النموذج الأبرز (بمعنى الصخب والعنف والضجيج والعجيج...) هو السيدة كرستين أودونيل، التي استحقت صفة النجم الصاعد في صفوف قيادات ما يُسمّى "حزب الشاي"، منذ انتصارها المفاجىء على مايكل كاسل، مرشح الجمهوريين في انتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير، الذي سبق له أن انتُخب تسع دورات. ورغم أنها خسرت الجولة أمام الديمقراطي كريس كوونز، فإنّ نجم أودونيل واصل صعوده في صفوف جماعة الشاي هؤلاء، وكذلك في أوساط المحافظين واليمين المسيحي الكلاسيكي عموماً، وذلك بفضل معارضتها الشرسة للإجهاض، وللمثلية الجنسية، والاتصال الجنسي قبل الزواج، و... الاستمناء، أيضاً! وهذه السيدة لا تكفّ عن انتقاد أوباما لأنه لم يطح بالأسد بعد (فتسأله، مثلاً: هل تنتظر أن يبلغ عدد القتلى مئة كلّ يوم؟ متناسية، أو ربما جاهلة، أنّ الرقم تحقق ويتحقق منذ أشهر!)، أو لأنّ أقصى جهده في خدمة المعارضة السورية هو تشكيل مجموعة "أصدقاء سورية"، أو لأنّ الخزانة الأمريكية لم تعد "المتمردين" إلا بمعونات لا تتجاوز 45 مليون دولار...

كلام حقّ، يُراد به باطل؟ ليته توقف هنا، إذْ أنّ هذه الانتقادات ليست إلا واجهة "الزعبرة"، التي تتيح لسيّدة الشاي هذه أن تدسّ رسائل كره متعددة المستويات؛ ضدّ المسلمين أجمعين (لأنهم غير جديرين بالديمقراطية)، وضدّ انتفاضات "الربيع العربي" من مشرقها إلى مغربها (لأنها، على غرار الديمقراطية الألمانية في ثلاثينيات القرن الماضي، التي جلبت نازية أدولف هتلر، يمكن أن تجلب "النازية المسلمة"). فلماذا توجيه اللوم إلى أوباما، إذاً؟ أليس حرياً به المديح لأنه يوقف مدّ "النازية المسلمة" هذه، ويُبقي على أنظمة الاستبداد العربية، بوصفها حليفة الولايات المتحدة في نهاية المطاف، أو هي "الشيطان الذي نعرف" في أسوأ الشرور؟

لأنّ أمريكا يجب ان تقود الكون، بعجره وبجره، تردّ أودونيل؛ ولأنّ أمريكا، بعد الاتكال على الله والآباء المؤسسين و فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية "نهاية التاريخ" الشهيرة، لا تستطيع التملص من تحديات هوية القوّة العظمى، في القرن الحادي والعشرين: الولايات المتحدة سوف تواجه التحدّيات، وستنجح، وستنتصر؛ ليس في مسائل السياسة وقيادة الكون واختتام التواريخ والظفر في صراع الحضارات، فحسب؛ بل كذلك في المصالحة بين الثقافة الأنغلو ـ بروتستانتية والثقافة الإسبانية ـ اللاتينية الكاثوليكية، وكذلك: في هداية البشرية إلى هذا الصلح الأقدس!

ليس غريباً، والحال هذه، أن ينتقل حال أودونيل من منظور يضعها في خانة المشعوِذات (اضطرّت للإقرار، بضغط من مشاهد فيديو انتشرت كالنار في الهشيم، أنها "تعاطت" السحر والشعوذة ذات يوم، ولكن من موقع "الهواية" وليس "الاحتراف")؛ إلى منظور آخر قادم يرتقي بها إلى مصافّ الرائيات اللواتي امتلكن باصرة في الرؤية الخارقة البعيدة، أين منها ما امتلكته زرقاء اليمامة في تراثنا العربي! ولكي لا تنقطع عن فلسفة فوكوياما في القراءة البيولوجية للتاريخ وللسياسة، كانت أودونيل قد سخرت من نظرية شارلز دارون حول النشوء والارتقاء، فسألت: إذا صحّت تلك النظرية، فلماذا توقفت القردة عن التحوّل؟

وبين أوباما ورومني وأودونيل، ثمة تلك الطامة الكبرى التي تقود بعض أطراف المعارضة السورية إلى اختيار دور القرد الذي لا يتحوّل، بدل الخروف الذي يقاوم، في محفل ذئاب تتعارك في ما بينها، ثمّ تنتهي إلى التصويت على طبق العشاء: الخروف، إياه!