وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 17 مايو 2013

أوباما وأكذوبة "الخط الأحمر": رخصة كلّ الخطوط الخضراء

في إجابة مستفيضة على سؤال من مندوب وكالة الصحافة الفرنسية، خلال مؤتمر صحفي جمعه مع رئيسة كوريا الجنوبية بارك غون هي، بدا الرئيس الأمريكي باراك أوباما أقرب إلى المزج بين تأويل موقف إدارته من الوضع السوري الراهن، وتبرير السمات السلبية التي يرى البعض أنها تكتنف ذلك الموقف، وإعادة التشديد على خلاصات عريضة سبق أن اعتبرها أوباما بمثابة ركائز كبرى لفلسفته الشخصية تجاه شؤون الشرق الأوسط عموماً. والأرجح أنّ ستيفن كولنسون، طارح السؤال، كان أوّل المندهشين من استفاضة أوباما هذه؛ إنْ لم يكن بسبب ميل الأخير إلى الاختصار الشديد كلما طُرح عليه سؤال مماثل حول سورية في الأسابيع الأخيرة، فعلى الأقلّ لأنّ سؤال كولنسون كان يحرج أوباما في نقطة محددة تستدعي "لفلفة" الإجابة، لا الاستفاضة فيها: أنّ "فشل" الولايات المتحدة في الردّ على انتهاك النظام السوري لـ"الخطوط الحمراء" التي رسمها الرئيس الأمريكي نفسه، إنما يشجّع كوريا الشمالية على انتهاك المزيد من تلك الخطوط.

كان الشقّ الأوّل من سؤال كولنسون يسير هكذا: "هل تملك الولايات المتحدة مصلحة قومية جوهرية لإيقاف المذبحة في سورية، أم هي رغبة أخلاقية صرفة لإنهاء العنف؟ وعند أية نقطة يكون ثمن عدم التدخل بطريقة مباشرة أكثر مما فعلتم حتى الآن، أعلى كلفة من التدخل؟". وفي جانب أوّل، ردّ أوباما هكذا: "أعتقد أنه يقع على عاتقنا واجب أخلاقي ومصلحة قومية أيضاً، في إنهاء المذبحة أوّلاً، وفي ضمان سورية مستقلة تمثّل كلّ الشعب السوري، ولا تخلق الفوضى للجوار، ثانياً. ولهذا كنّا خلال السنتين المنصرمتين ننشط في محاولة ضمان خروج بشار الأسد من المسرح، وأننا نستطيع البدء بسيرورة انتقال سياسي". بيد أنّ ترجمة هذا الخيار، كما جاء في تتمة كلام أوباما، غرقت مجدداً في متاهة العموميات: تقديم الدعم الإنساني، مساندة المعارضة، تعبئة المجتمع الدولي لعزل النظام، تزويد المعارضة بأسلحة غير فتاكة، ومواصلة "العمل الذي يتوجب علينا القيام به".

الولايات المتحدة ليست مكتوفة اليدين، إذاً، حسب أوباما؛ والإدارة تدرك "الأثمان الباهظة" التي تترتب على عدم القيام بشيء، ولهذا فإنها قامت وتقوم بالكثير؛ كما أنها تقيّم، وتعيد تقييم، ما يتوجب فعله من أجل "تحديد ملامح"، أو تسريع، "اليوم الذي يتيح لنا أن نرى وضعاً أفضل في سورية". لكنّ البيت الأبيض، والرئيس شخصياً، يتفهم "الرغبة في إجابات سهلة"، ولكنّ "الموقف هناك" لا يسمح بها: "مهمتي هي أن أزن المصالح الفعلية الحقيقية والشرعية والإنسانية لأمننا القومي في سورية، ولكن أن أزنها على أساس الخطّ الأساس الذي رسمته، وهو البحث عمّا هو أفضل لمصلحة أمن أمريكا والتأكد من أنني لا أتخذ قرارات مرتكزة على أمل وعلى صلاة، بل على تحليل صلب بمصطلح ما يجعلنا أكثر أماناً، ويكفل استقرار المنطقة".

وفي الالتفاف على "الخطّ الأحمر" الذي كان قد حدده بنفسه في تصريح شهير، اتكأ أوباما على طراز آخر من الترحيل إلى "التحليل الصلب"، فاعتبر أنّ استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية ما يزال مسألة "تصوّر"، انطباعي على نحو ما، وليس حقيقة ملموسة تستند على أدلة مادية قاطعة. إدارته، استطراداً، ليست متأكدة نهائياً من عبور ذلك الخطّ الاحمر، ولهذا يصعب على البيت الأبيض "تنظيم تحالف دولي" حول أمر "مُتصوَّر" فقط؛ و"لقد جرّبنا هذا من قبل، بالمناسبة، فلم يفلح على نحو سليم"، قال أوباما، في إشارة (صائبة تماماً، ومحقة، في الواقع) تغمز من قناة سلفه جورج بوش الابن. مدهش، مع ذلك، أنّ هذا المنطق التأويلي يذهب مباشرة إلى منطق آخر تبريري، يؤكد أنّ إدارة أوباما تقرن القول بالفعل حين تتيقّن، أو حين تعلن اتخاذ موقف محدد، والدليل... بن لادن، والقذافي!

ذلك لأنّ خطّ الأسلحة الكيميائية الأحمر لم يكن الباعث المركزي خلف قرار أوباما الخاصّ بتصفية بن لادن، أو قيادة تحالف دولي ضدّ القذافي؛ وبالتالي فإنّ سَوْق المثالين لا يقدّم ولا يؤخر حول مصداقية أوباما، رئيس القوّة الكونية الأعظم؛ أو حول صلابة أو ميوعة، أو تماسك أو تخبط، موقف إدارته من الملفّ السوري. يُضاف إلى هذا حقيقة ساطعة، أخلاقية وإنسانية وسياسية في آن معاً، مفادها أنّ اقتصار أوباما على خطّ أحمر واحد، هو استخدام الأسلحة الكيميائية، أعطى بشار الأسد الضوء الأخضر لعبور كلّ الخطوط الحمراء التي يمكن أن تخطر على بال مجرم حرب دكتاتور: من المدفعية الثقيلة، إلى القصف الجوي، فالبراميل المتفجرة وصواريخ "سكود"، مروراً بمجازر العقاب الجماعي ومذابح التطهير الطائفي. هذا إذا تجاوز المرء تسريبات البيت الأبيض للصحافة الأمريكية، من أنّ خطّ أوباما الأحمر كان في الأصل زلّة لسان، أو خروجاً عاثراً عن النصّ، ولم يكن ركيزة معتمدة في موقف البيت الأبيض الإجمالي من الوضع السوري.  

بهذا المعنى فإنّ ذلك الموقف الإجمالي يظلّ متصفاً بالتخبط، لكي لا يتخيل المرء حال جمود مفضّلة عن سابق قصد وتصميم، تواصل انتهاج قاعدة الابتداء ذاتها، أي "الهبوط السلس"، التي تفترض أنّ النظام السوري ساقط لا محالة، طال الزمان أم قصر، ولا حاجة لأمريكا بتورّط جديد بعد افغانستان والعراق، ولا بأس من تلاوة صلاة تعاطف يانكية (على نقيض مزاعم أوباما!) لراحة الشعب السوري الذي يُقتل بالمئات كلّ يوم، ولراحة سورية التي يدمّرها نظام يرفع الشعار الفاشي الوحشي والبربري: "الأسد، أو نحرق البلد". وبهذا المعنى فإنّ أوباما لا يتهرّب من مسؤوليات القوّة الكونية الأعظم، أي تلك التي يتفاخر بها هو نفسه، وأسلافه من رؤساء امريكا، فقط؛ بل يسفّه تصريحاته الطنانة الرنانة ذاتها، أيضاً، ويُلقي بمصداقيته السياسية والأخلاقية إلى حضيض بائس.

وللمرء أن يعود بالذاكرة إلى مثل هذه الأيام، ولكن قبل أربع سنوات خلت، حين ألقى أوباما خطاب "الانفتاح على العالم المسلم"، من حرم جامعة القاهرة، فبدا بالغ الحرص على إعطاء صورة مخالفة، أو عكسية نقائضية أحياناً، للخطاب الرسمي الذي اعتمدته الإدارة السابقة، تجاه مسألة العلاقات الأمريكية مع العالم المسلم عموماً، ومسائل الشرق الأوسط بصفة خاصة. ولقد لوحظت آنذاك رغبة خفية، وأحياناً جلية تماماً، في توبيخ سلفه بوش الابن، ونائبه ديك شيني، ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد، وعقائد المحافظين الجدد، أو حتى صمويل هنتنغتون وأطروحته حول صدام الحضارات، من جهة أولى؛ وفي الإيحاء، من جهة ثانية، بأنّ هذه الإدارة تختلف، أو سوف تخالف، ذلك الماضي الحزين، لاستشراف مستقبل أكثر سعادة، أو أقلّ حزناً.

غير أنّ الخطبة لم تأتِ بأي جديد ـ مفصّل، ملموس، أو انعطافي ـ في ما يخصّ القضية الأكبر التي عكّرت وتعكّر علاقات الولايات المتحدة بالعالم المسلم: انحياز الولايات المتحدة الأعمى لدولة إسرائيل، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، في انتهاك صارخ دائم لكلّ ما يتشدق به قادة أمريكا أنفسهم حول قرارات الشرعية الدولية، واستهتار بالمصالح الأمريكية الستراتيجية ذاتها. وكما أنّ الحديث عن تجميد المستوطنات لم يكن جديداً (وكان جيمس بيكر، وزير الخارجية في إدارة بوش الأب، أشطر فيه بما لا يُقارَن، حين ذكّر حكومة إسحق شامير بأرقام هواتف الخارجية الأمريكية، قائلاً: حين تكونون جديين حول السلام، اتصلوا بنا!)؛ فإنّ إطراء التسامح في الإسلام، وامتداح الشعر العربي والعمارة الإسلامية، والإعراب عن احترام حقّ المراة المسلمة في ارتداء الحجاب، واقتباس القرآن والتلمود والإنجيل... لم تصنع أيّ فارق بالقياس إلى ما قال وفعل السابقون من رؤساء أمريكا في الأحقاب الراهنة.

كذلك فإنّ حرص أوباما على طيّ صفحة المبدأ الذي اعتمدته الإدارة السابقة، حول فرض الديمقراطية عن طريق التدخّل في شؤون الأمم الأخرى (وهو المبدأ الذي كان خاطئاً في الأصل، ونفاقياً دعاوياً صرفاً لم يُطبّق أيّ من عناصره على أرض الواقع، في أيّ بلد)، بمثابة تحصيل حاصل لحال من الفشل الذريع. ولقد بدا أوباما وكأنه يأخذ الشعب الفلسطيني بجريرة خياره ـ الذي كان ديمقراطياً حرّاً تماماً، بشهادة كلّ المراقبين ـ في تفويض منظمة "حماس" سياسياً، ومنحها أغلبية مطلقة في المجلس التشريعي الفلسطيني. لكنه، بمعزل عن هذه المسألة التي فاحت فيها روائح انقلاب الديمقراطيات الغربية على جوهر مبادئها بصدد صندوق الاقتراع، تفادى الحديث عن معضلة الخيارات الديمقراطية في ظلّ صعود الإسلام السياسي، وكيف ستتعامل إدارته مع احتمالات تفويض حكومات أخرى إسلامية التوجّه، إذا امتلك الشارع العربي حقّ التصويت الحرّ.

وأخيراً، إذا كان أوباما قد أعلن أنّ محاربة التنميطات المسبقة السلبية عن الإسلام هي بعض مسؤوليته كرئيس للولايات المتحدة، فهل تكفي مهمة كهذه ـ بافتراض أنها حققت أية نسبة من النجاح، عملياً أو حتى نظرياً ـ في إنزال إسرائيل من ذلك المقام الفريد الذي تتنعم به؟ أو تكفي لإحقاق حقوق الفلسطينيين، ليس كما يحلمون بها أو يطمحون إليها، بل كما نصّت عليها تفاهمات ومواثيق مثل "خريطة الطريق"، في أقلّ تقدير؟ أو تكفي لكي تنقلب خيارات الولايات المتحدة العتيقة في المنطقة، في حماية الدكتاتوريات وأنظمة الاستبداد والفساد، ضماناً لمصالح أمريكا في تأمين النفط وحماية إسرائيل والتواجد العسكري في المنطقة؟ أو تجعل سفك دماء الأبرياء خطاً أحمر لا يجوز لأيّ مستبدّ أن يتجاوزه، أياً كان السلاح الذي يقتل ويدمّر؟

ويبقى ما قيل في مناسبات سابقة، ونقوله اليوم أيضاً، من أنّ محترفي التضليل، فضلاً عن الحمقى والسذّج، هم وحدهم الذين يساجلون بإنّ الإدارة الأمريكية، هذه أو سواها، يمكن أن تكون سعيدة بما شهدته الشوارع العربية من انتفاضات. هي، كذلك، ليست حزينة جرّاء الانتكاسات ومظاهر الثورة المضادة هنا وهناك، وبالتالي لا تزمع مساعدة الشعوب في مشاريعها الديمقراطية، كما يسير الزعم الرسمي، بل لعلها ترقب تلك الانتكاسات بعين الرضا، وحسّ الاستثمار. ولهذا، وبعد الاتكاء على تجارب الشعوب مع الولايات المتحدة، خيرٌ للتدخل الأمريكي أن لا يأتي أبداً، من أن يأتي منطوياً على أجندات لا تخدم، في المقام الأوّل، إلا المصالح الأمريكية؛ وتبدأ مفاعيلها الأولى من خدمة الطاغية، وإسباغ صفة "وطنية" و"مقاوِمة"، على موقفه إزاء أنساق التدخل الخارجي.

.. أو ترسم له ذلك الخطّ الأحمر الوحيد، الذي يطلق كلّ ضوء أخضر وحشي، لكلّ يدٍ مضرجة بدماء الأبرياء!