وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 9 أغسطس 2013

"تحرير الساحل" وتحريك المياه الراكدة: رفعت الأسد نموذجاً

رغم أنها ما تزال محدودة النطاق جغرافياً، وذات طبيعة رمزية عسكرياً، ومتضاربة في حصيلة فوائدها ومضارّها سياسياً؛ فإنّ عمليات "الجيش السوري الحرّ" الأخيرة في بعض قرى الساحل السوري حرّكت مقداراً ملموساً من المياه الراكدة في مواقف أبناء الطائفة العلوية، تجاه الانتفاضة أسوة بالنظام. كذلك استدعت ردود أفعال متباينة، ليس بمعنى اختلاف الرأي حول العمليات ذاتها (إذْ توفّر ما يشبه الإجماع، المشروع، على التخوّف من عواقبها)؛ بل بمعنى خلخلة عدد من الولاءات والانحيازات، التي لاح انها استقرّت عند مستوى من الثبات النسبي طيلة سنتين ونصف من عمر الانتفاضة. أخيراً، وبالتضافر مع نجاحات الجيش الحرّ في محيط حلب (تحرير مطار منغ)، وفي درعا، وما تردد عن استهداف موكب بشار الأسد أمس؛ شاعت مناخات توحي بتقهقر النظام عسكرياً، وارتداد الحال إلى ما قبل سقوط بلدة القصير.

وإذا كان من المبكّر، في هذه المرحلة، استخلاص أيّ تقدير متكامل في الحدود الدنيا حول عمليات قرى الساحل وجبل الأكراد، وخاصة من حيث الجدوى العسكرية (التي تتجاوز القيمة الرمزية لاستهداف بلدة القرداحة، مثلاً، مقابل إمكانية قطع طريق إمدادات قوّات النظام من اللاذقية إلى إدلب وحلب)؛ فإنّ رصد أنساق محددة من ردود الفعل متاح منذ الآن، بل لعلّه يرتدى مغزى بالغ الخصوصية، في شأن ما طرأ أو قد يطرأ من تحوّلات على مزاج بعض أبناء الطائفة العلوية، وفي ما هو أبعد من مظاهر الاحتجاج التلقائية التي قيل إنها اندلعت في القرداحة ذاتها، وكذلك في اللاذقية (حيث تردد أنّ تجمعاً شعبياً أمام فرع المخابرات الجوية، شهد هتافات مثل: "أولادنا بالقبور، وأولادكم في القصور").

نسق آخر من ردود الأفعال، عاد مجدداً بعد ظهور أوّل يعود إلى شباط (فبراير) 2012، وهو انتشار لافتات وملصقات تحمل صورة رفعت الأسد، وعبارة "الشعب يطالب بعودة القائد الدكتور رفعت الأسد. ناطرينك". ولم تكن مصادفة، استطراداً، أن يسارع "التجمع القومي الديمقراطي الموحد"، حزب هذا الأخير، إلى إصدار بيان اتهامي صارخ: "كلكم تتاجرون بالوطن وبالمواطن وبالحرية، وكلكم تقتلون باسم الوطن والمواطن والحرية، وكلٌ منكم تخلى عن أخلاقه، ولا بد لهذا النزيف اليومي والدمار اليومي أن يتوقف". كذلك لم يكن مستغرباً أن يطالب البيان "كافة الغرباء بمغادرة التراب السوري الطاهر، لأنهم يحيكون للوطن مؤامرة كبرى"، وأن يهاجم "المعارضة المسلحة داخل سورية" لأنها تمارس "سياسة القتل والتدمير وتفسيخ نسيج المجتمع السوري المتآخي"، ومعارضة الخارج بسبب "الاستقواء بالأجنبي على الوطن، وممارسة التأجيج والتجييش والحض على الجهاد، والدعوة إلى إسقاط النظام، حتى ولو لم يبق في سورية حجر على حجر آخر".

أمّا النظام ذاته، الذي يقصف البشر مثل الحجر، ويحرق الزرع اسوة بالضرع، ولا يوفّر سلاحاً خفيفاً أو متوسطاً أو ثقيلاً، ويقصف بالطائرات والدبابات والمدفعية والراجمات، بالبراميل المتفجرة وصواريخ "سكود" والأسلحة الكيميائية... فهذا ما يقوله عنه بيان رفعت الأسد: "لسنا مع المتشددين في النظام الذين يمارسون سياسة العنف". نعم، "متشددون"... فقط، لا غير! ولا عجب، بعد هذا، أن يتماهى العمّ (رفعت) مع أطروحات ابن أخيه (بشار)، فيردّد مثله: نحن "مع كلّ معارضة وطنية شريفة، ومع كلّ القامات والشخصيات الوطنية التي ترفض العنف، وتسعى لمصلحة الوطن والمواطن أولاً، وترفض كل ما يجري على الساحة الوطنية السورية من قتل ودمار وتمزيق لنسيج المجتمع السوري". ولا غرابة أن ينتهي البيان هكذا: "لا بدّ من صحوة وطنية عاجلة، والتمسك بسياسة العدل والسلام والحرية لإنقاذ الوطن قبل فوات الأوان".

ثمة "أوان" ما، إذاً، كان الدافع وراء إصدار هذا البيان، وكان حافز التغيير الجلي الذي طرأ على موقف العمّ من الانتفاضة الشعبية العارمة التي تعصف بركائز "الحركة التصحيحية"، حكم شقيقه حافظ، وشقيقه الثاني جميل، وحكمه هو شخصياً، ثمّ أبناء شقيقيه، وأبنائه، وآل الأسد أجمعين؛ متضافرين، متضامنين، مع آل مخلوف، وآل شاليش، وآل ناصيف، وآل دوبا، وآل الخولي، وآل مملوك؛ وقبلهم، وإنْ بحصص أقلّ دسماً وليس أقلّ شراهة إلى امتصاص دماء السوريين، آل خدّام، وآل طلاس، وآل الشهابي، وآل الأخرس... ومَنْ لفّ لفّهم، وجرّ جرّهم! الحال تتبدّل على الأرض، وثمة نيران تشتعل في أركان البيت الداخلي، بعد أن بلغ لهيبها مراكز موالاة لاح أنها منيعة بوفائها المطلق لسردية النظام، ومراصد دفاع بدت منيعة مدججة بالسلاح والشبيحة؛ ولا مناص إذاً، أو "لا بدّ" وفق نصّ البيان، من تغيير المواقف، بعد تبدّل الحال. 

وكان رفعت الأسد (75 سنة) قد بدأ بمحاولة امتطاء مظاهرات درعا، التي انطلقت في آذار (مارس) 2011، زاعماً أنه أعطى التوجيهات لأنصار حزبه بالمشاركة فيها، وأنها كانت سلمية تماماً، والحماقة الأولى أتت من قريب بشار الأسد، مسؤول الأمن السياسي هناك، الذي أعطى الأوامر باستخدام الذخيرة الحية ضدّ المتظاهرين (حوار مع أسبوعية "باري ماتش" الفرنسية، يعود إلى خريف 2012). قبلها كان قد أصدر بياناً خاصاً يترحم فيه على الشهيد حمزة الخطيب: "لا يسعني إلا أن أحيي هذا الطفل الشهيد، وأعزي نفسي باستشهاد الشعب السوري، وأجثو على قدمي مبتهلاً ما قدس الله شهداء، حيث لم يبق منه إلا جيلك وأجيالك عليك الصلاة ولك الخلود"!

بعدئذ، في نقلة دراماتيكية تتوخى تضخيم الذات، أعلن رفعت الأسد أنه يملك الحلّ السحري لإنهاء "الأزمة" في سورية، وأنّ روسيا موافقة عليه، وكذلك "الإخوان المسلمين"، وبشار الأسد يمكن أن يوافق، وثمة آفاق لإقناع المعارضة الداخلية والخارجية بالسير في الركاب... أين العائق، والحال هذه؟ إنها إيران: "لأنّ المشكلة الدولية اليوم هي سورية، وليست إيران. ولإيران كلّ المصلحة في صرف الأنظار عنها ورفض كلّ مساومة. يتوجب أن نجبر إيران. نحن نحترم إيران والشعب الفارسي. لكنّ لإيران مطامح مفرطة تجعلها تتجاوز حدودها في كلّ مرّة". (حوار مع موقع Slate.fr الفرنسي، يعود إلى آب/ أغسطس، 2012).

واتكاءً على ثقته المطلقة بأنه (كما تابع، في الحوار إياه) يُنتظَر في سورية بصفة المنقذ، يؤكد أنّ عودته إلى البلد اليوم هي أسهل بكثير ممّا كانت عليه قبل 20 سنة، حين نفاه شقيقه حافظ؛ وأسهل عليه، أيضاً، أن يتولى إصلاح سورية: "الكلّ يدرك ضرورة التغيير، والنظام مرفوض على نطاق واسع، ولا يحميه اليوم غلا خوف الأقليات، وسورية ترغب في العيش بسلام، ولهذا لا تمثّل خطراً على جيرانها، وليس لجيرانها أن يمثّلوا خطراً عليها". المنقذ من الضلال، إذاً؟ ربما، في ناظر شرائح ليست بالقليلة في صفوف عسكر النظام، وأفراد أجهزته الأمنية، وشبيحته، من أبناء الطائفة العلوية بصفة خاصة؛ لأسباب جديرة بالاستعادة، هنا، وكلما طُرح اسم رفعت الأسد في نقاش كهذا.

ذلك لأنّ أرصدته، السياسية والأمنية والعسكرية والمالية، سواء داخل صفوف الضباط أو المدنيين، في الحزب أو الدولة أو المجتمع، ليست محدودة، وليست مجمدة البتة؛ وهي بالتالي قابلة للتوظيف الفوري، سواء جرى استثمارها من داخل سورية لكي تعطي ثمارها في الداخل السوري وتُرحّل إلى الخارج في آن معاً؛ أو جرى العكس: استثمار من الخارج إلى الداخل، حيث تكتسب من أسباب القوّة ما يجعلها قابلة للتصدير مجدداً إلى الخارج! وكان انتشار اللافتات والملصقات التي تحضّ على عودته مثيراً تماماً، وذا مغزى بالطبع، لأنّ المرء كان يعثر على بعضها ملصقة حتى على جدران فروع الأمن، ومداخل الوحدات العسكرية، وشواخص الطرقات العامة، في القرى والبلدات والمدن.

والعمّ ما يزال يتمتع بولاء شرائح واسعة من كوادره القديمة (السياسية والعسكرية، الرسمية وغير الرسمية) التي صعدت منذ أوائل الثمانينيات على يديه، بفضل منه، وحين كان الرجل الثاني في البلاد، أو "البلدوزر" الذي يجرف ما يشاء، أنّى ومتى شاء. وتلك كوادر اضطرت ـ بعد تقليص سلطاته، وإبعاده خارج سورية إثر صراعات عام 1984، وحلّ "سرايا الدفاع"، ذراعه العسكرية الضاربة ـ إلى التقاعد أو الانزواء أو التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وهي، أيّاً كانت مواقعها الراهنة، في مواقع الجيش الهامشية والإدارية الصرفة، أم في فروع المخابرات المختلفة، أم في ألوية الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، أم في عشرات القرى الصغيرة والكبيرة (بعد حلّها، امتهن أفراد "سرايا الدفاع" من رتبة "رقيب أوّل" أو "مساعد" وظائف مشايخ أو مخاتير في ضٍيَع الساحل السوري)... مستعدّة إلى الانضواء من جديد في كنف "القائد".

كذلك فإنّ رفعت الأسد قادر على مصالحة النقائض، وتقريب الهوّة بين شيوخ السلطة وكهولها وشبّانها، وبين الخاسرين منهم والرابحين، وحيتان الفساد أسوة بالقطط السمان، والجوارح التي تقتات على الجيف مثل تلك التي تستأثر بالطرائد الأدسم. وهو عسكري سابق امتهن الـ "بزنس" ذا العيار الثقيل، واستثماراته داخل سورية وخارجها تُحسب بالمليارات، وتحالفاته وثيقة مع التجّار ورجال الأعمال حتى جاء زمن عُدّ فيه "حامي التجّار" بامتياز. وحين كان قويّاً، على رأس جيشه الخاصّ، النخبوي تماماً في تسليحه وامتيازات أفراده، يقود تحالفاً عجيباً من العسكر والتجّار والأكاديميين (إذْ لا ننسى أنه "دكتور" في العلوم السياسية، ورئيس سابق لـ "رابطة خرّيجي الدراسات العليا"!)؛ أشاع رفعت الأسد ثقافة "عسكرة التجارة"، التي تجعل الضباط شركاء دون رساميل في أيّ وكلّ تجارة؛ بالتوازي مع "تَجْرَنة العسكر"، حيث ينقلب الضباط إلى تجار في كلّ وأيّ صنف، وسط ابتهاج مختلف فئات البرجوازية السورية الطفيلية.

وهذا، حين تقتضي الحال ويأزف "أوان" لا ريب فيه، رجل بطش وإراقة دماء وهتك أعراض وإحراق أخضر ويابس؛ سجلّه شاهد على ما ارتكب في تدمر، بل وفي أربع رياح سورية، خلال السنوات التي شهدت ذروة صعوده، وأقصى تعطشه للدماء. وإذا بدا للبعض في صورة "المنقذ" حقاً، وعلى أيّ نحو، فذلك لأنّ مزاج الرعب المطلق الذي يعصف بذهنية ذلك البعض لا يطيق رؤية أفق وطني سليم وصحّي يتيح تعايش السوريين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم وأديانهم وإثنياتهم؛ بقدر ما يتشبث بسردية رهاب واحدة وحيدة، ترى الكابوس وحده، وتتشبث بعظام رميم، ولا تبصر إلا حافة الانهيار.

أو تهرع في خوافها إلى هاوية انتحار، استيهاميّ وذاتي أغلب الظنّ!