وعزّ الشرق أوّله دمشق

السبت، 20 أكتوبر 2018

فلسطين التي أرسلتنا إلى الجولان

على ظهر خريطة شاملة للجولان السوري المحتل، أعدها د. نزيه بريك ونشرها "المرصد ــ المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان"؛ نقرأ معلومات مكثفة، في بضعة سطور، عن واقع الهضبة المحتلة، إنسانياً وجغرافياً وسياسياً وحقوقياً. احتلال الكيان الصهيوني للجولان، في حرب 1967، أسفر عن طرد نحو 130 ألف نسمة، وتدمير مساكنهم في 340 مزرعة وقرية وبلدة، بالإضافة إلى مدينة القنيطرة عاصمة الجولان. واليوم، يقع تحت الاحتلال قرابة 25 ألف نسمة، يتوزعون على خمس قرى، هي مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنية، والغجر؛ في مقابل 33 مستوطنة زراعية أقامها الاحتلال، تستوعب 23 ألف مستوطن.
إلى هذا الجولان ذهبنا، الصديق المؤرخ والناشر فاروق مردم بك وأنا، في ما يشبه الحجّ إلى فلذات من كبد سوريا لم يكن للاحتلال الإسرائيلي أن يقتطعها ــ بتلك السهولة الصاعقة، والتفوّق العسكري المذهل ــ لولا أنّ معظم تلالها المنيعة وهضابها الحصينة سُلّمت تسليماً تحت "قيادة" حافظ الأسد، وزير الدفاع يومذاك. ولم نكن قد رصدنا لهذا الحجّ أية شعائر خاصة، غير تلك التي تتيح لنا أن نختزن في الأبصار ما يُتاح لنا من سماءات جولانية، وأن نملأ الرئات من شميم الأرض والحجر والنبات، وأن نعانق أهلنا هناك حيثما ثقفناهم؛ خاصة في مجدل شمس، درّة الجولان المحتل، التي وصلناها مع انتثار خيوط الفجر الأولى، حين كان بهاؤها البصري الأخاذ يستفيق لتوّه.
كنت شخصياً، خلال عملي مع الأمم المتحدة أواخر سبعينيات القرن الماضي، قد خبرت الجولان من الجانب السوري؛ وتسنى لي أن أزور القنيطرة الشهيدة، عاصمة الجولان التي تعمّد النظام إبقاءها كما خلّفها جيش الكيان الصهيوني عند انسحابه منها بموجب اتفاقية سعسع: محض خرائب وأطلال شاهدة على وحشيتين، الاحتلال الإسرائيلي والاستهانة الأسدية. تعرفت، عيانياً أو بمجرد النظر، على جغرافية الجولان كاملة، من نبع الفوار وخان أرنبة ومزرعة بيت جن، إلى الرفيد وتل الفرس وتل أبو الندى وجبل الشيخ وبير عجم والجوخدار... ثم عدت وأبصرتها، من جهة الاحتلال هذه المرّة، حيث تحوّلت الأماكن إلى مستوطنات تارة، أو مواقع ترويح يزورها السائح للتنعّم بأمجاد "لواء غولاني" الإسرائيلي (في تلّ الفخار، مثلاً، الرمز الأقسى لتسليم الجولان عسكرياً).
ولقد سبق لي أن وصفت "لقاء العائلات"، الذي كانت تنظمه قوات الفصل والصليب الأحمر الدولي على تخوم مجدل شمس، ويتيح لأبناء البلدة المحتلة أن يتخاطبوا، عبر مكبرات الصوت اليدوية، مع أهلهم وأصدقائهم المحتشدين على  الضفة الثانية المواجهة في الأرض السورية. اليوم اختلفت الحال، وصارت السياجات الشائكة أعلى، واتخذ التواصل مسارات مختلفة؛ إلى درجة أنّ مفتي النظام، أحمد بدر حسون، جاء للتظاهر في موقع عين التينة مقابل مجدل شمس، إحياءً للذكرى الخامسة والأربعين لحرب تشرين و... تحرير الجولان! ولم تكن زيارة المفتي منفصلة عن تيار مشيخي في مجدل شمس والقرى الجولانية المحتلة الأخرى، يواصل الولاء لنظام الأسد، ويُحسن توظيف فظائع "داعش" في محافظة السويداء بهدف حرف التوجه الوطني لشرائح واسعة من أبناء الجولان الرافضين للاحتلالَين معاً، الإسرائيلي والأسدي.
وإلى جانب أبعاده الإنسانية والوجدانية والعاطفية، في نفوسنا نحن الزائرين كما في نفوس أبناء وطننا تحت الاحتلال، اتخذ الحجّ صفة سياسية لم نخطط لها أصلاً وشاءتها المصادفة؛ إذْ يستعد الكيان الصهيوني لإجراء انتخابات مجالس محلية، تشمل قرى الجولان المحتلة أيضاً، وتثير نقاشاً ساخناً حول المشاركة مقابل المقاطعة. ولعلّ اقتباس سطور من وجهة نظر الصديق حسان شمس، ابن المجدل، تكفي هنا لإيضاح المشهد (الذي مثّله أيضاً، بجلاء قاطع وصلب، أصدقاؤنا الجولانيون الذين التقينا بهم: ياسر خنجر وعلاء الصفدي ووائل طربيه وعاطف الصفدي ومجدولين الصفدي وأيمن أبو جبل...): "ما يميّز وجودنا، نحن أهالي الجولان المحتل، أننا نستطيع رفض الاندماج بـالسيستم الإسرائيلي والبقاء أحياء متمتعين بكرامتنا وقادرين على المحافظة على مستوى عيشنا، بخلاف وطننا المحكوم مِن قِبَل عصابة إرهابية عميلة قذرة، كانت ستخيّرنا بين القبور والمعتقلات والمنافي لو ارتأينا ممارسة حقّنا ولو في حدّ أدنى مِن الاختلاف معها (...) المسألة هنا أبعد مِن الانخراط في انتخابات مطعون في 'شرفها الديموقراطي' مِن أساسها، كونها تتيح حق الترشّح لرئاسة المجالس المحلية فقط لمن يحملون الجنسية الإسرائيلية، الذين لا يتجاوزون 12% مِن مجموع سكان الهضبة المحتلة".
ولقد اتضح سربعاً أنّ زيارتنا راكمت رصيداً وطنياً مشتركاً، لنا أوّلاً نحن الآتين من منافينا القصية، ولهم هناك حيث يطوّرون ما هو أبعد من الصمود والوجود والبقاء؛ ليس دون احتشاد الفوارق الرمزية، التي لا تبدأ من صورة فوتوغرافية في غبش الفجر على ضفاف بحيرة طبرية، ولا تنتهي عند سلال التفاح الجولاني الذي أصرّ العمّ بو زياد مداح أن نحملها معنا إلى باريس! كنّا قد أتينا إلى فلسطين، بدعوة كريمة من مؤسسة محمود درويش، لنحتفي بصديقنا في الذكرى العاشرة لرحيله؛ لكنّ فلسطين أبت إلا أن تكون أكثر سخاء، فأرسلتنا إلى أهلنا هناك؛ مفعمَين، بصراً وبصيرة، بتلك الأيقونة الأخرى الموازية، التي كانت تسمى سوريا، وصارت تسمى سوريا! 
 14/10/2018