وعزّ الشرق أوّله دمشق

السبت، 14 سبتمبر 2013

كيمياء النظام السوري: ستة دروس و"زلة لسان" واحدة

في نطاق الافتراض أوّلاً، ولأنّ العالم لا يملك سوى هذا الخيار أساساً، ثمة سلسلة من التعقيدات التكنولوجية الصرفة، الأقرب إلى عوائق كبرى عصية على التجاوز، تجعل تنفيذ الاقتراح الروسي ـ حول وضع ترسانة النظام السوري من الأسلحة الكيميائية قيد الرقابة الدولية، ثمّ التخلص منها نهائياً ـ مهمة شبه مستحيلة. يكفي الوقوف على اللائحة التي يسردها مايك كولمان، كبير العلماء في شركة "باتيل" المتخصصة، والتي شاركت في أعمال تفكيك الترسانة الكيميائية الأمريكية: آجال زمنية قد تمتدّ على عقود، أكلاف مالية عالية تُقدّر بالمليارات، منشآت وأفران يتوجب أن تُبنى خصيصاً، وخبراء بمهارات عالية تقوم على التخصص والكفاءة والدراية العلمية، فضلاً، بالطبع، عن مناخات أمنية مضمونة تماماً، هيهات أن تتوفر في الظروف الراهنة التي تعيشها سورية.

من السابق لأوانه، إذاً، مناقشة هذه الجوانب التقنية على أيّ نحو عملي، أو حتى جدّي؛ ليس في انتظار أن يتكشف الاقتراح الروسي عن حدود دنيا من تفاهم الكبار على تطبيقه، فحسب؛ بل كذلك لأنّ حرب المصير، بين نظام بشار الأسد والغالبية الساحقة من أبناء الشعب السوري، لم تعد تسمح برفاه مستدام من المناظرة بين معركة كيميائية وأخرى دبلوماسية! الحكمة، في المقابل، تحضّ على استخلاص بضعة دروس سياسية من السياقات التي أفضت إلى ولادة المبادرة الروسية؛ هي، في الآن ذاته، بضع إشارات حول جدل الضربة العسكرية المحدودة ضدّ النظام السوري، واحتمالات تأجيلها، أو تبديل طبيعتها من حيث الشدّة أو الضعف، أو صرف النظر عنها كلياً.

ولعلّ الدرس الأوّل، الذي يعني السوريين قبل سواهم، وبالتالي أكثر من غيرهم، هو حقيقة استعداد النظام للتفريط بما تبقى لديه من أوراق قوّة، كانت ذات يوم تُحتسب ـ عند النظام، وكذلك عند أنصاره في "محور الممانعة" الشهير ـ ضمن عناصر "التوازن الستراتيجي" مع العدوّ الإسرائيلي. صحيح أنّ مضامين ذلك "التوازن" تبدّلت جذرياً، ومنذ انطلاق الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011 بصفة محددة، فصارت منحصرة في محاربة الشعب بالأسلحة المتوفرة كافة، بما في ذلك الكيميائية منها؛ بدل التلويح بها كخيار ردعي ضدّ إسرائيل، يمكن أيضاً أن يُنقل إلى حليف مثل "حزب الله"، أو أن يُستخدم ورقة ابتزاز ترجيحية، هنا وهناك في النزاعات الإقليمية.

ومن نافل القول، ضمن استخلاص درس ثانٍ من باطن هذا الدرس الأوّل، أنّ حكاية التفريط هذه تواصل أيضاً خدمة أمن إسرائيل على مستويات ستراتيجية بعيدة المدى؛ وهذا هو ذلك الدور الذي أنيط بنظام "الحركة التصحيحية" طيلة 43 سنة، بل قبلئذ، منذ هزيمة 1967 حين كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع. جلي، إلا عند الحمقى ودافني الرؤوس في الرمال من أضراب "الممانعين"، أنّ مشروع تفكيك الترسانة الكيميائية للنظام السوري لا يضرّ قوى المقاومة العسكرية داخل صفوف المعارضة السورية إلا بمعدّلات تقلّ كثيراً عن المنافع التي يسديها لجيش الاحتلال الإسرائيلي في الجولان. وعلى غرار "الردع الصاروخي" الشهير، الذي طالما تغنى به "الممانعون"، واعتبروا أنه السيف المسلط على رأس إسرائيل؛ كسر النظام محرّم الصواريخ بعيدة المدى هذه، وأطلق الـ"سكود" بالفعل، ولكن... ضدّ الداخل السوري، بدل العمق الإسرائيلي!

وبهذا المعنى لم يجانب الصواب كثيراً ذلك التأويل الذي استمدّ درساً ثالثاً من هذه السياقات تحديداً، فرأى أنّ للمقترح الروسي مرجعيات إسرائيلية؛ تكشفت على لسان بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، حين "خرج عن صمته" وشارك في تأطير أجواء ما سُمّي "زلة لسان" جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي؛ فأعطى بُعداً إسرائيلياً لانقضاض سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، على مقترح تسليم ترسانة النظام الكيميائية؛ وسهّل لهاث وليد المعلّم، ناطقاً بلسان معلّمه الأسد، إلى إعلان القبول الفوري. كان التوقيت لافتاً، بالفعل، حين كسر نتنياهو بنفسه حال التحريم التي فرضها على وزرائه، بصدد إطلاق التصريحات حول الضربة الأمريكية، فأعلن أنّ الوقت قد حان "لنزع الأسلحة الكيميائية في سورية"؛ دون أن ينسى إيران، بالطبع، إذْ حثّ على أن تشملها عمليات نزع مماثلة.

ذلك لأنّ إسرائيل كانت في حيرة بين جاذبية الموافقة على الضربة الأمريكية، بما ستسفر عنه من اهتراء إضافي في قدرات الجيش السوري (وليس قوّات النظام وحدها، أو أوّلاً، بالضرورة)؛ والنفور من الضربة ذاتها، بما قد تفضي إليه من تقوية وحدات المقاومة العسكرية ضدّ النظام (وهذه، وفق التصنيفات الإسرائيلية كافة، قوى معادية لإسرائيل بالضرورة، أو ليست على الأقلّ صديقة لها كما كانت عليه الحال مع نظام "الحركة التصحيحية" طيلة اربعة عقود ونيف). والأرجح، منطقياً، أنّ إدارة نتنياهو فضّلت خياراً ثالثاً، ليس أشدّ نفعاً وأعظم مغنماً فحسب، بل بدا بعيد المنال حتى افترت شفتا وزير الخارجية الأمريكي عن تلك "الزلة"، فلم يتأخر نتنياهو في مباركة الفرصة السانحة، إذا لم يصحّ القول إنه شجّع أصدقاء إسرائيل في الكرملين على اغتنام رياحها.

هذا درس رابع، إذاً، يشير مجدداً إلى مقدار التقارب ـ وربما التطابق، في كثير من التفاصيل، أيضاً ـ بين الموقفَين الروسي والإسرائيلي من نظام الأسد، وكذلك من الانتفاضة الشعبية استطراداً؛ بما تتضمنه حال التقارب، أو التطابق، من توافق على أمن إسرائيل في جانب حاسم من شبكات ذلك الأمن، أي بقاء النظام كواحد من أفضل ضامني ذلك الأمن. وهذه، في الآن ذاته، حال روسية ـ إسرائيلية ضاغطة على الولايات المتحدة، ذاتها، ابتداء من الرأي العام كما تصنّعه وسائل الإعلام المعروفة بانحيازها الأقصى لإسرائيل، مروراً بتجاذبات الكونغرس الحزبية التي تتكسر في الختام على صخرة الولاء لإسرائيل، وانتهاء بالرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه كمصبّ ينتهي إليه خضمّ هذه الاعتمالات، وسواها.

الدرس الخامس هو أنّ موسكو، في الانقضاض على "زلة لسان" كيري، لم تتقصد اجتراح شطارة دبلوماسية فائقة، بحيث أنها أخذت واشنطن على حين غرة، وأعادت خلط الأوراق على نحو جعل إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تبدو ـ ومعها في الظلّ تابعها، النظام السوري ـ أقرب إلى منتصر في لعبة عضّ الأصابع مع إدارة أوباما. ذلك تفسير تبسيطي، وانفعالي على نحو ما، يقيم موازين العلاقات بين روسيا وأمريكا، أو بالأحرى روسيا والعالم الخارجي عموماً، على ألاعيب الشطارة الأشبه بالضربات القاضية في الملاكمة. أغلب الظن، في المقابل، أنّ موسكو عثرت على منفذ نجاة لسياستها العالقة تجاه مجازر 21 آب (أغسطس) الكيميائية؛ إذْ بات مربكاً، ومحرجاً تماماً، أن تتمسك دولة عظمى مثل روسيا بسردية واحدة وحيدة، هشة وضعيفة وهزيلة، مفادها أنّ المعارضة هي التي استخدمت الأسلحة الكيميائية في "خان العسل"، وأنّ النظام لم يستخدمها في الغوطتَين الشرقية والغربية.

ومن الواضح أنّ ارتباك البيت الأبيض، حول الضربة العسكرية تحديداً، لم يبدأ من سوء التخطيط لها، وسوء إدارتها، سياسياً وإعلامياً وعسكرياً، والنقلات الدراماتيكية التي مرّت بها (ولم يكن قرار تحكيم الكونغرس أقلّها حصافة، أو أشدّها مدعاة لإثارة البلبلة في أذهان الأمريكيين)؛ بل بدأ من ابتداء سياسة أوباما تجاه الملفّ السوري، والانتفاضة الشعبية، وربما انتفاضات العرب جميعها، وذاك هو الدرس السادس. وهكذا، مجدداً، وقبل أن يشرع أوباما في ولايته الثانية، ويتولى كيري ملفات "الربيع العربي"؛ لعب البيت الأبيض ـ ممثلاً في مسؤوليه السابقين: وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، وزير الدفاع روبرت غيتس، رئيس أركان القوات المسلحة الأدميرال مايكل مولن، مساعد وزيرة الخارجية جيفري فلتمان، المدير في مجلس الأمن القومي الأمريكي دافيد لبتون، والمبعوث الشخصي فرانك وايزنر... ـ لعبوا، في تونس ومصر واليمن والبحرين، ثمّ في سورية لاحقاً، الأدوار الأسوأ والأشدّ ضرراً.

البيت الأبيض، وكما ساجلتُ شخصياً في مرحلة مبكرة من انطلاق الانتفاضة، ما يزال غير حاسم بصدد، أو غير مستقرّ تماماً على، تحديد سياسة مفصلة وملموسة وقابلة للتطبيق المرحلي، بصدد الملفّ السوري. واليوم أيضاً، كما في الماضي، هنالك أسباب وجيهة، سورية داخلية صرفة وإقليمية دولية أيضاً، جيو ـ سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل الملفّ السوري أشدّ تعقيداً، وإنذاراً بالمخاطر والمزالق، من أن يدفع أوباما إلى اتخاذ قرارات تسير على نقيض فلسفته الرئاسية، حول حروب أمريكا الخارجية بصفة خاصة.

ولقد سال حبر كثير في وصف ألعاب "الشطارة" الأخيرة، بين "زلة لسان" كيري هنا، وبراعة لافروف هناك؛ ولم نعدم جوقة "الممانعة" التي اعتبرت تراجع أوباما عن الضربة بمثابة انتصار للأسد، والمتواضع بينهم ردّ الانتصار إلى بوتين؛ كما غاب عن الجوقة أيّ صوت يتحسر على تفكيك ترسانة النظام الكيميائية بوصفها استقالة علنية من مبدأ "التوازن الستراتيجي"، فكيف بالركوع والانبطاح أمام "الصهيونية والإمبريالية العالمية". للحبر أن يسيل أكثر، بالطبع؛ وللدم السوري أن يُراق، بأسلحة كيميائية أو أخرى تقليدية؛ وللخاتمة، التي يدوّن التاريخ حيثياتها بتؤدة، أن تسير إلى حيث قرّر لها الشعب السوري أن تنتهي: شاء أوباما أم أبى بوتين، وتلكأ الأوّل أم تواطأ معه الثاني!