وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 20 سبتمبر 2013

واشنطن وطهران: مصارعة في سورية وتانغو في إسرائيل؟

لم تبدأ كرة الثلج في التدحرج إثر "زلّة لسان" من الرئيس الأمريكي باراك أوباما، على غرار حكاية "الخطّ الأحمر" الكيميائي الذي يتوجب على النظام السوري أن لا يعبره؛ ولا، أيضاً، من "زلّة" أخرى جديدة، تصدر عن وزير خارجيته، جون كيري. ذلك لأنّ الإفصاح عن تدشين جولة إضافية في الحوار الأمريكي ـ الإيراني بدأ من ذلك التسريب الذي تعمده أوباما نفسه، في حواره مع جورج ستيفانوبولوس، عبر قناةABC  الأمريكية، يوم 15 من هذا الشهر، بصدد احتمالات الضربة العسكرية الأمريكية ضدّ نظام بشار الأسد. هنالك رسائل متبادلة، أقرّ أوباما، واتصالات مباشرة أو عن طريق وسطاء، مع الرئيس الإيراني المنتخَب حسن روحاني.

تتمة مسير كرة الثلج سوف تشهدها اروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأسبوع القادم في نيويورك، حين سيتواجد أوباما وروحاني معاً؛ بعد تمهيد دراماتيكي من الأخير، خلال حوار غير مسبوق مع إحدى كبريات وسائل إعلام "الشيطان الأكبر"، شبكة NBC الأمريكية. لقد أعلن الرئيس الإيراني أنّ لديه سلطة كاملة للتفاوض مع الغرب، بشأن برنامج تخصيب اليورانيوم؛ وأنّ بلاده لن تقدم أبداً، مهما تكن الظروف، على تصنيع أسلحة دمار شامل، بما فيها تلك النووية؛ كما أكّد أنّ رسالة بعث بها إليه أوباما، مؤخراً، كانت "من وجهة نظري إيجابية وبناءة"؛ وأنّ هذه، جميعها، "خطوات صغيرة تجاه مستقبل هام". جاي كارني، المتحدث باسم البيت الأبيض، أدلى بدلوه: "في رسالته أوضح الرئيس أنّ الولايات المتحدة مستعدة لتسوية القضية النووية بطريقة تسمح لإيران بأن توضح أنّ برنامجها النووي لأغراض سلمية فقط". ومن جانبه قال علي أكبر صالحي، رئيس الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية: "نحن متفائلون جداً بشأن العملية التي بدأت لحلّ القضايا النووية".

وعلى هامش اجتماعات قمّة "منظمة شنغهاي للتعاون"، في العاصمة القرغيزية بيشكيك، تردد أنّ روحاني أطلع الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، على "الأجواء الإيجابية" التي أخذت تكتنف مشروع الحوار الإيراني ـ الأمريكي. وثمة مًن قرأ، طيّ الفقرات التي تخصّ الملفّ السوري في البيان الختامي للقمّة، رائحة اعتدال إيراني لا سابق له بصدد ترسانة الأسلحة الكيميائية للنظام السوري، والنأي عن تحميل المسؤولية لأيّ من طرفَي الصراع، النظام والمعارضة، في استخدام تلك الأسلحة (الأمر الذي عدّه البعض تنازلاً إيرانياً، لا يخلو أيضاً من خطوة روسية إلى الوراء).

ولكي تُسند أوراق اعتماد الحوار الوشيك بشهادة حسن سلوك إيرانية إضافية، بادرت سلطات طهران إلى مباغتة العالم بقرار الإفراج عن 11 من سجناء الرأي، بينهم ثماني سيدات، وعلى رأس المجموعة يبرز اسم المحامية والناشطة الشهيرة نسرين ساتوده، وكذلك السياسي الإصلاحي محسن أمين زاده. وكانت ساتوده تخدم حكماً بالسجن ستّ سنوات، بعد اعتقالها خلال الاضطرابات التي أعقبت انتخاب محمود أحمدي نجاد، سنة 2009؛ وجاء الإفراج عنها مفاجأة للجميع، بما في ذلك المفرَج عنها نفسها، إذْ صرّحت بأنها تجهل الحيثيات القانونية التي كانت وراء قرار إطلاق سراحها. ولا يخفى أنّ للتوقيت دلالاته الثمينة، بل الفاضحة في الواقع، إذْ يتصادف مع اقتراب موعد سفر روحاني إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

غير أنّ الضوء الأخضر الأشدّ سطوعاً، على طريق ابتداء حوار أمريكي ـ إيراني، جاء من آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، في لقاء ـ غنيّ الدلالات، كما يتوجب التشديد ـ مع قادة "الحرس الثوري"؛ قال فيه التالي، حول التفاوض: "لا أعارض الدبلوماسية المرنة، شريطة ان تكون شجاعة"، و"أؤيد إظهار تسامح الأبطال"، إذْ "قد يتساهل المصارع لأسباب تكتيكية، ولكنه يجب أن يتذكر مَنْ خصمه وعدوّه"؛ ثمّ قال التالي، الذي لا يقلّ أهمية، حول وظائف المنصتين إليه: "الحرس الثوري، ومن أجل الحفاظ على الثورة، ينبغي أن يمتلك بالتأكيد معرفة كافية وشاملة عن التطورات والتيارات في مختلف الساحات"، ولكن "ليس من الضروري أن يمارس الحرس الثوري أنشطة سياسية"، لأنّ "العيش حياة ثورية، والديمومة الثورية والثبات من المظاهر الجميلة للحرس الثوري".

وهكذا، بدا واضحاً أنّ خامنئي أباح للدبلوماسي الإيراني (الرئيس روحاني) أن يرقص التانغو مع نظيره الأمريكي، في نيويورك وما بعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليس في الملفّ النووي وحده، بل في كلّ وأيّ ملفّ سواه، بما في ذلك مصير النظام السوري؛ كما طالب المصارع الإيراني (الحرس الثوري عموماً، والجنرال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" ضمناً) باتباع بعض "الحركات الفنّية المرنة"، ذات الطبيعة التكتيكية، والمرنة؛ لأنّ "الساحة الدبلوماسية مسرح للابتسام" كما قال، وحلبة المصارعة باتت مسرحاً للمجازر الكيميائية، كما للمرء أن يفترض! في عبارة أخرى، ما دام روحاني سيؤكد للبيت الأبيض أنّ إيران لن تصنّع أسلحة نووية (الأمر الذي سيطمئن إسرائيل)؛ فإنّ في وسع سليماني، ثمّ نصر الله من بعده، تهدئة الحلبة قليلاً، حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود في الحوار الأمريكي ـ الإيراني.

والمرء، هنا، يعود بالذاكرة إلى ربيع العام 2009، حين جاز للبعض أن يطلق صفة الـ"دراماتيكية" على رسالة التهنئة التي وجهها أوباما إلى الشعب الإيراني،في مناسبة السنة الجديدة الفارسية؛ وحين امتزجت اعتبارات شكلية (اختيار الصيغة المتلفزة، والترجمة المتزامنة إلى اللغة الفارسية أسفل الصورة، والبثّ عبر إذاعة صوت أمريكا) مع أخرى تخصّ المحتوى الأهمّ، لترجيح انطلاقة أخرى في مشاريع الحوار الأمريكي ـ الإيراني. ذلك لأنّ تلك الرسالة كانت، والحقّ يُقال، قد مثّلت انعطافة فارقة عن خطّ الإدارة السابقة، وانفكاكاً عن خطاب "المحافظين الجدد" بصدد إيران إجمالاً، ونظرية "محور الشرّ" التي اعتمدها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بصفة خاصة. أمّا في الجوهر، أي سلسلة الخيارات الستراتيجية التي ظلّت إدارة أوباما تقرّها وتعمل بهدي منها (وبعضها يرتقي إلى مستوى "الثوابت" الراسخة، مثل أمن إسرائيل)، فإنّ المبادرة كانت محتومة؛ ليس بالمراوحة في المكان، هذه المرّة، بل بالموت الفوري.

فإذا طوى المرء صفحة خطابات التشدّد والتهديد والعدوانية التي أشاعها جورج بوش الابن ونائبه ديك شيني ضدّ إيران، واستبشر خيراً في ميل أوباما إلى فتح صفحة جديدة مع "حضارة عظيمة"، لشعب "كان فنّه، وموسيقاه، وأدبه، وابتكاره قد جعلت العالم مكاناً أفضل وأجمل"، كما جاء في رسالة التهنئة تلك (وكما في لغة أوباما الوردية عن "الطاقة الفكرية" الإيرانية، هذه الأيام)؛ فإنّ حصيلة المحاولات السابقة ـ قبل بوش الابن، وقبل صعود خطاب "المحافظين الجدد" ـ لا تبشّر بخير جلي، أو لعلها تنذر بالنقيض. وقبل عقد من الزمن، سبق تلك الرسالة، كانت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، قد دعت إلى رسم "خريطة طريق" للعلاقات الأمريكية ـ الإيرانية، واعدة بالخير إذا أحسن الإيرانيون قراءة ما حمّلته عليها الإدارة من تفاصيل طبوغرافية (بحار وأنهار، تلال ووديان، دروب مستقيمة وأخرى متعرّجة... كما للمرء أن يتخيّل!).

العقدان صارا ثلاثة ونيف اليوم، وبدل أن تنجسر الهوّة (كما استبشرت أولبرايت في خطبة مأثورة، أمام "الجمعية الآسيوية")، فإنها ازدادت اتساعاً؛ والخريطة التي يمكن أن تُرسم اليوم تحتوي على أربعة عناصر متفجرة (برنامج إيران النووي، نظام بشار الأسد، عراق نوري المالكي، و"حزب الله") لم تكن متوفرة في خريطة 1998. كذلك لم يكن نجاد (صاحب التصميم على "محو" إسرائيل من الخريطة، واليقين بأنّ الإمام المهدي يدير العالم) هو رئيس إيران، بل محمد خاتمي، الرئيس الأكثر اعتدالاً وتنويراً في تاريخ الثورة الإسلامية الإيرانية.

وفي تلك الحقبة أجرى خاتمي حواراً مع شبكة الـ CNN بدا دراماتيكياً بدوره، وربما أكثر من رسالة التهنئة المتلفزة التي وجهها أوباما، إذْ كان الأوّل من نوعه ومحتواه ومستواه منذ انتصار الثورة سنة 1979. ولقد سعى الرجل إلى توجيه أكثر من رسالة سياسية ـ عقائدية إلى الداخل (حيث كانت رسائل كهذه ترقى إلى مستوى العلاج بالصدمة)؛ ثمّ إلى العالم بأسره، وإلى الولايات المتحدة خاصة (حيث لا تبدو الرسالة "شيفرة" مبطنة، قياساً على وضوح سياقاتها ودوافعها). وكان خاتمي أشدّ ذكاء وحصافة من أن يصرف نصف ساعة في مديح "الأمّة الأمريكية العظيمة"، ودقائق معدودات فقط في ملامة القيادات الأمريكية، ويعتبر هذه الحصيلة رسالة "اعتدال" هادفة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية. كان، في الحقيقة، يمارس مزيجاً من التسليم والنقد الذاتي، حين اعتبر أنّ السطور الأولى في تلك الصفحة لن تكتبها مبادرة دبلوماسية من أي نوع (معلَنة أو خفية، فالأمر سيان)؛ بل قد يدشنها "أساتذة الجامعات والكتّاب والعلماء والفنانون والصحفيون والسيّاح"، كما اقترح خاتمي، ربما على غرار المعجزة التي اجترحتها كرة الـ"بنغ بونغ" في العلاقات الصينية ـ الأمريكية ذات يوم.

وثمة، ما تزال، "لاءات" ثلاث كبرى، إذا صحّ القول، تختصر روح الموقف الأمريكي من إيران: الأولى، بسبب دعم طهران لما تسمّيه واشنطن "حركات الإرهاب الإسلامي" إجمالاً، و"حزب الله" تحديداً (وكذلك "حماس" في حقبة سابقة)؛ والثانية، بسبب إصرار إيران على تطوير قدراتها النووية، في الصناعة المدنية قبل العمل على امتلاك أسلحة الدمار الشامل؛ والثالثة، بسبب موقف إيران المناهض، أو غير المؤيد، للعملية السلمية التي تديرها الولايات المتحدة بين العرب وإسرائيل. على تخوم "لاءات" كهذه يبقى العراق شوكة عالقة بجبهات الصدام الثلاث، منفردة أو مجتمعة، ولعلّ الانسحاب العسكري الأمريكي انقلب إلى إعادة جدولة لتلك اللاءات، بما أسفر عن حقنها بالمزيد من أسباب التوتّر. وعلى التخوم، هذه الأسابيع بصفة خاصة، ثمة نظام الأسد في أبعاده الداخلية التي تخصّ الانتفاضة الشعبية، وفي استقطابات قوى المعارضة الديمقراطية والوطنية والعلمانية، مقابل قوى التشدد الإسلامية؛ وثمة، أيضاً، استقطابات المحاور الإقليمية الإيرانية/الخليجية/التركية/الإسرائيلية...

الأرجح، إذاً، أنّ تقاسم المهامّ بين المصارع الإيراني ومواطنه راقص التانغو سوف يفضي إلى طراز من الازدواج والتضارب والتناقض، وليس إلى أيّ حدّ أدنى من التناغم والانسجام والتكامل؛ الأمر الذي يراقبه، بأناة وخبث وترصّد، أناس من أمثال بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وينجرّ إلى حلباته البيت الأبيض أسوة بالكرملين، كلٌّ من حيث تقديره لحصيلة الربح والخسارة؛ ويتساقط ضحيته، باضطراد وثبات، خاسرون طغاة من أمثال بشار الأسد، وخاسرون أتباع على شاكلة حسن نصر الله. والأيام القادمة، القليلة، كفيلة بتبيان الحدود القصوى للفارق بين "التسامح البطولي" في المصارعة، و"الحركات الفنّية" في التانغو!