وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأربعاء، 26 يوليو 2017

خفايا البصر وكنوز الدلالة

مفردة Sei اليابانية تُلفظ بطريقة موحدة، ولكنها في أبجدية الـ"كانجي" تأخذ 28 هيئة حروفية، وتفيد سلسلة متشعبة ومتنوعة، ومتناقضة أحياناً، من المعاني: النجم/ الصوت، الازرق، الجنس، الطاقة، الموت، الخيانة، السكينة، الطهارة... والمصوّرة الفوتوغرافية اليابانية يوريكو تاكاغي عكفت على هذا "الكنز" الدلالي، لتتوغل في المعاني، ثمّ في الظلال والإيحاءات والتداعيات، التي يمكن أن تعطيها تنويعات الـSei في 28 من براعم الزهور. ثمة بتلات مخططة، وأخرى مطوية، وثالثة منحنية، ورابعة منكمشة، وخامسة شاخصة... أهذه، حسب تاكاغي، أزهار حقاً؛ أم عناصر مختلفة لحوائج الحياة اليومية؟
هذه إجابات بصرية، أمّا قرائنها في الجانب الدلالي، فقد عُهد باستكشافها إلى الأرجنتيني ـ الكندي ألبرتو مانغويل، مؤلف الكتاب المدهش الشهير "تاريخ القراءة"، فأسفر العمل المشترك عن كتاب جميل، في الشكل كما في المحتوى، صدر مؤخراً في 80 صفحة. التجربة ـ على طرافتها، حتى بالمعنى الطباعي الصرف ـ تنتقل بالحوار القديم بين الصورة والمعنى، أو بين الرسم والدلالة حسب المعطيات الحروفية في أبجدية الـ"كانجي"، نحو طور جديد تعبيري وإبداعي. والاعتبار الأوّل، هنا، يتمثل في أنّ تاكاغي لا تبتدع عنصراً مادياً طارئاً على التكوين المورفولوجي لبراعم الزهور؛ بل تترك للعدسة أن تستنطق حيوات أخرى كامنة في الطبيعة الصامتة ذاتها، ولعلها روح العناصر وقد مكثت دفينة وخافية.
وأمّا مانغويل، فإنه يمارس هوايته الأثيرة في الميدان الذي برع فيه على الدوام: الذهاب أبعد وأعمق، ثمّ أطرف وأغرب، من المستويات المتعارف عليها لمفاهيم القراءة، فضلاً عن وظائفها وأنواعها وطرائقها. المرء يتذكر، هنا، كتابه الثاني الشهير، "قارىء حول القراءة"، الذي يبدأ من سيرة طفولته الأولى، حين أُهدي كتاب "أليس في بلاد العجائب"؛ ليمرّ على تجارب شتى في القراءات، ونماذج متنوّعة من السرد والشعر والمسرح؛ فلا ينتهي به المطاف عند منافع قراءة، وإعادة قراءة، أمثال هوميروس ودانتي وشكسبير وفريد الدين العطار وسيرفانتس وإميلي دكنسون وجيمس جويس وبورخيس وصمويل بيكيت وهارولد بنتر ومحمود درويش، وسواهم، في لائحة مختاراته.
لكنّ القراءة، عند مانغويل، فضاء أرضي أيضاً، وصِلات وثيقة بين النصّ والمكان؛ إلى درجة أنّ بقعة ما، يمكن أن تفقد تسميتها الجغرافية لصالح كاتب ارتبط بها، وارتبطت به، على نحو أو آخر. وهكذا، تصبح مدينة أوريغون كناية عن أرسولا لوغوين، الكاتبة الأمريكية نجمة ستينيات القرن الماضي؛ وبراغ هي غوستاف ميرينك، الكاتب النمساوي الذي سكن فيها 20 سنة واستوحى مناخاتها في أبرز أعماله؛ وفينيسيا هي معشوقة الروائي الأمريكي هنري جيمس، حيث أنجز "صورة سيدة"، وامتدح المدينة في سلسلة مقالات أخاذة؛ والجزائر هي رشيد بوجدرة، الروائي الجزائري الكبير، صاحب "الحلزون العنيد" و"ألف عام وعام من الحنين"...
وفي ربيع 2001 أتيحت لي بهجة الاستماع إلى مانغويل مباشرة، في المكتبة الأمريكية، في باريس؛ يحاضر عن كتابه الأحدث آنذاك: "قراءة الصورة: تاريخ الحبّ والكراهية". وذاك عمل، مثل هذا الكتاب الجديد المشترك مع تاكاغي، يسعى إلى إنصاف الذائقة البصرية للمشاهد العادي، الذي يهوى الفنون التشكيلية وأعمال النحت والفوتوغراف والعمارة، ولكنه مضطرّ للخضوع لبعض أنماط "الاستبداد" التي تفرضها رطانة النقد ونظريات فلسفة الفنون. والكتاب يتضمن قراءات تنقّب عميقاً في باطن الصورة، أو المنحوتة أو النصب التذكاري، لكي تستخلص خطوط الترميز بوصفها حكاية، أو غياباً، أو أحجية، أو شاهداً، أو استيعاباً، أو انعكاساً، أو عنفاً، أو تهديماً، أو فلسفة، أو ذاكرة، أو مسرحاً...
ولا تفوتني، ختاماً، وقفة عند كتاب ثالث من مانغويل، لا يقلّ إدهاشاً وطرافة وجدّة في آن معاً، هو "مفكرة قراءة: تأملات قارىء شغوف حول سنة من الكتب". هنا، كما قد يوحي العنوان، يدوّن مانغويل وقائع قراءاته طيلة سنة كاملة، يوماً بيوم تقريباً، وأحياناً وقت الصباح والظهيرة والعشية والليل، ولكن ليس على النحو الطبيعي الذي قد يخطر على بالنا جميعاً: إنه لا يدوّن مذكرات حول ما قرأ أو يقرأ، بل حول نمط محدّد فريد واستثنائي من القراءة: ما المغزى الراهن الذي يحمله عمل كلاسيكي ما، كُتب قبل مئات السنين؟ في إطار عامّ، وكوني أوّلاً؛ ثمّ في نطاق يخصّ البلد الذي ينتمي إليه ذلك العمل، تحديداً؟
وما هَمّ أن تتفاقم أهواء التأويل وتقلبات المغزى، ما دامت القراءة تتيح إبصار الخفاء وامتلاك كنوز الدلالة!
7/9/2014