وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأربعاء، 26 يوليو 2017

غيفارا: أي ريح تهزّ الجبل؟

نايجل كوثورن كاتب أنغلو ـ أمريكي، صاحب رقم قياسي في التأليف: أكثر من 150 كتاباً، بين سيرة وتحقيق وتأريخ وسرد، يأخذ معظمها صفة السلاسل. هنالك، مثلاً، سلسلة "الحياة الجنسية"، للبابوات، ورؤساء أمريكا، وكبار الدكتاتوريين، وكبار الفنانين، وكبار الموسيقيين، ومشاهير المثليين، ومشاهير المثليات، وأباطرة روما، ونجوم هوليود؛ وأيضاً، سلسلة "تاريخ موجز"، لأمثال روبن هود، جيمس بوند، شرلوك هولمز، وأغاثا كريستي... ولأنّ مؤلفاته تعتمد على الإثارة والإبهار، والتغريد (النشاز، عن سابق عمد وتصميم) خارج السرب؛ فإنّ كوثورن "كاتب حسب الطلب"، كما يقرّ بنفسه، ولا مشكلة عنده البتة في أن يؤلف كتاباً بناء على رغبة هذا الناشر أو تلك الجهة.
أحدث صرعاته كتاب بعنوان "شي غيفارا: الفاتح الأخير"، تبدأ السطور الأولى في مقدّمته من الإقرار التالي: "مثل الكثيرين من الطلاب خلال أعوام الستينيات، اعتقدت أنّ شي غيفارا كان إلهاً في إهاب بشر، وكان مثالياً قاتل دفاعاً عن المضطهدين، من أجل الحرية والعدالة والتحرر". أمّا الآن، وفي هذا الكتاب، فإنّ شي غيفارا صار مجرماً، قاتلاً، مهووساً، عنصرياً، يكره السود وهنود أمريكا، ويغدر برفاقه ويقتلهم في الظهر؛ وكان ستالينياً، وشيوعياً متشدداً، وتقرّب من خوان بيرون دكتاتور الأرجنتين، وحرّض السوفييت على توجيه ضربة صاروخية ضدّ أمريكا خلال الأزمة الشهيرة، وفي الآن ذاته فتح أقنية خلفية مع الرئيس الأمريكي كنيدي، وشعب الكونغو يعاني حتى الآن من مغامرته الطائشة، والحزب الشيوعي البوليفي لم يرغب بمجيئه إلى البلد، أسوة بجميع الأحزاب الشيوعية في البلدان المجاورة. وباختصار، قولاً واحداً عند كوثورن: "منطلقاً من حافز العداء المتطرف لأمريكا، كان غيفارا بمثابة أسامة بن لادن الستينيات"!
بادىء ذي بدء، من حقّ كوثورن، أو سواه، التنقيب، والنبش حتى الأغوار الأعمق، في ما خفي من تفاصيل حياة أية شخصية عامة، فكيف برجل مثل شي غيفارا انقلب حقاً إلى أيقونة كونية، عابرة للحدود والحساسيات والثقافات والأجيال. ولكن من واجب هذا الطراز في التأليف، التأريخي التنقيبي، وبادىء ذي بدء أيضاً، أن يتحلى بالحدود الدنيا من الرصانة والنزاهة والموضوعية والإنصاف؛ وتلك ـ لدى قراءة الفصل الأول، فقط، من كتاب كوثورن، وعنوانه "موت أيقونة" ـ ليست خصال المؤلف، ولا تأليفه. العكس هو الصحيح، في الواقع، وعن سابق عمد وتصميم هنا أيضاً، إذْ كيف يكون التغريد خارج السرب، الغيفاري إذا جاز القول، دون النبش بطريقة التهشيم والتخريب، ذات اليمين وذات الشمال!
شي غيفارا كان آدمياً، وخطّاءً بالتالي، وبالضرورة؛ وربما كان قسط الخطأ البشري مرتفعاً عنده، هو بالذات، قياساً على الحياة الثورية التي عاشها، وتقلّبات الأزمنة والسياقات والجغرافيات، ثمّ السياسات والعقائد والذهنيات والشخوص، التي توجّب عليه مواجهتها، ومجابهتها. غير أنّ هذا كلّه لا يفضي به إلى الصورة الأحادية، البغيضة والمنفرة والكريهة، التي سعى كوثورن إلى حصره فيها؛ على نقيض ـ متعمد دائماً، ومقصود ومتخابث وحاقد ـ من الصور الكثيرة التي تبدّى فيها شي غيفارا، وما يزال يتبدى بعد 47 سنة أعقبت اغتياله في أحراش بوليفيا.
إنه أسطورة حيّة لا يلوح أنّ الكثير من الوهن قد أصابها، على صعيد الحنين الرومانتيكي إلى حقبة حافلة من كفاح الشعوب ضد الإمبريالية إجمالاً، والإمبريالية الأمريكية بصفة خاصة. واللافت أن الأسطورة تتواصل، بل تكبر وتترسخ أكثر، في ذروة الصعود الأمريكي ـ الإمبريالي وانكسار "حركات التحرّر"، أو اندحارها عملياً علي الأرض. وقد يصحّ القول إنّ أصل الحكاية الغيفارية يضرب بجذوره في فكرة الأسطورة ذاتها، وما دام الرجل "أسطورة"، أو يكاد؛ فلماذا ننتظر من الأسطورة أن تندثر خلال أقلّ من خمسة عقود، وهي حقبة زمنية قصيرة تماماً في حساب أعمار الأساطير؟
ومع ذلك فإن مشروعية السؤال تتكيء على حقيقة واحدة كبرى، إذا عزّت الحقائق الأخرى الأقلّ شأناً: أننا اليوم في زمن اندثار الرومانتيكية، سواء أكانت سياسية ثورية أم أخلاقية عاطفية؛ والعولمة الطاحنة الدائرة على قدم وساق لا تترك كبير هامش لاستعادة الأحلام المنكسرة، حين يكون الهشيم هو سيّد المشهد. فكيف تحتفظ أسطورة رومانتيكية بكلّ هذا الألق والبهاء والدلالة والحيوية، في غمرة الاندحار والانكسار والاندثار؟
سؤال قد يشجّع على قراءة كتاب كوثورن، من أبواب شتى؛ بينها، في نظري شخصياً، هذا الباب: التيقّن من أنّ الجبل لا تهزّه ريح!
30/8/2014