وعزّ الشرق أوّله دمشق

الثلاثاء، 16 يناير 2018

سيلفيا بلاث في طينة البشر

خبر بهيج أن يصدر، في 1424 صفحة، عن هاربر، المجلد الأول من رسائل الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث (1932 ـ 1963)، وأن يغطي سنوات 1940 ـ 1956، ومراسلات مع أكثر من 120 شخصاً، وعشرات الصور الفوتوغرافية والرسوم التي تُنشر للمرة الأولى. أسباب البهجة عديدة، لا تبدأ مما تحتويه مئات الرسائل من تفاصيل حول حياة واحدة من أكثر شاعرات القرن العشرين إشكالية، فحسب؛ ولا تنتهي عند تسليط المزيد من الأضواء على مناخات الشعر الأمريكي، والبريطاني أيضاً، خلال أحقاب عاصفة. وبالطبع، ثمة الكثير من المعطيات التي تكشف خفايا تجربة بلاث المعقدة مع الشاعر الإنكليزي تيد هيوز (الذي سيصبح زوجها)، وملابسات انتحارها.
ويندر أن تكون وفاة شاعرة قد حظيت باهتمام بالغ يفوق مسارات حياتها ذاتها، أو منجزها الشعري، من حيث مقدار الغموض، وحجم الأسئلة التي تتوالد من سواها؛ وكذلك اكتساب صفة استمرار مضطرد اكتنفت، وما تزال، سيرورة البحث والتنقيب، والكثير من الفضول أيضاً. بعض السبب قد يكون عائداً إلى قسط آخر من الفضول، يخصّ هيوز نفسه، الزوج العاثر الحظّ الذي انتحرت زوجته الأولى، بلاث، لأنه هجرها إلى امرأة أخرى، هي آسيا ويفيل؛ وهذه الأخيرة انتحرت بدورها لأسباب لا أحد يجزم بها على وجه الدقّة.
ولقد جرى العرف على تحميل هيوز مسؤولية الانتحارَين، معاً؛ ولكنّ الرجل التزم الصمت المطبق، وأعطى أذناً صمّاء لعشرات حملات التأثيم التي شنتها ضده الحلقات الأدبية النسوية، وأنصار بلاث في الولايات المتحدة بصفة خاصّة. وفي مطلع العام 1998 قرّر أن يكسر الصمت من خلال "مرافعة" بالغة الخصوصية، فأصدر مجموعة شعرية بعنوان "رسائل عيد الميلاد"، لقيت على الفور ترحاباً واسعاً؛ ليس لأنها كانت تقترح اسلوبية متقدمة في فنّ هيوز الشعري، فحسب، بل كذلك لأنها كانت تُشبع بعض أسئلة الفضوليين أيضاً!
دفاع شعري، إذن، عن "تهمة" جنائية أو تكاد، غائمة التفاصيل وغائبة الأدلة، يسيّجها التعصّب النسوي المغالي، أو التعاطف الوجداني الجارف مع المرأتين المنتحرتين؛ ومع بلاث، الزوجة/ الشاعرة الرقيقة اللامعة، بصفة خاصة. وهو دفاع ينتهج قصيدة الحبّ من جهة، ولكنه من جهة ثانية يعيد كتابة الكثير من فصول حياة هيوز مع بلاث وعشقه لها. والأهمّ أنه يميط اللثام عن أطوار غير عادية في حياة بلاث النفسية والروحية، ويترك للقارئ أن يقدّر بنفسه... إذا بقيت لديه حوافز كافية لإصدار "حكم" بوليسي، بعد كلّ ذلك الشعر الرفيع.
وشخصياً، ودونما إغراق في تفاصيل لا يسمح المقام بها، لا أميل إلى تحميل هيوز المسؤولية الأولى عن وفاة بلاث، لأنّ الأسباب التي دفعتها إلى محاولة الانتحار الأولى (قبل سنوات من تعرّفها على هيوز) ظلّت تتنامى في داخلها؛ وظلّ إحساسها المبكّر بانعدام الأمان يضغط على حياتها العائلية والنفسية والشعرية، إلى أن بلغ ذروته القصوى وقادها إلى تلك الطريقة الفاجعة في الانسحاب من الحياة. وممّا له دلالة خاصّة أنّ قصائدها الأخيرة، فضلاً عن مسرحية إذاعية بعنوان "ثلاث نساء"، كانت تشير إلى تمارين رهيبة في محاولة اعتياد الموت؛ وكانت، في الآن ذاته، تمتدح الحياة الأخرى التي يخبئها "اللقاء الناجح مع الموت" كما ستقول.
ولعلّ أكثر ما يلفت الانتباه أنّ هيوز يوحي، في "رسائل عيد الميلاد"، بأنه لم يكن قادراً على الحيلولة دون انتحار بلاث، وأنه كان شاهداً لا حول له أمام ذلك الاضطرام العارم الذي كان يكتسح أعماقها. كذلك يلمّح إلى أنّ مآلات لقائه مع بلاث كانت مسألة قَدَرية صرفة، سواء رُدّت جذورها إلى ارتطام نفسَيْن خلاّقتَين شاعرتَين؛ أو إلى هوس بلاث المَرَضي بذكرى موت أبيها، وميلها إلى إسقاط شخصيته على هيوز (إذْ كانت ترى في الأخير صفات الأب والحامي والعشيق). وثمة مَنْ يذهب إلى ترجيح أقصى: لقاء بلاث ("مارلين مونرو الشعر"، كما لُقبت)، وهيوز (شبيه ذلك الأرستقراطي غريب الاطوار في حكاية الفرنسي شارل بيرو، الذي اعتاد قتل زوجاته داخل أسوار قصره)، كان محتماً أن ينتهي بالفاجعة.
وفي مقدمة المجلد الأول هذا يشير المحرران، بيتر شتاينبرغ وكارين كوكيل، إلى أنّ بلاث في رسائلها كانت أكثر من شخصية واحدة، تبعاً للناظر إليها: إبنة، طالبة، صحافية، شاعرة، صديقة، فنانة، حبيبة، زوجة، روائية، وأمّ. ولكنها، في المقام الأول، كانت من طينة البشر، ولهذا فإن مراسلاتها تحتوي على كلّ ما يشير إلى تعدد شخصيتها، من الحديث عن القنبلة الذرية وفلسطين، إلى شعر و. ب. ييتس ورواية جيمس جويس؛ ليس دون ارتكاب أخطاء طباعية ونحوية، واستخدام اقتباسات مغلوطة، وتوظيف أضاليل هنا ومبالغات هناك...
وفي رسالة بتاريخ 20 آذار (مارس) 1943، أرسلت بلاث إلى أمّها قصيدة (تُنشر للمرة الأولى في هذا المجلد) تقول: "إغرسي شتلة صغيرة/ اخلطيها بمطر ورذاذ/ حرّكيها بقليل من ضياء الشمس/ ولسوف تنبت بعض الزهور". وكشوفات كهذه هي بعض بهجة الإبحار في مئات الصفحات من مراسلات حارّة، دافقة بالحياة، ومترعة بشجن الشعر وحيرة الوجود، في آن معاً.
19/11/2017