وعزّ الشرق أوّله دمشق

الثلاثاء، 16 يناير 2018

إعادة إنتاج السيسي: حفظ النوع في المؤسسة العسكرية

ثمة العديد من الخلاصات التي يُتاح استنتاجها اعتماداً على سلسلة التسريبات الصوتية الأخيرة، بين الضابط في المخابرات الحربية المصرية وعدد من الإعلاميين والفنانات؛ بصدد مسائل متفرقة، تبدأ من تجميل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول القدس، وتمرّ بترهيب الشارع الشعبي المصري من مصير مماثل لواقع اليمن وسوريا، ولا تنتهي عند تأثيم دول أو شعوب بأسرها (كما في التعريض بـ"الخلايجة" مثلاً). وأمّا القاسم المشترك الأعظم، الذي يجمع بين هذه التسريبات على نحو مباشر أو ضمني صريح الصلة، فهو تلميع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مع دنوّ موعد الانتخابات الرئاسية، أواخر آذار (مارس) المقبل؛ وترويع منافسيه قياساً على نموذج الفريق المتقاعد أحمد شفيق، الذي لم يتأخر بالفعل، فأعلن عدوله عن الترشيح بعد أن كان جزم بهذا في خطاب متلفز.
لعلّ أطرف الخلاصات، بادئ ذي بدء، هي أنّ الضابط في المخابرات الحربية اختار الرجال في صفّ الإعلاميين ومقدّمي برامج الـ"توك شو"؛ واختار النساء حصرياً، في صفّ فنانات السينما والدراما. وإذا كان هذا الخيار محض "ذائقة" شخصية، ذكورية على نحو ما، ترجّح سطوة الرجل في ميدان، مقابل سطوة المرأة في ميدان آخر؛ فإنّ من الجائز الافتراض، أيضاً، بأنّ الضابط يمثّل صوت سيّده كذلك، وأنّ جهاز المخابرات الحربية قد يقدّر في المرأة طاقة حشد وتحريض مختلفة عن تلك التي يقدّرها في الرجل! صحيح أنّ الاستعداد للتعاون متساو في نظر ضابط المخابرات بين الإعلاميين الرجال والفنانات النساء، إلا أنّ تكليف الرجال بدا أكثر ابتذالاً من تكليف النساء، الأمر الذي يشير إلى جانب آخر في الطرافة: نظرة الجهاز إلى فارق فاعلية التأثير على الجماهير، بين برنامج ثرثرة سياسية ومسلسل تلفزيوني!
بعيداً عن الطرافة، وفي مسألة أكثر حساسية ودلالة، ثمة تلك الخلاصة التي تؤشر على طبيعة التنافس بين جهاز المخابرات الحربية، وجهاز المخابرات العامة؛ من وحي الشتائم المقذعة التي استخدمها ضابط المخابرات الحربية في وصف بعض ضباط المخابرات العامة، أثناء واحد من تسجيلاته المسربة. ومن حيث المبدأ، لا يتوجب أن يكون لائقاً بضابط يشتم زملاءه في جهاز استخبارات آخر حين يتحدث إلى إعلامي، حتى إذا كان الأخير عميلاً رخيصاً؛ أو بالأحرى: لا يستقيم الشتم أمام هذا الطراز من العملاء، تحديداً. واضح، استطراداً، أنّ التنافس بين الجهازين ليس أمراً عارضاً، رغم أنه قد لا يرقى إلى مستوى التصارع. ففي نهاية المطاف، ورغم أنّ الجهاز الأوّل هيئة مستقلة، والثاني يتبع وزارة الدفاع؛ فإنّ الجهازَين يتبعان رئاسة الجمهورية، بحكم القانون والواقع الفعلي.
ومع احتساب إمكانية، محدودة وضيقة أغلب الظنّ، للتنافر الشخصي بين اللواء خالد فوزي رئيس المخابرات العامة، واللواء محمد فرج الشحات مدير المخابرات الحربية؛ فإنّ شتائم ضابط الجهاز الأخير بحقّ زملائه في الجهاز الأوّل يمكن أن تشير إلى توازن عالق بين الجهازين، قديم العهد في الواقع، لكنه تجدد بقوّة خلال انتفاضة ميدان التحرير، 2011، وما أعقبها من تحولات سياسية وعسكرية وأمنية عاصفة. وفي أنظمة استبداد من الطراز الذي يقوده السيسي في مصر المعاصرة، ثمة مركز أعلى أوّل ومهيمن، يتملكه نزوع طاغٍ إلى تطويع قطاعات الدولة المختلفة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية؛ لا تُستثنى منه أجهزة الهيمنة الأخرى الأقلّ شأناً، أو الأكثر قدرة على المنافسة. 
وهكذا، عشية إسقاط حسني مبارك، كان عمر سليمان قد تولى رئاسة المخابرات العامة طيلة 18 سنة، فنقل الجهاز إلى مستويات عالية من النفوذ والتحكم والسيطرة داخل مصر، فضلاً عن أداء مهامّ سياسية محورية في الخارج لم تكن معهودة في عمل الجهاز من قبل، رغم تعاقب شخصيات هامة في رئاسته، أمثال زكريا محي الدين وعلي صبري وصلاح نصر. وظلّ الجهاز هو المرجعية لأجهزة البطش الكبرى التابعة لوزارة الداخلية، أي الأمن المركزي ومباحث أمن الدولة وجهاز الشرطة، رغم النفوذ الكبير الذي تمتع به وزراء داخلية مقرّبون من مبارك، وكان آخرهم حبيب العادلي على سبيل المثال. لكنّ انهيار الجهاز، مترافقاً مع انهيار إمبراطورية العادلي القمعية، خلال الأيام التي سبقت تنحي مبارك؛ رجّح الكفة لصالح المخابرات الحربية، خاصة حين انتشرت وحدات الجيش في العاصمة، على نحو كثيف لم يسبق له مثيل من حيث العدد والسلاح منذ توقيع اتفاقية كامب دافيد، في عهد أنور السادات.
بدت المفارقة صارخة في الواقع، إذْ أنّ أعداد أجهزة وزارة الداخلية كانت تقارب المليون عنصر، بين أمن ومباحث وشرطة؛ في مقابل 470 ألف جندي، هي كامل عديد الجيش المصري. لكنّ هذه المفارقة كانت تعكس وجهة أخرى للتوازن العالق بين الجيش/ المخابرات الحربية، والداخلية/ المخابرات العامة، ضمن مبدأ ناظم أوّل وتكويني على نحو ما، هو أنّ المؤسسة العسكرية هي التي هيمنت على موقع رئاسة الجمهورية منذ حركة "الضباط الأحرار"، صيف 1952: محمد نجيب، جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك، حسين طنطاوي، وعبد الفتاح السيسي. لذلك فإنّ محمد مرسي، الرئيس الوحيد الذي انتُخب ديمقراطياً، كان استثناء القاعدة؛ هذه التي توجّب العودة إلى الالتزام بها عبر انقلاب السيسي العسكري في تموز (يوليو) 2013.
وليس تفصيلاً عابراً أنّ منافسي السيسي في الأشهر القليلة التي أعقبت انقلابه كانوا على رأس مناصب عسكرية عالية، أو تقاعدوا عنها، وبالتالي كانوا أبناء المؤسسة العسكرية ذاتها التي تستولد رؤساء الجمهورية في مصر. هذه، في المثال الأبرز، حال الفريق سامي عنان، رئيس أركان الجيش المصري بين 2005 و2012، والشخصية التي بدت الأقرب إلى تولّي إرث المؤسسة العسكرية بعد انتخاب مرسي؛ الأمر الذي يفسّر لجوء الأخير إلى إقالته، خشية أن يترأس انقلاباً عسكرياً. ومن سخرية الأقدار أنّ مرسي اختار "تفكيك" المؤسسة العسكرية عن طريق استبعاد عنان، ومجموعة المشير طنطاوي، مقابل ترقية ضابط مغمور، "إسلامي الهوى" كما لاح، يدعى... عبد الفتاح السيسي!
هذه، أيضاً، كانت حال الفريق المتقاعد أحمد شفيق، قبل أن يعدل عن الترشيح للانتخابات المقبلة، تحت تهديد التلويح باقتياده إلى المحاكم وفتح ملفات فساد جديدة. ولم يكن تفصيلاً غريباً أن يعطي ضابط التسريبات الصوتية توجيهات بعدم مهاجمة شفيق في المرحلة الراهنة، وقبل أن يعلن عزمه على الترشيح؛ لا لأيّ اعتبار آخر يسبق كونه ابن المؤسسة العسكرية، ولا تجوز إهانته من هذا المنطلق، إلا إذا اختار السباحة عكس التيار الذي تحركه المؤسسة العسكرية. وكما بادر عنان مراراً إلى انتقاد السلطة، رغم عدم تسمية السيسي شخصياً (كما في تصريحه حول سدّ النهضة، والقول بأن "فشل" الحكومة في إدارة الملف "يصل إلى حدّ الخطيئة")؛ كذلك فإنّ شفيق، في بيانه المتلفز من قناة "الجزيرة" قبل أسابيع قليلة، قال بوضوح: "أؤمن إيماناً كاملاً وقوياً بأنّ أي نجاح مأمول صغر أم كبر لن يتحقق في بلادنا ما لم نحظ بنظام للحكم مدني وديمقراطي نموذجي ومستقر قابل للمراجعة والنقد”.
ذلك كله سلوك حمّال دلالات، بالطبع، لكنه على تبايناته ينتهي إلى خلاصة كبرى مركزية مفادها أنّ المؤسسة العسكرية في مصر ما تزال ملتزمة بمبدأ حفظ النوع العسكري، وإعادة إنتاج القاعدة القديمة التي تفترض استئثارها بموقع رئاسة الجمهورية. والسيسي، اليوم، هو رأس المؤسسة ومرشحها، حتى تقضي مخابر الحفظ أمراً سواه، كان أيضاً مفعولا!
 11/1/2018