وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 13 أبريل 2018

كويتزي وفنّ المراجعة الصحفية

بين مراجعة أو مقدّمة لطبعة خاصة أو ترجمة، جمع الروائي الجنوب ـ أفريقي ج. م. كويتزي 23 مادّة سبق أن نشرها في دوريات مختلفة، خلال سنوات 2006 و2017، وصدرت مؤخراً تحت عنوان "مقالات متأخرة"، عن Viking، في 304 صفحات. هنالك، بين رواية وشعر، قراءات في أعمال الإنكليزيَيْن دانييل ديفو وفورد مادوكس فورد، والأستراليين ليس موراي وباتريك وايت وجيرالد مورناين، والأمريكيَيْن فيليب روث وناثنييل هوثورن، والألمان يوهان فون غوته وفردريش هولدرلن وهنريش فون كلايست، والسويسري روبرت فالزر، والفرنسي غوستاف فلوبير، والأوكرانية إيرين نيمروفسكي، والأرجنتيني أنتونيو دي بنديتو، والروسي ليو تولستوي، والإسباني خوان رامون خيمينيث، والبولندي زبغنيو هربرت، والإرلندي صمويل بيكيت، ثمّ الزعيم والبطل الشعبي الناميبي هندريك ويتبوي.
والحال أنّ ممارسة المراجعة الصحفية للأعمال الأدبية تظلّ واحدة من أفضل عادات كويتزي، أو أيّ روائي أو شاعر متقدّم التجربة، لا تُغني حياة العمل وتلعب دور الوسيط مع القارئ، كما تقترح قراءة أخرى غير تلك التي تصدر عن الناقد المتمرس، فحسب؛ بل هي ثمينة على نحو خاصّ، لأنها تصدر عن "خبير" في خفايا إنتاج الأدب، من حيث المحتوى والشكل ونطاق القراءة. ومع الاحتفاظ بحقّ كويتزي في تقدير أسباب اختيار هذه المادّة أو إغفال تلك، فإني شخصياً أفتقد في "مقالات متأخرة" تلك المراجعة المعمقة التي كتبها حول نجيب محفوظ، سنة 1994 في "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، وشملت قراءة روايات "الحرافيش"، "زقاق المدق"، "بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية"، "بداية ونهاية"، "أولاد حارتنا"، "اللص والكلاب"، "ثرثرة فوق النيل"، و"رحلة ابن فطومة".
في كلّ حال، وسواء اتخذت المادة صيغة قراءة للعمل أو مقدّمة له، فإنّ فنّ المراجعة الصحفية هو الذي يهيمن على روحية الكتابة؛ فلا يقود كويتزي قارئه إلى اشتباك تحليلي أو تنظيري نقدي معقد، فما بالك بأطروحات أكاديمية، بل يمارس حقّه كمؤلف/ قارئ (أو العكس، سيّان)، يعرب عن رأي بسيط هنا، صريح هناك، تلقيني أحياناً، متعطش إلى التعلّم من الكبار غالباً. وأن تراجع عملاً أدبياً ما، ثمّ أن تراجعه من خارج اشتراطات الدرس النقدي تحديداً، أمر يعني مقاربة العمل من موقع التذوّق الذاتي والتثمين الشخصي، بما يتيح هوامش تقدير مفتوحة لا يحدّها محظور أسلوبي هنا، أو قاعدة أجناسية هناك...
ليس مفاجئاً، والحال هذه، أن تنمّ اختياراته في "مقالات متأخرة" عن نزوعاته، هو نفسه، في كتابة الرواية؛ وكذلك عن العنصر الأهمّ في منجزه السردي، أي العلاقة مع التاريخ. ومنذ روايته الأولى "بلاد الغسق"، 1974، والتي صدرت قبل سنتين من تمرّد سويتو الذي آذن باقتراب الثورة في جنوب أفريقيا؛ أقرّ كويتزي بواجب التعليق على تاريخ البلد، وبالحقّ في تفسيره أيضاً. عند مواطنته نادين غورديمر كانت الواقعية صريحة وصارخة، وكان التاريخ يدخل في نسيج العمل ويصنع عمقه مثل سطحه؛ وأمّا عند كويتزي فقد اختلف الخيار في جانب جوهري حاسم، هو "ذلك الميل القويّ، والميل الطاغي أيضاً، إلى تضمين الرواية في التاريخ، وقراءة الروايات بوصفها استقصاءات تخييلية في القوى التاريخية الحقيقية والظروف التاريخية الحقيقية؛ ثمّ بالعكس، اعتبار الروايات التي لا تؤدّي هذا الاستقصاء حول ما يُعدّ قوى وسياقات تاريخية حقيقية، بمثابة روايات تفتقر إلى الجدية"، كما كتب في مقالة بعنوان "الرواية اليوم".
ولا يخفي كويتزي انحيازه إلى تلك الرواية التي تشغل موقعاً مستقلاً، وتطوّر مثالها الخاصّ وأساطيرها في سيرورة قد تبلغ درجة فضح "الموقع الأسطوري" للتاريخ، أي تجريد التاريخ من أَسْطَرته في عبارة أخرى. ذلك يتبدى في مقدماته لـ"روكسانا" و"الحرف القرمزي" و"مدام بوفاري" و"موت إيفان إيليتش" و"الجندي الطيب" و"المساعد" و"المركيزة أو." و"واط"؛ أعمال ديفو وهوثورن وفلوبير وتولستوي وفورد وفون كلايست وبيكيت، على التوالي. وهذه سيرورة بالغة الأهمية عند كويتزي لأنّ الكثير من تاريخ الإنسانية كُتب على نحو متحزّب للأقوى وللسلطة، وثمة ضرورة لكشف النقاب عن سردياته العليا التي تقوم على التشويه والتزييف.
كذلك يشفّ فنّ المراجعة عند كويتزي عن ميله إلى المونولوغ السردي، الذي يصنعه "صوت" واحد يحكي حكاية الناطق؛ ويتميّز تماماً عن السرد بضمير المتكلّم في أنه صوت لا ينقطع، على نحو معقّد ومتشابك. وهذه تقنية تسعف في تبديد مقدار إضافي من شراك "الواقعية" القسرية، التي يلوح أحياناً أنها أمر لا مفرّ منه إذا توجّب إشباع الخلفيات التاريخية للأحداث أو الشخصيات. في عبارة أخرى، ينبغي أن يكون هذا الصوت "لاواقعياً" بعض الشيء، ولكن بمقدار محسوب تماماً، لكي يفلح في النأي عن السارد، وبناء الحوار الداخلي؛ بما يراكم رابطة بين ناطقَيْن، جدلية وحيوية لهما معاً، في نهاية المطاف.
ويبقى، بالطبع، أنّ موادّ "مقالات متأخرة" لا تتخلف عن أداء الدور الأهمّ في المراجعة الصحفية، أي تحريض القارئ على صياغة قراءته الخاصة للعمل، سواء عبر الاستهداء بما يقترحه المراجِع الوسيط، أو الاختلاف مع خلاصاته والذهاب إلى أخرى قد لا تُقارب البتة ما انتهت إليه المراجعة. وتلك، غنيّ عن القول، في رأس فضائل التوسط التي يعتمدها كويتزي.
 8/4/2018