وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 13 أبريل 2018

هنديّ محمود درويش

بتعاون بين موسيقى الثلاثي جبران، وإلقاء البريطاني روجر وترز العضو المؤسس لفرقة "بينك فلويد" الشهيرة؛ صدر مؤخراً شريط يحتوي مقاطع بالإنكليزية (ترجمة فادي جودة ووترز نفسه)، من قصيدة محمود درويش "خطبة الهندي الأحمر ـ ما قبل الأخيرة ـ أمام الرجل الأبيض".
وقد سبقت لي الإشارة إلى أنّ درويش عكف، خلال الشهور الأخيرة من العام 1991، على قراءات مكثفة تخصّ الأقوام الأصلية في أمريكا الشمالية (أو "الهنود الحمر"، كما في التسمية الشائعة، الإشكالية بالطبع)؛ ضمن مراحل التحضير لكتابة تلك القصيدة المطوّلة. لقد شاهد عدداً كبيراً من الأفلام الوثائقية والروائية، وتفحّص مجموعة متنوعة من الصور الفوتوغرافية القديمة، واستمع إلى أشرطة صوتية تضمنت مقطوعات موسيقية وتراتيل ومؤثرات صوتية طبيعية وتمثيلات أدائية طقسية. كذلك قرأ عشرات النصوص من تراث الهنود الحمر، خاصة تلك التي تصف وقائع اللقاء مع الأبيض، والاقتلاع من الأرض، والإبادة الجماعية، والشعائر، وأنماط العبادة، والمقدّس البيئي مثل المقدّس الروحي. وكان، على نحو خاصّ، شديد الافتتان بتلك الخطبة الشهيرة التي تُنسب (على سبيل الخطأ، كما يساجل البعض) إلى الزعيم سياتل، سيّد قبيلة الـ "دواميش"، في سنة 1854.
كان درويش يكتب على نحو مفرط في التمهل، وكنت من جانبي أظنه يتباطأ في الكتابة عن سابق قصد وتصميم، لسبب جوهري أوّل هو أنّ تجربة الزعيم سياتل كانت تتصادى في نفس درويش مع مفاوضات أوسلو السرّية. ولم يكن الشاعر سعيداً بهذا الطراز من التصادي، لاعتبارات وطنية فلسطينية (قادته، بعدئذ، إلى الاستقالة من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية)؛ ولكن، أيضاً، لأنّ أبحاثه أثناء الإعداد للقصيدة زرعت في وجدانه مشاعر احترام عميق لتراث الأقوام الأصلية، ورسخت عنده مستوى من التماهي مع القضية الفلسطينية ظلّ يتنامى طيلة أشهر سبقت نشر "خطبة..." سنة 1992، في مجموعة "أحد عشر كوكباً".
ومنذ السطور الأولى تفصح القصيدة عن جملة ستراتيجيات اعتمدها درويش في تحقيق غرضَيْن حاسمين: تقويض التنميط المسبَق للهندي الأحمر، ضمن سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية؛ ثم الانطلاق من ذلك إلى استجلاء فضاء المواجهة بين أهل الأرض (أينما كانوا، ولكن في المسيسيبي وفلسطين على وجه التخصيص)، والآخر القادم، الذي اجتاح واستوطن. التراجيدي هنا يلتحم في فضاءات المقدّس الأعرض والأكثر تعبيراً عن البشر والطبيعة؛ بحيث تتحوّل الذاكرة المنتهَكة (بعناصرها وشعائرها وطقوسها وحركتها في التاريخ) إلى إرث منتهَك تفقده ضحية فيزيائية ومجازية محدَّدة، مُجتاحَة ومنفية ومهزومة ربما، ولكنها متجذرة في الأرض، وقائمة، ومقاوِمة.
والحال أنّ القصيدة كانت اشبه بترجمة شعرية وجمالية مذهلة لكثير مما جاء في "الصوت الآخر"، مقالة الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث البديعة، حيث الشعر "صوت الآخر. وصوته آخر لأنه صوت المشاعر وصوت الرؤى. إنه صوت العالم الآخر وصوت العالم الراهن، صوت أيّامٍ عفا عليها الزمان مثل أيّام نعيشها الآن. هَرْطوقيّ وإيماني، بريء ومنحرف، رائق وعَكِر، فضائيّ وتحت ــ أرضيّ، يخصّ الصومعة مثل ركن الحانة، وفي متناول اليد لكنه دائماً في المنأى". ويذهب باث أبعد، أو بالأحرى يتوغل أعمق في دخيلة الشاعر أمام "برهة الشعر"؛ هذه التي "طالت أم قصرت، فإنّ جميع الشعراء ــ إذا كانوا شعراء ــ يصغون فيها إلى الصوت الآخر (...) يصبحون هم الآخر".
وهذا نصّ يلخّص، على النحو التأمّلي المعمّق والمشبوب الذي ميّز تنظيرات باث لمسائل الشعر، جملة المعضلات العديدة التي تكتنف مسألة حضور الآخر وصورة ذلك الآخر في آداب الأمم عموماً، وفي نتاجها الشعري بصفة خاصة. ذلك لأنّ الإشكالية تتجاوز بكثير حدود النشاط الذي يكتفي برصد أو إحصاء صُوَر الآخر في موروث شعري ما، ثمّ استخلاص مؤثراته ومحاسنه ومساوئه، خصائصه ودينامياته وتفاعلاته وفاعليته. هذه الرياضة النقدية، على طرافتها وأهميتها المدرسية، لا تنصف جوهر الإشكالية في أبعادها الإبداعية والجمالية والفنّية من جانب أوّل، ثمّ في أبعادها الثقافية والحضارية المقارنة من جانب ثان.
إنها، في كلّ حال، لم ترضِ شاعراً كبيراً ومنظّراً للشعر رفيع الثقافة مثل باث! فهو، في مقاطع أخرى أكثر حرارة، يعتبر أنّ فرادة الشعر الحديث لا تتأتى من أفكار الشاعر أو مواقفه، بل من صوته: "الشعر ذاكرة تنقلب إلى صورة، وصورة تنقلب إلى صوت. الصوت الآخر ليس الصوت المنبعث من القبر، بل هو صوت الإنسان الراقد عميقاً في قلب قلوب الإنسانية". وهذا هو مبتدأ انتقال القصيدة من النطاق المحلي إلى الرحابة الكونية، ونحن نواصل شغفنا بقراءة المعلقات، وإلياذة هوميروس، ومسرحيات شكسبير، وقصائد بابلو نيرودا ورابندرانات طاغور... لأنها إنما تواصل اقتيادنا إلى عوالم كونية أوسع بكثير من صحراء الشاعر الجاهلي، وحصار طروادة، وقلعة هاملت، ومناخات تشيلي أو الهند.
وبهذا المعنى، فإنه لو بقي درويش شاعراً ناطقاً بالحقّ الفلسطيني وحده، فلم يرتقِ بالهوية الفلسطينية، شعباً وثقافة وتاريخاً، إلى مصافّ كونية تمسّ شغاف البشر في كلّ مكان وزمان؛ لبقي شاعراً محلياً، أسوة بعشرات الشعراء الذين عرفتهم ثقافات الأمم، فأبدعوا واشتهروا في حقبة محددة، ثمّ طواهم النسيان، وغمرتهم سنّة الأكوان!
25/3/2018