وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 11 مايو 2018

أيار 68 في سنّ الخمسين



ليس دون مغزى تاريخي خاصّ، ثمّ اجتماعي وسياسي وثقافي أيضاً، أنّ احتفالات فرنسا بعيد العمل والعمال اقترنت هذه السنة بأعمال احتجاج عنيفة، قادتها فئات شابة جامعية غالباً، ويسارية متشددة إجمالاً. ذلك لأنّ الشهر يدشن الذكرى الخمسين لانتفاضة 1968، التي بدأت طلابية محضة يوم 3 أيار (مايو) وانطلقت من جامعة نانتير إحدى ضواحي العاصمة باريس، ثم عمّت جميع فروع السوربون وكلياتها؛ وتطوّرت، في نقلة حاسمة يوم 13، مع إضراب عمالي غير مسبوق شلّ الحياة اليومية؛ وفي نقلة أخرى، سياسية هذه المرّة، ابتداءً من 27 حين أخذ الجنرال شارل دوغول يمزج بين الرضوخ والمقاومة، وصولاً إلى حلّ الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات تشريعية.
ولأنّ الانتفاضة استقطبت حركات وتيارات ومدارس شتى في السياسة والاجتماع وعلم النفس والتربية والدراسات الثقافية، فإنّ المناخات الفكرية والفنية التي اقترنت بها (بتأثير جان ـ بول سارتر بصفة خاصة، ثمّ أمثال بول ريكور،  ميشيل فوكو، جيل دولوز، آلان باديو، ناتالي ساروت، مرغريت دوراس، ميشيل بوتور، جان ـ فرنسوا ليوتار، هنري لوفيفر، غي دوبور... بالإضافة إلى فرنسوا مورياك وأندريه مالرو في الصفّ المقابل)، لم تكن تناقش اللحظة الفارقة تلك، فحسب؛ بل تؤسس أيضاً لسجالات مستقبلية، أكثر تعقيداً واتساعاً، حول سلسلة متشابكة من الظواهر، وحول واقع أوروبا الرأسمالية في أطوار متأرجحة بين رواسب ما بعد الحرب العالمية، وتباشير العولمة الأبكر.
عشرات الأعمال صدرت، وتواصل الصدور، إحياء لهذه الذكرى الخمسين؛ ونطاقاتها، كما للمرء أن يتوقع، تشمل كلّ تفصيل اقترن بوقائع تلك الانتفاضة، سواء من باب التعاطف والتأييد، أو الاتكاء على الذكرى للتحذير من أنها متواصلة ومستدامة بسبب جذورها الاجتماعية، أو انتقادها بشدّة إلى درجة إنكار أنها حركة اجتماعية أصلاً (كتاب دوني تيلينياك "أيار 68 خدعة القرن"، على سبيل المثال). هنالك، أيضاً، عمل جماعي مصوّر بعنوان "أيار 68"، لخمسة من كبار رسامي الكاريكاتور ــ ولينسكي، كابو، سينيه، جيب، ري ــ الذين عاصروا أو رسموا أحداث الانتفاضة؛ وكتاب آخر، "ألف شاعر من أجل قصيدة واحدة"، يتضمن قصائد لشعراء من أربع رياح الأرض حول أيار 68. هذا فضلاً عن أعمال تتناول، على نحو فكري ونقدي، معضلة الحزب الشيوعي الفرنسي واليسار التقليدي بصفة عامة، مثل كتاب آلان تورين "حركة أيار والشيوعية الطوباوية""؛ أو روجيه مارتيللي، "الشيوعيون في 1968، سوء الفهم الهائل".
في الفنون، وكما هو معروف، كان محتوماً أن تترك الانتفاضة بصمات عميقة على السينما بصفة خاصة، بالنظر إلى صعود "الموجة الجديدة" الفرنسية آنذاك؛ فانعكست روحية أيار 68 في أفلام جان ـ لوك غودار وفرنسوا تروفو وأندريه كايات وكلود شابرول وجان أوستاش؛ بل انتقلت أيضاً إلى الإيطالي برناردو برتولوتشي، في شريطه "الحالمون"، الذي يتناول انخراط طالب جامعي أمريكي في تظاهرات باريس 1968. في التشكيل كانت حركة "الرسام الشاب"، المؤلفة من دانييل بورين وأوليفييه موسيه وميشيل بارمنتييه ونيل توروني، قد أعلنت في بيان صاخب خلال معرض مشترك، عشرة أسباب تنزع عن الرسام صفته هذه (رغم أنهم عرضوا بالفعل، وأثاروا اهتماماً وصخباً!).
إلى هذا كله، هنالك كرّاس طريف يتجاوز الذكرى الخمسين في الواقع، لإنّ فكرته تقوم على إعادة إنتاج، فوتوغرافية توثيقية، لبعض شعارات لانتفاضة؛ خصوصاً تلك التي اعتمدت الصدمة الدلالية (كما في: "كونوا واقعيين، واطلبوا المستحيل")؛ أو السخرية اللاذعة ("فلندعِ الخوف من الأحمر للحيوانات ذوات القرون")؛ أو التورية عن طريق المفارقة ("أركضْ أيها الرفيق، فالعالم القديم وراءك"). كتاب آخر طريف، مصوّر، عنوانه "500 ملصق من 68"، يكرّم ذلك الانفجار الغرافيكي الذي اقترن بيوميات أيار 68، ولم يجد أفضل من جدران باريس معرضاً له؛ أعدّه الفنّان التشكيلي والممثل المسرحي فاسكو غاسكيه، أحد أبرز رسّامي تلك الملصقات التحريضية النارية.
غير أني لا أخفي انحيازي، مجدداً، إلى كتاب أساسي وتأسيسي أيضاً، لم يقترن بالذكرى، ولم يُكتب بالفرنسية بل بالإنكليزية، ولم يقتصر على انتفاضة السوربون بل رصد الصورة الأعرض لنشوء "اليسار الجديد"، من وارسو إلى براغ، ومن باريس إلى لندن ومدريد، قبل بلوغ أمريكا الشمالية واليابان. ذلك الكتاب عنوانه "68: سنة المتاريس"، للروائي والمؤرخ البريطاني دافيد كوت، الذي يستجمع قسطاً كبيراً من أفضل مزايا المؤلف في التحليل والتفكيك والتركيب، ومنهجيته الصارمة في اقتفاء أثر الوقائع، ولغته الأدبية الرشيقة التي تخفف من مشاقّ المتابعة الرتيبة لأحداث معروفة، وانحيازه المعلن إلى الماركسية في غمرة النقد الشديد لأصنامها
يبقى ما يتردد عن عزم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إحياء الذكرى الخمسين، رغم أنه ولد بعد
تسع سنوات على اندلاع وقائعها، ورغم إشكالية قرار كهذا. وكان سلفه فرنسوا هولاند قد اعتنق مبادئ الانتفاضة، ردّاً يومذاك على رغبة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي في "تصفية إرث أيار 68" بسبب ما خلّفه من "نسبوية فكرية وأخلاقية". في عبارة أخرى، ثمة هوّة عميقة تقسم الفرنسيين حول الذكرى، بين رغبة في الإحياء مقابل أخرى موازية تدعو إلى الدفن! 
 6/5/2018