وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 11 مايو 2018

محمود عباس والهولوكوست: جاء يكحّل فأصاب بالعمى!

مساء الإثنين الماضي، خلال أحد اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله، نطق الرئيس الفلسطيني محمود عباس بهذه العبارة اليتيمة: "ليس العداء لليهودية بسبب دينهم وإنما بسبب وظيفتهم الاجتماعية، هذه قضية مختلفة. إذن المسألة اليهودية التي كانت منتشرة في كل دول أوروبا ضد اليهود ليست بسبب دينهم وإنما بسبب وظيفتهم الاجتماعية، وما يتعلق بالربا والبنوك و... و... و... إلخ". لكنّ التعقيب الأشدّ نذالة على العبارة لم يأتِ من رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، كما يحثّ المنطق البسيط، بل من سفير الولايات المتحدة لدى الكيان، دافيد م. فريدمان. السلوك النذل لم يقتصر، هنا، على تشويه محتوى العبارة، أو تعمّد إساءة ترجمة هذه المفردة أو تلك، أو تجريد عباس من صفته الرئاسية وتسميته بـ"أبو مازن"؛ بل في أنّ ديبلوماسياً يمثّل القوّة الكونية الأعظم لا يتدخل في الأمر بصفته هذه، بل في أنه يهودي قبل أن يكون أمريكياً، أو سفيراً!
دبلوماسي آخر هو البلغاري نيكولاي ملادينوف، الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة للمساعدة في العراق (يونامي)، والمنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط؛ الذي تفاصح على عباس هكذا: "الهولوكوست لم يقع في فراغ، بل كان نتيجة آلاف من سنوات الاضطهاد"؛ ولهذا السبب فإنّ "من الخطر محاولات إعادة كتابته، أو التقليل من شأنه، أو إنكاره". ولم يتوقف ملادينوف عند هذا، بل ذهب أبعد: لقد اختار عباس "أن يكرر بعض الافتراءات الأكثر جدارة بالازدراء، بما في ذلك الإيحاء بأنّ السلوك الاجتماعي لليهود كان السبب وراء الهولوكوست". ولكي يكون ختام تصريحاته مسكاً، وبرداً وسلاماً على قلوب اليهود، قال ملادينوف: "إنكار الرابط التاريخي والديني لليهود في الأرض وأماكنهم المقدسة في القدس يتناقض مع الواقع".
دبلوماسي ثالث هو جون كيري، وزير الخارجية الأسبق في رئاسة باراك أوباما، ثارت ثائرته أيضاً: أقوال عباس "خاطئة، قبيحة، وغير مقبولة، كائناً مَنْ كان قائلها، ولكن خاصة من أيّ شخص يقول إنه يريد أن يكون صانع سلام. لا أعذار للعداء للسامية، وهذه الأقوال تجب إدانتها، لا التخفيف منها عبر تفسيرها". زميله وزير الخارجية الألماني هايكو ماس غرّد أنّ ألمانيا، لا اليهود (وليس حتى ألمانيا النازية!)، هي المسؤولة عن الهولوكوست: "نحن نرفض أي إسباغ للنسبية على الهولوكوست، وألمانيا تتحمل المسؤولية عن الجريمة الأفظع في التاريخ البشري". وأمّا الاتحاد الأوروبي، فهيهات أن يتخلّف عن الركب: "العداء للسامية ليس تهديداً لليهود وحدهم بل هو نذير خطر لمجتمعاتنا المفتوحة والحرّة. إنّ الاتحاد الأوروبي يظلّ ملتزماً بمكافحة أيّ شكل من أشكال العداء للسامية واية محاولة للتغاضي أو التبرير أو تتفيه الهولوكوست".
والحال أنّ عباس لم يتلفظ بمفردة الهولوكوست، أو ما يشابهها ويدانيها من مرادفات ومترادفات؛ كما أنه لم يتطرق إلى اضطهاد اليهود في أوروبا إلا لكي يستخلص أنهم لم يُضطهدوا على نحو مماثل في العالم العربي، ولا في فلسطين؛ ولم يشكك في ارتباطهم بمقدساتهم في فلسطين التاريخية. صحيح أنّ عبارة عباس عاثرة، بل هي خاطئة تاريخياً بمعنى اعتمادها على تفسير واحد أحادي للمسألة اليهودية في أوروبا، بحيث بدا وكأنّ عباس جاء ليكحّلها فأصابها بالعمى؛ إلا أنّ هذا الرجل، تحديداً، هو آخر مَنْ يمكن أن تنطبق عليه صفة العداء للسامية ضمن الجيل الراهن من مسؤولي السلطة الوطنية الفلسطينية. أكثر من هذا، ورغم ما يرتكب من كوارث كلما تذكّر أنه دكتور في التاريخ (خريج "جامعة الصداقة بين الشعوب" السوفييتية، عن أطروحة حول العلاقات النازية ـ الصهيونية خلال أعوام 1933 ـ 1945)؛ فهو أصدق أصدقاء السردية الصهيونية (واستطراداً: اليهودية) حول السلام، في صفوف المؤرّخين الفلسطينيين المعاصرين!
وفي عام 2003، عندما كان يترأس الحكومة الفلسطينية، ذكر التالي في مقابلة مع الصحافي الإسرائيلي عكيفا إلدار: "كتبت بشكل مفصل عن الهولوكوست، وأشرت أنني لا أريد الدخول بالأرقام والأعداد، واقتبست جدالاً بين مؤرخين حيث قال أحدهم إن العدد 12 مليون ضحية وقال آخر إن العدد وصل الى 800 ألف. لا توجد لدي رغبة في نقاش الأعداد، هذه جريمة لا تغتفر ضد الشعب اليهودي وضد الإنسانية. الهولوكوست أمر فظيع، ولا يستطيع أحد القول إنني أنكرت الهولوكوست". بعد 11 سنة، وهو رئيس السلطة هذه المرّة، وافق عباس على إصدار بيان مع الحاخام مارك شنير، رئيس مؤسسة "التفاهم العرقي" في نيويورك؛ تضامناً مع الإحياء الإسرائيلي لذكرى الهولوكوست، ينصّ على أنّ ما شهده اليهود من اضطهاد هو "أبشع جريمة عرفتها البشرية في العصر الحديث".
وهذا هو عباس نفسه الذي، قبل عقد ونيف، خلال خطاب ناري أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية (الذي، للإيضاح المفيد، لم يكن قد اجتمع منذ سنوات!)، وصف حركة "حماس" بأنها "إرهابية" و"انقلابية" و"تكفيرية"؛ الأمر الذي عنى أنّ ناخبي "حماس" الذين صوّتوا لها بتلك الأغلبية الكاسحة الشهيرة هم، بدورهم، "إرهابيون" و"انقلابيون" و"تكفيريون" و"خونة"؟ وكيف صحا عبّاس، يومذاك فقط، على هذه الصفات الإرهابية لحركة كلّفها بتشكيل حكومتين؟ وكيف وقّع معها اتفاقاً ذهبياً مقدّساً في رحاب مكة المكرّمة، برعاية سعودية، وفي غمرة إغداق للمديح المتبادل وإهراق للنوايا الطيبة؟ وكيف يُنسى حكمه على السفن الأجنبية الساعية إلى كسر الحصار على غزّة، والتي كان يتواجد على متنها عدد من خيرة أصدقاء القضية الفلسطينية في العالم، بأنها "لعبة سخيفة"؟ ألم تكن "قبلة الموت" هي التسمية التي شاء يوري أفنيري اختيارها لتوصيف ما طبعه رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق، إيهود أولمرت، على خدّي عباس، أثناء استقبال الأخير مطلع العام 2007، فكتب: "منذ أن بادر يهوذا الإسخريوطي إلى عناق يسوع المسيح، لم تشهد أورشليم القدس مثل هذه القبلة"! وكيف تناسوا موقفه في تأجيل التصويت على تقرير القاضي ريشارد غولدستون، حول جرائم الحرب في العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزّة؟
وأيضاً، كيف لم يغفروا له هذه العبارة اليتيمة، العاثرة حقاً، وهو الذي تناسى، في الخطاب إياه، تساوى معهم في تجاهل ما يتعرض له أبناء جلدته من مجازر ودمار منظّم في مخيم اليرموك، قرب دمشق؛ فاعتبر أنّ سلطته غير معنية بما يجري في ليبيا وسوريا والعراق واليمن: "على هذه الدول والشعوب أن تحل مشاكلها بنفسها، على كل واحد أن يحل مشاكله بالطرق السلمية لذلك نحن لسنا مع أي خلاف عربي ولن نكون مع هذه الدولة أو تلك، ولن نكون في الخلافات الداخلية مع هذه الجهة أو تلك، وإنما نقول عليهم أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم"؟ ألم يفرحهم، قليلاً، أنه قال علناً ما ظلّ يردده في السرّ: "من المعروف أنّ الربيع العربي أو ما يسمى بالربيع العربي أكذوبة اخترعتها أمريكا"؟ ألم يبهجهم أنه يشتم "صفقة القرن" تارة، وتارة أخرى يقرّها ضمنياً حين ينزّه المملكة العربية السعودية عن أيّ تغيير في الموقف من القضية الفلسطينية، وكأنّ تصريحات محمد بن سلمان (شريك مهندس الصفقة) لا تمثّل إلا شخص وليّ العهد؟
ومع ذلك، وحتى إذا كان عباس قد جاء ليكحّلها فأصابها بالعمى، فإنّ شهية الدوائر الصهيونية العالمية إلى إلصاق تهمة العداء للسامية بكلّ مَنْ هبّ ودبّ على غير هوى تلك الدوائر، وبينهم يهود أحفاد ناجين من الهولوكوست، لا تتوقف عند أية ضحية؛ فكيف إذا كان المسمّى "رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية"؟ وكيف إذا كان السياق اجتماعات "المجلس الوطني الفلسطيني"!
 3/5/2018