وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 11 مايو 2018

غروسمان ونقائض إمساك العصا الصهيونية من المنتصف




على أعتاب الذكرى السبعين لتأسيس دولة الاحتلال، وكذلك في مناسبة فوزه بجائزة إسرائيل للأدب؛ ألقى الروائي الإسرائيلي دافيد غروسمان (64 سنة) خطبة لا تكتنفها مشاعر البهجة والاحتفال، كما يُنتظر من سياقات إلقائها، بل طفحت بأحاسيس المرارة والحزن والفقد، ونقد سياسات حكومة الاحتلال أيضاً؛ ويصحّ، بالفعل، عنونتها على غرار ما فعلت "هآرتز" عند نشر الترجمة الإنكليزية للخطبة: "إسرائيل حصن، لكنها ليست وطناً بعد"! لكنّ الصحيفة لم تترجم فقرة استهلالية ألقاها غروسمان باللغة العربية، وتضمنت ترحيباً بـ"الضيوف العرب، شركائنا في الأمل والألم".
خطبة جديدة، إذن، سجالية وإشكالية وحمّالة أوجه وتأويلات، على النحو الذي اتصفت به مواقف غروسمان وكتاباته؛ منذ كتابه "الريح الصفراء"، 1987 (الذي يظلّ العمل الإسرائيلي الأبكر والأشجع في تسليط الضوء على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقطاع، تحت الاحتلال)؛ مروراً بالخطبة العصماء ساعة اغتيال إسحق رابين، وليس انتهاء برثاء ابنه أوري الذي قُتل خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006. وهي مادّة جديدة، استطراداً، من أحد أبرز الأصوات في صفّ "يسار" إسرائيلي يؤيد السلام وحلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وينتقد بشدّة سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وينظر خلفه بغضب إلى الإرث الصهيوني، كما يعيش حالة فصام مستفحلة مع أطوار "ما بعد الصهيونية" إذا صحّ وجود هذا المصطلح على أرض الواقع. لكنه، في المقابل، "يسار" يحتاج دائماً إلى تذكير الآخرين بأنه "يحمل لهذه الأرض محبّة هائلة وطاغية ومركبة"؛ وأنه علماني التفكير، ولكنه مؤمن بأنّ قيام دولة إسرائيل كان "معجزة من نوع ما، سياسية ووطنية وإنسانية، وقعت لنا كأمّة".
الوطن، كما عرّفته خطبة غروسمان الأخيرة، هو "مكان جدرانه ـ حدوده ـ واضحة ومقبولة؛ وجوده مستقر، متين، ومرتاح؛ سكانه يعرفون شفراته الحميمة؛ وعلاقاته مع جيرانه ترسخت. إنه يعكس حسّاً بالمستقبل". و"نحن الإسرائيليين"، يتابع غروسمان، "حتى بعد 70 سنة ـ وبغض النظر عن عدد الكلمات التي تقطر عسلاً وطنياً وستُنطق خلال الأيام المقبلة ـ لسنا في هذا الوارد". في صياغة أخرى أوضح، اختصرها عنوان الخطبة أيضاً: لسنا وطناً بعد! أكثر من هذا، يعود غروسمان إلى التشديد على معادلته المأثورة بصدد حكاية الوطن: "إذا لم يكن للفلسطينيين وطن، فلن يكون للإسرائيليين وطن أيضاً"؛ واستطراداً: "إذا لم تكن إسرائيل وطناً، فلن تكون فلسطين وطناً كذلك".
فهل، في المقابل، يستوي الفلسطينيون والإسرائيليون تحت اشتراطات منطق التشابك الجدلي الوثيق الذي يقترحه غروسمان؟ أي: هل تستوي دولة احتلال، مع مشروع دولة للشعب الذي تحتل أرضه؟ وكيف يمكن لمبدأ التعالق، بين وطن إسرائيلي وآخر فلسطيني، أن يفرز شروطاً متكافئة في الحدّ الأدنى، بين 70 سنة هي عمر دولة الاحتلال، ضمنها 51 سنة من احتلال أرض الشعب الآخر، "شركائنا في الأمل والألم"؟ وكيف يمكن إقامة العلاقة، أو بالأحرى فضّ الاشتباك، إذا كانت دولة الاحتلال تدير نظام تمييز عنصري (لا يتردد غروسمان في توصيفه بـ"الأبارتيد")، أو، كما يسرد غروسمان أيضاً: 1) حين يمنع وزير الدفاع الفلسطينيين المحبين للسلام من حضور هذا الحفل؛ و2) حين يطلق قناصة إسرائيل النار على متظاهرين عزّل، مدنيين غالباً؛ و3) وحين تعقد دولة إسرائيل اتفاقيات مريبة مع أوغندا ورواندا، تهدد حياة الآلاف من طالبي اللجوء؛ و4) حين يشهّر رئيس الوزراء بمنظمات حقوق الإنسان، ويلتفّ على المحكمة العليا؛ و5) حين تهمل إسرائيل، وتنبذ، حتى مواطنيها البؤساء في ضواحي تل أبيب وعلى هوامش المجتمع...
ثمة، إلى هذا كله، سلسلة مفارقات اقترنت على الدوام بهذه "الفلسفة" الإجمالية التي يعتمدها غروسمان في قراءة المشهد الفلسطيني ـ الإسرائيلي؛ وكانت، وتظلّ، من طراز يسبغ الإشكالية على مواقفه الأكثر أخلاقية في تأييد الحقوق الفلسطينية، ويستدعي السجال والمساءلة، والتناقض التأسيسي كذلك. ففي التعليق على القرصنة الإسرائيلية ضدّ السفينة السويدية ماريان، أولى السفن في إطار حملة "أسطول الحرية 3"، صيف 2015؛ اعتبر غروسمان أنه "لا ذريعة تمحو الأعمال الغبية للحكومة والجيش" في إسرائيل. لكنه، إذْ انتهج منطق تثبيت "الغباء" كسبب وحيد للجريمة، سارع في الجملة التالية إلى الجزم بأنّ "إسرائيل لم ترسل جنودها لقتل المدنيين بالدم البارد، فهذا آخر ما كانت تريده"؛ وأنها استُدرجت إلى فخّ، نصبه الذين كانوا على ثقة بأنّ إسرائيل سوف تتصرّف على هذا النحو! كذلك تذكّر غروسمان أنّ الذين أتوا على ظهر السفينة ليسوا جميعهم من دعاة السلام ونشطاء العمل الإنساني، وكان بينهم أناس يحملون "آراء إجرامية" تحضّ على تدمير إسرائيل.
مفارقة أخرى أنّ غروسمان كان في البدء مؤيداً للعدوان الإسرائيلي على لبنان، 2006، ولم يبدّل موقفه فيطالب بإنهاء الحرب إلا بعد أن طالت أكثر ممّا ينبغي. ولقد عجز عن إبصار صفة الغازي في ابنه القتيل، وقال في كلمة رثائه: "لقد كان أوري يمثّل جوهر الصفة الإسرائيلية كما أودّ لها أن تكون. صفة إسرائيلية يكاد يطويها النسيان، حتى صارت أمراً مثيراً للفضول. وكان إسرائيلياً طافحاً بالقِيَم، وهي كلمة تآكلت فباتت مضحكة في السنوات الأخيرة. ففي عالمنا المجنون العابث القاسي، ليس رائجاً أن تكون حامل قِيَم، أو إنسانيّ النزعة". وبالطبع، يصعب على المرء أن يستوعب طبيعة "القِيَم" التي جاء أوري غروسمان ليبشّر بها في مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب، من على ظهر دبابة الـ"ميركافا". واستطراداً، إذا كان الفتى يمثّل تلك الجوهرانية الإسرائيلية التي يحلم بها غروسمان، فما الذي منعه من العصيان ورفض التجنّد، كما فعل العشرات من الإسرائيليين الرافضين للخدمة الإلزامية، أو الخدمة في الضفة والقطاع على الأقلّ؟
مفارقة ثالثة تمثلت في موقف غروسمان من قرار ليا رابين، أرملة إسحق رابين، مغادرة "إسرائيل، هذا البلد المجنون"؛ صبيحة تقدّم بنيامين نتنياهو على شمعون بيريس في انتخابات 1996. لقد تساءل آنذاك: "سوف تمكث ليا، وسنمكث جميعاً، إذْ ليس لنا من وطن آخر، ولأنّ اسرائيل بحاجة إلينا في هذا الزمن". ورغم أنه أقرّ بواحد من أسوأ التوصيفات التي يمكن أن يطلقها إسرائيلي على إسرائيل، إذ اعتبرها "دولة وحشية ضاجّة صاخبة، أكثر نزوعاً نحو التديّن والأصولية والطائفية والعنصرية"؛ فقد امتدح في الآن ذاته شخص بيريس، الذي لم يكن آنذاك قد غسل يديه من دماء ضحايا مذبحة قانا ـ 1: "حاول رابين وبيريس أن يقترحا علينا درب حياة جديداً، ومفهوماً جديداً عن العالم. وأَمِلا أنهما، في حال النجاح، سوف يخلّصان مواطنيهما من بضعة فخاخ تراجيدية تستولي على تاريخهم". لافت أنه، يومذاك، استخدم مفردة "وطن"، بل حضّ على البقاء فيه، فلا وطن للإسرائيلي سواه!
هي، في الخلاصة، نقائض إمساك العصا الصهيونية من المنتصف: غروسمان، من جانب أوّل، أحد أبرز النماذج ضمن ما يُسمّى "معسكر السلام" الإسرائيلي؛ وهو، من جهة ثانية، يظلّ إسرائيلياً معيارياً في المقام الأوّل، وربما في المقام الثاني والمقام الثالث أيضاً. تلك المعيارية، التي قد تكون بعض مقدّمات ما يحلم به من جوهرانية إسرائيلية، ترتقي بأمن دولة الاحتلال إلى مصافّ مقدّسة ميتافيزيقية مطلقة؛ ليست سوى الوجهة الأخرى للتيار المتشدد الذي يعتبر أنّ أمن إسرائيل في يهودا والسامرة، والجغرافيا التوراتية بأسرها، ليس معركة بقاء أو فناء، فحسب؛ بل مسألة وجود، أو عدم، الهوية اليهودية: ديانة أو كناية أو كياناً.
 19/4/2018