وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 9 أبريل 2012

قيامة سورية

نصّ حكيم ذاك الذي صدر عن مجلس أساقفة الكنائس المسيحية في سورية، معلناً أنّ "احتفالات أعياد الفصح ستقتصر على الصلوات والطقوس الدينية في الكنائس فقط، وذلك نظراً للظروف الاستثنائية التي تمر بها سورية، وإكراماً لأرواح الشهداء والضحايا الأبرار الذين قضوا في الأحداث الأليمة، وتعبيراً عن وحدة أبناء الشعب السوري الأبي، وترسيخاً للحمة الوطنية". صحيح أنه يقف، أو يكاد، على مسافة متساوية بين النظام والحراك الشعبي، في حديثه عن "الظروف الاستثنائية" وليس عن انتفاضة شعبية مثلاً، أو إحجامه عن أية إشارة إلى عنف السلطة؛ إلا أنّ هذا الموقع الوسيط هو أقصى ما يمكن أن يبلغه المجلس، قياساً على سجلّ علاقته بالسياسة والسلطة والمعارضة إجمالاً، من جهة؛ واتكاءً على طبيعة الاحتقانات الراهنة في صفوف المواطنين السوريين المسيحيين، من جهة ثانية.

لافتة، في المقابل، رسالة البطريرك الماروني بشاره بطرس الراعي، الذي تمنى "السلام للعالم ولأوطاننا، بخاصة للبلدان التي تثور، في عالمنا العربي، تطالب وتسعى من أجل العيش بكرامة وبحبوحة، والتمتع بحرياتها الشخصية والعامة، وبحقوقها الأساسية، وبأنظمة ديموقراطية تحترم كرامة كلّ إنسانِ شعب، وتعزز التنوع في الوحدة، وتشرك الجميع في مسؤولية الحياة العامة، وتنفي الأحادية والفئوية وفرض الإرادة والتحكم بمصير المواطنين، وتمكّن كل مواطن، من أي دين أو ثقافة أو عرق أو انتماء كان، وكل مجموعة، مهما كان نوعها، أن يكون وتكون قيمة مضافة في نسيج المجتمع والوطن". واضح أنّ هذا النصّ خطوة متقدمة على مواقف الراعي السابقة، خاصة تجاه الانتفاضة السورية والخشية على المسيحيين من مستقبلها، حتى إذا كان البطريرك لا يخصّص، وبالتالي قد ينطوي التعميم عنده على تعتيم مبطّن، يتفادى الإشارة إلى النظام السوري.

ناشطو الانتفاضة، خاصة أصحاب التخصص في إنتاج أشرطة الفيديو، استخدموا صوت فيروز في الترنيمة الشهيرة (التي يقول مطلعها: "أنا الأمّ الحزينة/ وما مَنْ يعزّيها"...)، لكنهم استجمعوا عدداً من اللقطات الفوتوغرافية التي تصوّر عذابات السوريين، من جنازات الشهداء، إلى اتحاد الهلال والصليب مع عَلَم الاستقلال السوري، واللافتة الشهيرة التي تسأل: "هل الشهيد حاتم حنا مسيحي سلفي؟"، وأعمال الـ"كولاج" التي تُدني مئذنة المسجد من ناقوس الكنيسة. كذلك توفّرت عناصر كثيرة تغري باستعادة قصيدة نزار قباني الشهيرة عن قيامة بيروت، التماساً لقيامة مدن سورية شهيدة مثل حمص وحماة وإدلب: ""قومي من تحت الردم/ كزهرة لوز في نيسان/ قومي من حزنك قومي/ إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان/ قومي إكراماً للغابات/ قومي إكراماً للأنهار/ قومي إكراماً للإنسان...".

لكنّ عيد القيامة يعيد إلى الأذهان تلك المحطات الفاصلة في انحطاط ردود فعل النظام على اشتداد الانتفاضة، حين لجأت الأجهزة (قبل وقت قصير من اعتماد الفرقة الرابعة كأداة قمع أولى ومركزية) إلى خيارات همجية قصوى، مثل استخدام القنّاصة لاغتيال المتظاهرين، واغتيال بعض رجال الشرطة لتثبيت نظرية "العصابات" والمندسّين"، وإطلاق وحوش "الشبّيحة" في شوارع المدن الرئيسية. كذلك اتجه النظام إلى استرضاء الشرائح الشعبية المتدينة (والشارع السنّي تحديداً)، عن طريق إجراءات منافقة مثل إعادة المنقبات إلى سلك التعليم، بعد أن أُبعدوا عنه قبل أشهر؛ وإغلاق كازينو القمار، بعد أشهر قليلة على منحه الترخيص بالعمل؛ وتقديم مشروع فضائية سورية دينية، هدية خالصة إلى الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، طليعة أبواق النظام في صفوف مشايخ النفاق.

وإذْ كانت مفارز النظام الأمنية تواصل انتشارها في المدن والبلدات والقرى، في ما يشبه مشهدية احتلال عسكري مباشر؛ كانت مفارز أخرى تستكمل أعمال الاعتقال التعسفي والعشوائي، ومداهمة البيوت، ومصادرة الهواتف النقالة والكومبيوترات، فضلاً عن تشكيل "لجان شعبية" تدّعي حماية المساجد. في الآن ذاته أعلنت السلطة أنّ الأسد منح الجنسية للمواطنين الأكراد، وكأنّ جماهير الكرد لم تدرك، منذ يوم الانتفاضة الأوّل، أنّ أيّ مطلب حقّ تناله اليوم من السلطة هو نتاج نضالات طويلة خاضتها، منفردة أو متحالفة مع قوى المعارضة الوطنية والديمقراطية، طيلة عقود. "الكرد طلاّب حرّية، لا جنسية"، هكذا قالت هتافاتهم في مظاهرات ذلك الأسبوع، معلنة أنّ النظام لا يتنازل اليوم إلا تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، التي تخصّ حقوق مكوّنات الشعب السوري، الاجتماعية والإثنية والدينية والطائفية، جميعها.

تلك "القيامة"، السنة الماضية، انطوت أيضاً على انطلاق مسيرة نسائية احتلت الطريق الرئيسي الذي يربط المدن الساحلية، للمطالبة بالإفراج عن الأزواج والآباء والأشقاء والأبناء، ولرفع الحصار عن مدينة بانياس وقرية البيضة، وتأمين المواد الغذائية والدقيق للأفران، حيث أخذت كميات الخبز تشير إلى نقص خطير. كانت تلك المسيرة تؤكد، على نحو ساطع وللمرّة الأولى، انخراط المرأة السورية في الانتفاضة؛ فلا تدوّن معطى جديداً، سياسياً وإنسانياً، فحسب؛ بل تثبّت، أيضاً، تطوّراً سوسيولوجياً بارزاً، سوف تكون له أبعاد تربوية وأخلاقية عالية المغزى.

صحيح أنّ أعداد الشهداء تضاعفت، بالمئات في الواقع، منذئذ؛ وأفانين القمع انحطّت، وتدنّت، وانفلتت من كلّ عقال؛ ومخططات النظام الأشدّ خبثاً تعاظمت، فزادت في عذابات السوريين، ومزجت آمالهم بالآلام... إلا أنّ سورية قامت، وسارت على درب الجلجلة، وهيهات أن تعود القهقرى!