وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 12 أبريل 2012

أمريكا والمعارضة السورية: حساب العجوز وحميّة المراهق

كان طبيعياً أن تسفر الانتفاضة السورية عن تشوّهات شتى في صفوف المعارضة، أو زاعميها على نحو أدقّ، تخصّ السياسة والتفكير والتنظير، ولا تغيب كذلك عن السلوك والممارسة، وتشمل موضوعات حساسة ذات بُعد ستراتيجي، وأخرى أقلّ أهمية وأقرب إلى تغذية التكتيكات الصغيرة. مآل رديف، في هذا المضمار، أن تتوالد ـ كالفطر الشيطاني المجنون، المنفلت من قوانين النموّ الطبيعية ـ أنساق من المراهقة الصرفة، تنحطّ فيها المحاكمة العقلية إلى درك ردّ الفعل السطحي، المتسرّع والطائش والمتبلد؛ وتهبط اللغة إلى مستوى الردح والسباب والتعريض، وتخوين الآخر (المختلف في الرأي فقط، وليس المنخرط في صفّ معادٍ، أو حليف للنظام مثلاً)، فضلاً عن اتهامه بالتخاذل إزاء واجب إغاثة الأهل، ونصرة الانتفاضة.

هذه مناخات تخيّم على ملفات سجال كثيرة، لعلّ أبرزها مسائل تسليح المعارضة (وليس "الجيش السوري الحرّ" وحده)، وعسكرة الشارع الشعبي؛ واستدراج المال السياسي ("حتى من الشيطان الرجيم"، كما قد يقول قائل)؛ وتجميل التدخل العسكري الخارجي (كيفما أتى، وأياً كانت الجهة أو الجهات التي تتولى قيادته)؛ والتطبيع مع الخطاب الطائفي البغيض الذي يدين طوائف بأكملها (ولا يستثني، أيضاً، المعارضين للنظام من أبنائها، المنضوين مباشرة في مختلف أنماط الحراك الشعبي)... وثمة، ضمن السياقات ذاتها، ذلك الشعار/ السعار الذي يخوّن كلّ مشكك في "صدقية" و"مصداقية" الموقف الأمريكي من الانتفاضة، سواء ذاك الذي تعلنه الإدارة الحاكمة، أو يعتنقه ساسة أفراد ليسوا في الحكم، أو يعبّر عنه معلّق سياسي هنا، أو باحث مختصّ هناك.

فإذا نظر امرؤ بارتياب إلى زيارة السناتور الجمهوري جون ماكين، صحبة زميله السناتور المستقل جو ليبرمان، إلى مخيّم النازحين السوريين في تركيا؛ وأقام نظرته على ركيزة ديكارتية بسيطة تطالب بتحكيم العقل وقطع الشكّ باليقين، استناداً إلى حزمة مواقف ماكين وليبرمان من القضايا العربية، وكذلك تاريخ علاقات الرجلين بنظام "الحركة التصحيحية"، من الأسد الأب إلى الأسد الابن؛ فإنّ المرء، عند بعض مراهقي المعارضة السورية، يخذل الشعب والانتفاضة، وينفّر الأصدقاء، ولعلّه ينكر الجميل أيضاً. "أليسا أفضل من سواهما، الساكتين الصامتين؟"، سوف يسألك أكثر المراهقين تهذيباً؛ مقابل غرّ طائش، لن يتورّع عن اتهامك بالخيانة... ليس أقلّ!

ما ارتكبه المرء ذاته من "إثم" التفكير النقدي في مواقف أمثال ماكين وليبرمان، وممارسة الحقّ في وضع آرائهما الراهنة ضمن سياقات أعرض، عقلية ومنطقية ومقارنة؛ سوف ينقلب إلى "جريمة" حين يتحوّل النقاش إلى ملفّ تسليح المعارضة السورية، الذي يحضّ عليه السناتوران بحماس مشبوب وحميّة مذهلة: "المجتمع الدولي يتخلى عن الشعب السوري، والوسيلة الوحيدة للارتداد عن هذا هو مساعدة المعارضة على تغيير ميزان القوة العسكرية على الارض"، يقول ماكين؛ زميله ليبرمان يردف: "يتعين علينا أن نقدم أسلحة لمقاتلي الحرية، لمساعدتهم في الدفاع عن أنفسهم وعن عوائلهم في الحد الأدنى".

فإنْ كان هذا باطلاً، وهو كذلك بالفعل، لأنّ ميزان القوى بين الانتفاضة والنظام ليس عسكرياً، حتى إشعار آخر على الأقلّ، فإنّ تصريحات ماكين وليبرمان ليست في صالح الشعب السوري، بل هي محض نفاق لن يخدم إلا النظام في نهاية المطاف. أمّا إذا كانت الأقوال تشتغل على مبدأ كلام الحقّ الذي يُراد منه الباطل، فإنّ قيام بعض المعارضين بإعادة إنتاجها، ثمّ تسويقها، كمنافذ دعم ونوافذ أمل، لا يخدم النظام وحده فحسب، بل يسوّق الباطل أيضاً. والحراك الشعبي العبقري، الذي يتعاظم ويرتقي منذ سنة ونيف، أسقط جدران الخوف واحداً تلو الآخر، وأرسى ثقافة مقاومة رفيعة من طراز جديد، وبالتالي فإنه لم يعد البتة بحاجة إلى إحقاق الأباطيل، وإشاعة الآمال الكاذبة.

وعلى النقيض من اعتقاد البعض في صفوف المعارضة ـ خاصة أولئك الذين أدمنوا اللقاءات بنساء ورجالات البيت الأبيض والخارجية الأمريكية والكونغرس ومراكز البحث والاستخبار المختلفة، وصاروا حماة مفهوم "الدور الأمريكي"، وأخصائيي الترويج له، وتجميله، وتنزيهه عن كلّ غرض يمسّ الانتفاضة ـ ما يزال الموقف الرسمي الأمريكي غير قاطع بصدد طيّ صفحة "الحركة التصحيحية"، وغير مستقرّ على سياسة واضحة تنتهي إلى إسقاط النظام. وكما سبق لي أن ساجلتُ في مناسبات سابقة، تدرك الولايات المتحدة أنّ سقوط النظام السوري لم يعد أمراً قابلاً للأخذ والردّ، إذْ حسمته الإرادة الشعبية نهائياً، وصار مسألة وقت، بصرف النظر عن التعقيدات التي تتراكم، والتضحيات التي تزداد جسامة. تلك كانت حال واشنطن مع مستبدّي تونس ومصر وليبيا واليمن، وهذه ستكون حالهم مع الاستبداد السوري: كانت انظمة بغيضة، في ناظر سادة البيت الأبيض، لكنها ظلّت الخادمة الأوفى للمصالح الأمريكية، والضامنة الأفضل لأمن إسرائيل، والتابعيات الأطوع!                 

مسألة أخرى مختلفة تماماً، في المقابل، أن تتبنى الولايات المتحدة شعار "إسقاط" النظام، لأنّ هذا الخيار سوف ُيلزمها بالمشاركة في سلسلة العمليات، السياسية والاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والاستخباراتية، الكفيلة بالتوصل إلى هدف الإسقاط. ولا تغيب عن تلك العمليات إجراءات بالغة الخطورة، مثل إقامة المناطق الآمنة، والممرّات الإنسانية، وتأمين خطوط الإمداد في حال إقرار مشاريع تدخل عسكرية، وزرع الوحدات المكلفة بالعمليات الخاصة الحساسة، والارتباط مع الوحدات العسكرية أو المدنية الحليفة المحلية، في طول البلاد وعرضها وليس على خطوط جبهات منتقاة... فليدلّنا السادة الواقعون في غرام "الحلّ الأمريكي" على أي إجراء من هذا القبيل، أو حتى أي علائم على نيّة تنفيذه، لكي نقرّ لهم بوجاهة حماسهم، وخطل تثبيط همّة العمّ سام!

والحال أنّ واحدة من طرائق تلمّس الموقف الأمريكي الراهن تجاه الانتفاضة السورية، وربما انتفاضات العرب جمعاء في الواقع، هي الوقوف على آراء وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، صاحب الظلّ الطويل والثقيل الذي لم ينحسر بعد عن الكثير من ركائز السياسة الخارجية الأمريكية، رغم انقضاء عقود على تقاعد الرجل. صحيح أنّ كبار مسؤولي إدارة باراك أوباما توقفوا عن تلقّي النصح المباشر (والمأجور، بالمناسبة!) من "عجوز السياسة الواقعية"، إلا أنّ الأسباب تخصّ الحرج المهني غالباً، وليس لأنّ ما ينصح به كيسنجر بات بضاعة قديمة او مستنفدة. إقرأوا، دون كبير عناء، ترجمة شبه حرفية لأفكاره في معظم ما تردّده وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، أو كبار مساعديها، حول الأمن الإقليمي الجيو ـ سياسي في الشرق الأوسط بصفة خاصة.

وفي أحدث مساهماته العلنية، وأوضحها حتى الساعة، مقالته بعنوان "تعريف دور للولايات المتحدة في الربيع العربي"، التي نُشرت في صحيفة "نيويورك تايمز" مطلع هذا الشهر، يثير كيسنجر الأسئلة التالية: "هل ستحلّ إعادة البناء الديمقراطي محلّ المصلحة القومية كمنارة هادية لسياسة الشرق الأوسط؟ هل إعادة البناء الديمقراطي هي ما يمثّله الربيع العربي بالفعل؟ وما هي المعايير؟". إجاباته تبدأ بالغمز من قناة القائلين بأن الواجب الأخلاقي يقتضي من الولايات المتحدة الاصطفاف مع الحركات الثورية في الشرق الأوسط، من باب "التعويض" عن سياسات أمريكا خلال الحرب الباردة، والتي فضّلت التعاون مع حكومات لاديمقراطية، خدمة لأغراض أمنية. لكنه، بعد الغمز، با يتأخر في استعادة أقانيم "السياسة الواقعية" الأثيرة عنده، وامتداح "الأخلاقيات" القديمة دون سواها، حيث المصلحة القومية تعلو على كلّ مبدأ.

وهكذا، يقول كيسنجر: "إذا فشل النسق الناشىء اليوم [عن الربيع العربي] في إقامة علاقة ملائمة مع الأغراض المعلَنة، فإنه يهدّد بانعدام الاستقرار منذ البدء، ويمكن أن يُغرق القِيَم التي سعى إليها". ذلك لأنّ الربيع العربي "يُقدّم كثورة أقليمية يقودها الشباب بالنيابة عن المبادىء الليبرالية الديمقراطية"، في حين أنّ الأمور في ليبيا ومصر انتهت إلى النقيض (في نظره: ليبيا بلا دولة، ومصر تتحكم بها أغلبية إسلامية ناخبة). وأمّا في سورية، فإنّ الأمر "يعكس النزاع القديم، العائد إلى آلاف السنين، بين الشيعة والسنّة، ومحاولة الأغلبية السنّية استرداد الهيمنة من الأقلية الشيعية"؛ وهذا هو السبب، يضيف كيسنجر، في أنّ "الكثير من مجموعات الأقليات، كالدروز والكرد والمسيحيين، ليسوا مرتاحين للتغيير في سورية"!

والخلاصة هي أنّ "الاهتمامات الإنسانية لا تلغي الحاجة لربط المصلحة القومية بمفهوم محدد للنظام العالمي. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، سوف يتضح العجز عن إرساء عقيدة عامة للتدخل الإنساني في ثورات الشرق الأوسط، إلا إذا رُبطت بمفهوم لأمن الولايات المتحدة القومي. التدخل يقتضي الأخذ بعين الاعتبار مغزى البلد الستراتيجي وتجانسه الاجتماعي (بما في ذلك إمكانية تقويض تكوينه الطائفي المعقد)، وتقييم ما يمكن بناؤه حقاً محلّ النظام القديم". لا مفرّ، بالتالي، من العودة إلى جذور السياسة الأمريكية في المنطقة: ضمان تدفق النفط، ضمان سلام إسرائيل مع جيرانها، ضبط التسلح النووي، ضبط الإسلام السياسي، الخ... وبين الضمان والضبط، ثمة الحفاظ على "أنظمة حليفة" حتى إذا كانت بغيضة، مستبدة، فاسدة، لاديمقراطية!

عجوز الذرائعية، و"شيخ الواقعية السياسية" كما يسمّونه أحياناً، لا يخون سلسلة النواظم التي خطّها في كتابه الضخم "دبلوماسية"، 1994:  
1 ـ العالم الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف، بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة البشرية جمعاء، شاءت تلك البشرية أم أبت).
2 ـ ينبغي وضع أكبر قدر ممكن من علامات الاستفهام والريبة، أبد الدهر و دونما تردّد أو تلكؤ، على أي ترتيبات متصلة بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على "الإجماع الصوفي الغامض" حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتالي اللجوء إليها) في مختلف ميادين العلاقات الدولية.
3 ـ لا مناص من ترجيح (ثمّ صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات المقابلة، أي تلك التي تحوّل مقولات "السلام" و"الحرّية" إلى شعارات وشعائر زلقة ومطاطة وجوفاء. أعراف "القرية الإنسانية الكونية" ليست قابلة للصرف في سوق مزدحمة شرسة لا ترحم. أعيدوها إلى أفلاطون والأفلاطونيين، يطلب كيسنجر، وفي الإعادة إفادة وتجنيب لشرّ القتال!
4ـ تأسيساً على ذلك، لا بدّ من إقرار واعتماد الحقيقة القاسية التالية: التنازع، وليس السلام، هو الأقنوم الطبيعي الذي ينظّم العلاقات بين الشعوب والقوى والأفراد.
5 ـ "لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط". كان اللورد بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا في ثلاثينيات القرن الماضي)، على حقّ حين اجترح هذه العبارة الذهبية. إنه على حقّ اليوم أيضاً، في نظر كيسينجر، أكثر من أي وقت مضى.

وللمغفلين والمراهقين، إسوة بصرعى الغرام بـ"الحلّ الأمريكي"، أن يتغافلوا عن جرائم الولايات المتحدة بحقّ الشعوب، والشعب السوري خاصة؛ هيهات، في المقابل، أن يحجبوا ظلّ كيسنجر الثقيل، الممتدّ من البيت الأبيض إلى مخيّم النازحين السوريين في تركيا، عبر تل أبيب وطهران وأنقرة، فالرياض والقاهرة وبيروت، وصولاً إلى ... دمشق!