وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 23 أبريل 2012

"مهماز" زكريا تامر

 في أواخر كانون الثاني (يناير) الماضي، دخل القاصّ السوري الكبير زكريا تامر تجربة جديدة في الكتابة، وأكاد أقول أيضاً: في الموقف السياسي، والسلوك التحريضي؛ إذْ أنشأ على موقع الـ"فيسبوك" صفحة باسم "المهماز"، أخذ يدوّن فيها تعليقات شبه يومية تنحاز، بقوّة أخلاقية عالية، ليس إلى الانتفاضة السورية فحسب، بل ضدّ النظام السوري، رأساً وعسكراً وأجهزة وشبيحة. والتعليقات يتراوح طولها بين الجملة القصيرة ذات الفكرة الخاطفة، حيث "ما قلّ ودلّ" وفق تصنيف تامر؛ والعبارة المتوسطة، التي تطوّر خيطاً سردياً خفيفاً، حول أحدوثة ذات مغزى؛ والنصّ المطوّل نسبياً، الذي يذكّر بطراز القصص القصيرة التي حملتها مجموعات تامر الأخيرة.

هنالك، مثلاً، تعليق يقول: "ابتسم الرئيس، وقال للمرآة التي كان يحدق إليها بإعجاب: أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها، ولكن يده اليمنى لمست رأسه بأصابع مرتعشة". تعليق آخر يسير هكذا: "ألقى الرئيس الملطخ بدماء شعبه خطبة طويلة وعد في ختامها أنه سيحرر الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، فشهقت الأرض المحتلة رعباً وقنوطاً، وآمنت أنها باقية في الأسر حتى يوم القيامة". في الأمثلة على التعليقات ذات الحجم المتوسط، يروي تامر أنّ ولداً رفض الذهاب إلى مدرسته لأنها لا تعلّم غير الجهل، فحاول الأب اختبار زعم ولده، فسأله عن اسم أهم بطل في التاريخ العربي، فأجاب الولد فوراً: عمرو دياب؛ وعندها أدرك الأب أنّ ابنه على حقّ، وقرّر "البحث العاجل عن مدرسة أخرى تعرّف تلاميذها إلى الأبطال العرب الحقيقيين، كبشار الأسد وجورج وسوف وعلي الديك"! وفي النماذج الأطول نقرأ مدوّنات مثل "الشبيحة الأوائل: الجنرال الدمشقي"، "ما تبقى من عنترة بن شداد"، "ورطة الصحافي الحكومي"، وسواها... عناوينها تدلّ عليها!

والحال أنّ صفة "التعليق" تُلحِق الغبن بهذه النصوص، التي تنهض على مزج شديد البراعة بين إيجاز الدلالة ودلالة الإيجاز، وبين مرارة المأساة الواقعية وأقصى التقاط لاذع لمجازات العذاب، وبين تسجيل المشهد وتحويله إلى شهادة في سجلّ، وبين اللغة التي تنزف والقاموس الذي يصف... كلّ هذا في غمرة انتماء شجاع إلى الحقّ، وإدانة للباطل لا لُبس فيها، واستقرار على تسمية المسمّيات، من الشخوص إلى المؤسسات؛ على نحو يجيز القول إنّ هذه التدوينات هي سابقة تامر الأوضح، حتى اليوم، في مناهضة نظام "الحركة التصحيحية". ولكي لا تكون معادلتها أحادية، فإنّ حامل "المهماز" لا يوفّر المعارضة السورية، إذْ يقترح "تشكيل لجنة من الأطباء الموثوقين المختصين بالأمراض العقلية، مهمتها فحص كل من ادعى أنه معارض من دون استثناء أحد"، لإحالة كلّ "مصاب بالجنون الخطر" إلى بيته مشكوراً، ومنعه من "الثرثرة في الفضائيات".

ولقد لفت انتباهي دفاع تامر عن الشاعر السوري الكبير الراحل محمد الماغوط، ضدّ الذين يحاولون تشويه "أصدق وأنبل متمرد عرفته الحياة الأدبية في سورية والبلاد العربية"، بذريعة أنه "لو كان اليوم حياً، لكان ضدّ الثورة". كذلك يغضب تامر من أحد ابواق النظام، شريف شحادة، الذي اعتبر أنّ "سورية بشار الأسد" هي "سورية محمد الماغوط ونزار قباني". ويعلّق تامر: "حزنت أشدّ الحزن لأني رأيت الشاعرين يموتان ثانية قتلاً، ويُمثّل بجسديهما وقصائدهما أبشع تمثيل"؛ مذكّراً بأنه "عندما كانت السوق الأدبية يهمين على معظم ساحاتها المتاجرون بالشعارات، المؤمنون بأن الخبز أولاً، أو الوحدة العربية أولاً، كان الماغوط يصرّ على أنّ الحرية أولاً".

وأخال، شخصياً، أنّ الوفاء لصديق راحل، وإنصاف انشغاله المبكّر بمسألة الحرّية، وانهماكه المحوري بأنساق انسحاق الكائن الصغير أمام جبروت الطغيان، ليست وحدها أسباب دفاع تامر عن الماغوط؛ إذْ ثمة سبب آخر، ذاتي وموضوعي في آن، يخصّ التاريخ الأدبي السوري الحديث، وتطوّر النثر السوري المعاصر على وجه التحديد. ففي أواسط الخمسينيات، وضمن سياقات ثقافية وسوسيولوجية كانت تنظر بارتياب إلى التجريب في الأدب عموماً، وتميل أكثر إلى الواقعية الطبيعية في السرد خاصة، لم يكن مألوفاً أن يطلق تامر اسم "الأغنية الزرقاء الخشنة" على قصة قصيرة، وأن تبدأ فقرتها الأولى هكذا: "نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضُغط ضغطاً جيداً في قالب جيد".

آنذاك كان الماغوط هو الذي يتولى عمليات مصالحة الشعر والنثر، في لغة عربية بكر، حارّة بدورها، مثقلة ومعذَبة وآسرة: "يا قلبي الجريح الخائن/ أنا مزمار الشتاء البارد/ ووردة العار الكبيرة/ تحت ورق السنديان الحزين/ وقفت أدخن في الظلام/ وفي أظافري تبكي نواقيس الغبار". ولقد تبيّن، سريعاً، أنّ النثر العربي هو الرابح الأكبر جرّاء غوص هذَيْن المعلّمَيْن في الأغوار السحيقة من وسيط تعبيري نبيل، ثرّ وكريم، فامتلكنا ما عجزت معظم النماذج الأولى من قصيدة النثر العربية عن تزويدنا به: اتصال الوظيفتين الشعرية والخطابية في اللغة، واجتراح تلك الكيمياء الشعرية الصافية التي تبقى في قلب التوتر التراجيدي لأسئلة الوجود، ومفردات العيش.

لكأنّ مدوّن "المهماز" يستعيد قول صاحبه الراحل: "أقسم بليالي الشتاء الطويلة/ سأنتزع علم بلادي عن ساريته/ وأخيط له أكماماً وأزراراً/ وأرتديه كالقميص"...