وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 20 أبريل 2012

فرنسا والنظام السوري: سجلّ مراقصة الطغاة

كُتبت هذه السطور قبل انعقاد الاجتماع الثالث لمجموعة "أصدقاء سورية" في باريس، بعد تونس واسطنبول، بمشاركة 14 دولة؛ وبهذا فإنّ الدبلوماسية الفرنسية تقطع خطوة إضافية على درب مقاربتها للملفّ السوري، أو انخراطها فيه على نحو مباشر لا يقلّ عن انخراط الولايات المتحدة أو تركيا، ولعلّه يتميّز عنهما في عناصر كثيرة أيضاً. وتلك مقاربة تقلّبت مراراً منذ انطلاق الانتفاضة السورية، حين كان السفير الفرنس إريك شوفالييه (مستنداً إلى خطّ قصر الإليزيه في الواقع، وإلى قراءة سكرتيره العامّ آنذاك، وزير الداخلية الحالي، كلود غيان) ميالاً إلى ترجيح رواية النظام حول "العصابات المسلحة" و"التدخل الخارجي"؛ واستقرّت عند رؤية وزير الخارجية الحالي آلان جوبيه، الذي لم يتردد في مطالبة رأس النظام بالتنحي، كما استقبل ممثلي المعارضة مراراً، وشارك في معظم الاجتماعات الدولية والأممية المكرّسة للوضع في سورية.

وفي الجانب الإنساني، قدّمت السفارة الفرنسية في دمشق خدمات ملموسة للمعارضين السوريين الملاحقين من الأجهزة الأمنية، ومنحت الكثيرين منهم ـ ومعظمهم لم يكن يحمل جوازات سفر، بالطبع ـ تأشيرات خروج، وتصاريح سفر مؤقتة. ولم يعد غريباً، والحال هذه، أن يستقرّ في فرنسا عدد كبير من هؤلاء، من المشتغلين بالعمل السياسي والحزبي، أو نشطاء التنسيقيات الشباب، أو الكتّاب والفنانين الذين انحازوا مبكراً إلى صفّ الانتفاضة. كذلك اخذت العاصمة باريس، والمدن الكبرى في فرنسا، تتميز بتظاهرات تضامن ذات سوية عالية، كانت أحدثها احتفالية "الموجة البيضاء" في مناسبة عيد الجلاء السوري، 17 نيسان (أبريل)، التي شارك فيها فنانون وكتّاب وساسة ومشاهير، طالبوا بالحرّية للسوريين، وبإيقاف المجازر.

الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي استبق اجتماع "أصدقاء سورية 3" بتصريح، "شديد اللهجة" وفق ما تصنّف الرطانة الدبلوماسية عادة، أعلن فيه أنّ بشار الأسد "يكذب"، و"يريد محو حمص من الخريطة"، على غرار رغبة الدكتاتور الليبي معمّر القذافي في "تدمير بنغازي"؛ ولهذا أرادت فرنسا دعوة "كلّ مَنْ لا يطيقون رؤية دكتاتور يقتل شعبه". وإذا جاز القول بأنّ هذا التصريح لا يبدو مفاجئاً تماماً، بالمقارنة مع تصريحات أخرى تصعيدية أطلقها ساركوزي في مناسبات سابقة، خاصة حين انطلقت حملته الرسمية للانتخابات الرئاسة؛ فإنّ ما لا يجوز هو ذلك الجزم بأنّ جميع المشاركين في الاجتماع يطيقون سقوط النظام السوري، بسبب أنهم لا يطيقون ما يرتكبه الأسد من مجازر. نسبية الأمر هنا لا تخفى إلا على السذّج، والأجندات ـ على كثرتها، وتطابقها هنا، أو تناقضها هناك ـ لا تنهض على التعاطف مع الشعب القتيل، بقدر ما تقتفي أثر المصالح الحية، خشية أن تُقتل!

خير للمرء أن يبدأ من المضيف نفسه، ساركوزي، الذي كان "البطل" أو "الرائد" على نطاق الاتحاد الأوروبي في تدشين سياسة حوار مع النظام السوري صيف سنة 2008، من خلال مشروع "الاتحاد المتوسطي"، الذي وُلد ميتاً في الأصل، ولم يكترث أحد حتى بدفنه! آنذاك برّر ساركوزي دعوة الأسد (وكان عندئذ، مثلما كان في البدء ويظلّ حتى ساعة سقوطه، دكتاتوراً ابن دكتاتور)، بالقول إنّ سورية بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية، غير المكرّسة (في حدود علمه كما قال، وفي علم الجميع كما نقول) لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط. ذاك كان منطقاً صورياً سليماً تماماً، وكان استبعاد سورية من هذه القمة هو الذي سيشكّل القرار الشاذّ غير الطبيعي. ومن جانب ثانٍ، مَنْ الذي كان سيعيب على ساركوزي دعوة الأسد إلى منصّة الإحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، ما دام الحابل اختلط يومها بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل... "واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط؟

ولهذا، وبصرف النظر عن قيمته الأخلاقية العالية، فإنّ النداء الذي وجهته إلى ساركوزي، يومئذ، ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها العفو الدولية، وميدل إيست واتش، والإتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان، والشبكة الأورو ـ متوسطية، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب...) ظلّ حبراً على ورق في ما يخصّ مطلب الفقرة الأولى: "تناشدكم منظمات حقوق الإنسان الموقعة على هذه الرسالة إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في ذلك البلد في إطار محادثاتكم" مع الأسد.  وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنر (حامل كيس الرزّ بوصفه أيقونة الغوث الدولي، وصاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول، و"غير المبتهج شخصياً" بزيارة الأسد إلى باريس) تكفّل بهذا الأمر، كما قيل، ودسّ في جيب وليد المعلّم، وزير خارجية النظام، لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!

لكنّ ساركوزي لم يكن أوّل رئيس فرنسي يراقص طغاة الشرق الأوسط، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا؛ أم في عقودها الوسطى (كانت أوّل زيارة لحافظ لأسد قد تمّت في عهد فاليري جيسكار ـ ديستان، سنة 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان)؛ هذا إذا اعتبر المرء الأنشطة الدبلوماسية في تلك الأحقاب بمثابة تمرينات مبكّرة واستطلاعية على ما ستسمّيه التنظيرات الديغولية "السياسة العربية لفرنسا". بل، في وجهة أخرى لنقاش الأمر، لعلّ المرء لا يبالغ إذا اعتبر أنّ خيار ساركوزي في الانفتاح على النظام السوري كان أقرب إلى السلوك الطبيعي، المنتظَر، غير المستغرب البتة، من هذا الرجل بالذات. وثمة ما يغري بالقول إنّ ساركوزي لم يكن يواصل طبعة جديدة معدّلة، على هذا النحو أو ذاك، من ذلك الإرث السياسي والدبلوماسي، بل هو في الواقع سعى إلى طيّ تلك الصفحة نهائياً، واستبدالها بأخرى جديدة ذات شخصية مختلفة وستراتيجيات جيو ـ سياسية متعددة السمات، لكنها في العموم أقرب إلى الرؤية الأمريكية والأطلسية لشؤون الشرق الأوسط وشجونه.

والحال أنّ سياسة فرنسا العربية بدأت في صيغة أسطورة، وتواصلت هكذا في الأذهان والأبحاث والفرضيات... ليس أكثر! وباستثناء عبارة الجنرال شارل دوغول الشهيرة، عن الدولة العبرية بوصفها "شعب النخبة، الواثق من نفسه، والمهيمن"، وقراره حظر بيع الأسلحة إلى الأطراف المتحاربة، فإنّ سجّل العلاقات العربية ـ الفرنسية ليس حافلاً بالكثير من الوقائع التي تشيّد سياسة متكاملة مترابطة، من نوع يستحقّ صفة "السياسة العربية" التي ظلّ البعض يتشدّق بها طويلاً. هنالك سلسلة مبادرات بالطبع، لعلّ أشهرها كان حديث فرنسوا ميتيران، الرئيس الفرنسي الأسبق والأوّل الممثّل لليسار الفرنسي في الجمهورية الخامسة، منذ ربيع 1982، من سدّة الكنيست الإسرائيلي، أمام مناحيم بيغن وإسحق شامير وسواهم من صقور الليكود، عن ضرورة الدولة الفلسطينية؛ وكذلك استقباله ياسر عرفات في باريس، وكانت تلك أوّل زيارة رسمية يقوم بها القائد الفلسطيني الراحل إلى قوّة عظمى غربية.

غير أنّ هذه، فضلاً عن مشاركة فرنسا في إخلاء فصائل المقاومة الفلسطينية بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، كانت مبادرات مسجّلة باسم ميتيران شخصياً، ولم يكن من حقّ اليمين الفرنسي تجييرها لصالح أسطورة السياسة العربية لفرنسا، كما شاع أنّ الجنرال دوغول رسمها. هي، في الآن ذاته ودونما مفارقة، لم تكن جزءاً من تراث السياسة العربية للحزب الاشتراكي الفرنسي، بدلالة السجال الذي أثارته تصريحات ليونيل جوسبان في ربيع 2000، وكان آنذاك رئيس الوزراء، حين استخدم مفردة "الإرهاب" في وصف عمليات "حزب الله" ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. (في المقابل، لم يتجاسر أيّ من لائميه، في صفّ اليمين الديغولي خاصة، على اعتبار تلك العمليات مقاومة مشروعة!).

وأمّا الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك (صاحب الموقف الشهير من "روائح" المهاجرين التي تدفع الفرنسي إلى الجنون!) فإنه ـ منذ تولّيه الرئاسة الأولى سنة 1995 وبعد خطبته الشهيرة في جامعة القاهرة، وزيارته الأشهر إلى القدس الشرقية حين تشاجر مع مرافقيه من عناصر الأمن الإسرائيليين ـ لم يفعل الكثير لتوطيد السياسة الديغولية تجاه العالم العربي، بل لعلّه جمّد النهج باسره، وأسبغ عليه مقداراً من الشخصنة لا يليق بالسياسة الخارجية لقوّة عظمى. المفارقة أنّ شيراك (الذي أعلن مقاطعة احتفالات فرنسا بالعيد الوطني لأنّ الأسد سوف يكون على المنصّة، بدعوة من ساركوزي) هو نفسه شيراك الأمس القريب: الذي دعا بشار الأسد (ولم يكن الأخير يشغل آنذاك أيّ منصب رسمي، ما عدا رئاسة "الجمعية المعلوماتية السورية"!) إلى قصر الإليزيه، بترتيب مباشر من رئيس الوزراء اللبناني القتيل رفيق الحريري، وهنا الشطر الثاني من المفارقة.

بيد أن ساركوزي شاء أن ينفرد ـ ضمن إطار هوسه، شبه المرضي، بالانفراد عن جميع رؤساء فرنسا ـ بادعاء القدرة على حمل معظم، وربما جميع، بطيخ الشرق الأوسط بيد واحدة، سواء أكانت تلك اليد فرنسية خالصة من حيث المظهر الخارجي والأغراض القريبة المعلَنة، أم كانت تنوب عن اليد الأمريكية من حيث الدواخل والأهداف البعيدة الخافية. تعهد، تارة، بإعادة تأهيل النظامين الليبي والسوري في ناظر ما يُسمّى "المجتمع الحرّ"، لمرامٍ شتى تتراوح بين عقد قمّة الإتحاد المتوسطي بأيّ ثمن، وتشجيع الاعتدال، والنأي عن التطرّف، وتوقيع العقود؛ فتنتهي الحال إلى تمنّع العقيد معمر القذافي إزاء العقود والمشروع المتوسطيّ على حدّ سواء، وإلى حيرة بشار الأسد بين أحمدي نجاد وإيهود اولمرت. وطرح، طوراً، فرنسا ضامناً، مسرحياً تماماً (بدلالة زيارته الاستعراضية إلى بيروت بعد انتخاب ميشيل سليمان، صحبة قادة الأحزاب السياسية الفرنسية + الروائي اللبناني الفرانكوفوني أمين معلوف!) للسلام الأهلي اللبناني وللمحكمة الدولية؛ فانتهت زيارته إلى ما يشبه إسدال الستار على فصل ناقص، أو معلّقة نهايته عند اندلاع الجولة التالية، بعد جولة اجتياح بيروت في 7 أيار (مايو) 2008.

واليوم، إذْ تقطع الدبلوماسية الفرنسية خطوة إضافية نحو مزيد من الانخراط في الملفّ السوري، فإنّ الخيارات سوف تدخل إلى الثلاجة مؤقتاً، وريثما يحسم الفرنسيون أمرهم حول تجديد ولاية ساركوزي الرئاسية، أم إحالته إلى التقاعد وانتخاب الاشتراكي فرنسوا هولاند رئيساً لسنوات خمس تالية. صحيح، من حيث المنطق البسيط، أنّ سياسة الحزب الاشتراكي تجاه النظام السوري أكثر تشدداً، وكانت خلال السنوات الماضية أكثر انفتاحاً على المعارضة والمجتمع المدني السوري؛ إلا أنّ تجارب الديمقراطيات الغربية تعلّمنا درساً بسيطاً، وبليغاً تماماً في آن: ما يُقال خلال الوجود في صفّ المعارضة، لا يتطابق بالضرورة مع الأفعال بعد الانتقال إلى الحكم.

وفي كلّ حال، لن يمتد عمر النظام السوري إلى أجل أطول يمكن أن يغري ساكن قصر الإليزيه، كائناً مَنْ كان، بإعادة النظر في مصير معلَن، صار ملك الشعب السوري، ورهن أسابيع.