وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 22 يونيو 2018

كرة القدم وتهذيب الحَكَم


في البدء كان حَكَم كرة القدم آدمياً من لحم ودم وأعصاب، ومن صواب تارة وخطأ طوراً، وحسن تقدير هنا أو سوء قرار هناك، فالكمال المطلق ليس من سمات بني البشر. لهذا أفلح الأرجنتيني دييغو مارادونا، قبل 32 سنة، في تسجيل هدف ــ "تاريخي"، والحقّ يُقال! ــ مستخدماً يده، التي تواضع بعدئذ فاعتبر أنها "يد إلهية". يومها كان الحكم التونسي علي بن ناصر قد شاهد الكرة تدخل مرمى بيتر شلتون، حارس منتخب إنكلترا، لكنه لم يشاهد اليد، البشرية أو الإلهية، فاحتسب الهدف وأرسل المنتخب الأرجنتيني إلى نصف النهائي، ثمّ النهائي ضدّ ألمانيا الغربية. ولهذا، أي انتماء الحكم ابن آدم وحواء إلى صفّ الخطّائين، وقع عشرات الحكّام في مئات الأخطاء القاتلة، على امتداد 170 سنة من تاريخ اللعبة الحديث.
اليوم، بفضل تقنية الفيديو كحكم مساعد، لم يعد في وسع أيّ مارادونا جديد أن يستخدم أيّ يد في تمرير الكرة إلى المرمى؛ بل بات شبه مؤكد أنّ الأهداف المسجلة، أو ضربات الجزاء المشكوك في احتسابها أو إغفالها، أو رفع بطاقة حمراء مباشرة، أو الخطأ في هوية اللاعب الذي تمّ توجيه الإنذار أو البطاقة الحمراء إليه؛ كلها خاضعة لقرار شاشة الفيديو. صحيح أنّ المرجع الأول ما يزال الحكم ابن البشر، لكن الحكم ابن التكنولوجيا ليس صاحب القول الفصل إذا ارتاب المرجع في قراره، فحسب؛ بل إنه ببساطة مرجع المرجع أيضاً، وأصلاً!
الفارق بين التونسي بن ناصر، والأوروغوائي أندريس كونها (الذي احتسب ضربة جزاء لفرنسا في مباراتها مع أستراليا مؤخراً بعد العودة إلى الفيدو)، لا يقتصر على تثبيت القفزة الهائلة التي شهدتها اللعبة في جزئها التحكيمي، الحاسم والمركزي بالطبع. ثمة هنا افتراق سيكولوجي وشعوري ودرامي، والبعض يتحدث عن تحوّل جوهري في "فلسفة" اللعبة؛ عماده الانتقال من سطوة القرار الآدمي الخطّاء، إلى سلطة الجزم التكنولوجي الذي لا يأتيه الباطل. كانوا، في الاتحاد الدولي للعبة مثلاً، يقولون إنّ أخطاء الحكام جزء من "آدمية" اللعبة، حتى إذا كان هذا البُعد يتحقق على حساب العدل في القرار. لكنهم اليوم يرجحون إحقاق الحقّ، حتى إذا انتقص من تلقائية اللعبة وحيوية استقبالها في المدرجات.
وضمن صفوف المعترضين على تطبيق تقنية الفيديو في تحكيم كرة القدم، والرياضات المشابهة التي تجتذب الحشود، يسود رأي فيه نظر بالفعل، يساجل بأنّ كرة القدم هي رياضة البرهة الحارّة، المتقدة حماساً وترقباً، فرحاً وسخطاً، مناصرة أو عداءً، اعتدالاً أو غلوّاً... ولذلك فشتان بين أن تقفز المدرجات عندما يصفر الحكم ضربة جزاء، تاييداً للقرار أو اعتراضاً عليه، وبين أن تنتظر الأقدام نصف دقيقة، أو حتى دقيقة كاملة من جمر مشتعل، حتى ينتهي الحكم ابن آدم من الحملقة في شاشة الحكم ابن التكنولوجيا، فيطلق الصفارة المقدسة التي تؤذن باتخاذ القرار النهائي سلباً أو إيجاباً. هذا رأي أحد ثقاة الكرة المعاصرة، المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو، الذي لا يعترض على استخدام تقنية الفيديو، بل يطالب بتحسينها على نحو يكرّم حاجة الجمهور إلى الانطلاقة العفوية، سواء في الأفراح أم في الأتراح.
والحال أنّ النفور من تطبيق التقنيات المعلوماتية الأحدث على الرياضة، وبالأحرى على الفنون بصفة عامة، لا يخلو من حسّ الاتباع والتشبث بالتقاليد وتكريس الأعراف السائدة؛ الأمر الذي يسفر عن موقف متزمت، أو حتى رجعي، في تسخير التكنولوجيا لصالح هدي الآدمي إلى سُبُل أفضل لتذوّق الإبداع، والمباهج عموماً. فإذا تأثرت بخدمات الكومبيوتر حقول مثل السينما والمسرح والأوبرا والفنون التشكيلية (مثال المعارض التي تعتمد الرشق الضوئي للأعمال، مصنفة وفق منظومات الموضوع أو الحقبة أو الأسلوبية، بدل عرض الأعمال ذاتها)، فلماذا تحجم رياضة مثل كرة القدم عن سبيل مماثل، طمعاً في تهذيب الحكم وتصويب قراراته، وبالتالي تحكيم التحكيم؟
المرء هنا يتذكر الأكاديمي الألماني ألبريخت سونتاغ، في كتابه "هوية كرة القدم الأوروبية"، الذي نافح بقوّة ضدّ الفكرة القائلة بأنّ اللعبة أفيون الشعوب، ورأى في المقابل أنها ملاط يرصّ حجارة الشعور القومي الجَمْعي في معمار فريد من نوعه، يتجاوز الحساسيات السياسية والاجتماعية والفكرية والطبقية في البلد الواحد. وهو يضرب مثال فوز ألمانيا على إنكلترا في بطولة أوروبا لسنة 1996، فيعتبر أنّ كرة القدم انقلبت إلى بوتقة هائلة صهرت الذات الوطنية الألمانية في وحدة متجانسة، وطوت الكثير من المشاعر التي أعقبت اندحار الفلسفة النازية وانهيار الإجماع الشعبي حول خصوصية "النموذج الألماني". فللمرء أن يتخيّل، في ضوء هذا المثال، ما الذي كانت ستفعله " يد إلهية" إنكليزية ما، إذا حشرت الكرة في الشباك الألمانية وغفل عنها حكم غير أوروبي، أسيوي، أو مسلم، مثلاً!
وإذا آمن المرء ذاته بأنّ كرة القدم، وليس العولمة، هي الظاهرة الأكثر كونية من حيث القدرة على اختراق الحدود وتحطيم الحواجز وعبور الموانع؛ فإنّ الشراكة بين الحكم الآدمي في الساحة، والحكم الافتراضي الجاثم في شاشة الفيديو، تكتسب صفة الضرورة.
شاء من شاء وأبى من أبى، غنيّ عن القول!
 17/6/2018