وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 22 يونيو 2018

أحلاف الاستشراق


كانت الألمانية هيدفيغ كلاين (1911 ـ 1942) مولعة باللغة العربية، فقهاً وأدباً وتاريخاً؛ وفي سنة 1937 أنجزت أطروحة دكتوراه متميزة، قوامها تحقيق فصل "أخبار أهل عُمان من أوّل إسلامهم إلى اختلاف كلمتهم"، من كتاب الشيخ العلامة سعيد الأزكوي "كشف الغمة الجامع لأخبار الأمّة"؛ الذي يُعدّ أحد أفضل المراجع عن التاريخ الإباضي. لكنّ أقدار ولادة كلاين لأسرة يهودية انعكست على الأطروحة، التي لقيت إطراء شديداً من أستاذها المشرف أرتور شاده، إذْ امتنعت إدارة الجامعة عن تثبيت الدرجة، لأنّ الدكتوراه لم تعد تُمنح لليهود في تلك الحقبة من تاريخ ألمانيا الأكاديمي.
كذلك أنقذتها من التسفير إلى معسكرات الاعتقال شهادةٌ من اللغوي المستعرب هانز فير، صاحب القاموس الشهير، الذي كان قد انتسب إلى الحزب النازي (كما يكتب شتيفان بوخن في مقالة نشرتها مجلة "قنطرة" مؤخراً)، وكُلّف بترجمة كتاب أدولف هتلر "كفاحي" إلى اللغة العربية، وكان بحاجة إلى مختصين في اللغة العربية. لم يكن هذا كافياً، في الواقع، وتوجب أن تغادر كلاين ألمانيا حين توفرت لها تأشيرة إلى الهند؛ حيث عاكستها الأقدار مجدداً، فتوقفت رحلة الباخرة حين شنّت ألمانيا الهجوم على بولندا، وانتهت رحلة كلاين بالتسفير إلى أوشفتز، حيث قضت هناك.
تنتمي هذه السيدة، والعشرات سواها من السيدات والسادة، إلى تلك الفئة التي صُنفت في التاريخ الاستعماري تحت مسمّى "المستعرب" Arabist، إذا شاء المرء إقامة تناظر اشتقاقي مع المسمى الآخر الأشهر، أي "المستشرق"  Orientalist. قاموس أكسفورد الشهير يعرّفه هكذا: "أجنبي متخصص في اللغة العربية"؛ وقاموس وبستر الجامعي يصفه بـ"مختص باللغة العربية والثقافة العربية أو طالب يدرسها"، أو "مساند للمصالح العربية"؛
وقاموس التراث الأمريكي يقتفي أثر وبستر في إدراج دراسة اللغة والثقافة، لكنه يطوّر العنصر الثاني هكذا: الذي "يميل إيجاباً إلى الاهتمامات والسياسات العربية".
والمستعربون هؤلاء متعددو المنابع والأهواء والمواهب، فمنهم الأكاديمي أو السفير، ومنهم الأديب أو ضابط الإستخبارات، ومنهم المعلّق السياسي أو عالم الآثار. ويكفي، لتبيان "تعددية" تكوينهم، أن يسرد المرء لائحة محدودة للغاية من أسماء كبارهم: ريشارد برتون، الليدي هستر ستانهوب (أو "ملكة البدو" في اللقب الظريف!)، توماس إدوارد لورانس (العرب)، جرترود بيل، هاري «عبد الله» فيلبي، دانييل بليس (مؤسس «الكلية البروتستانتية السورية» التي ستتحوّل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت). ثمّ، في لائحة أخرى معاصرة، ريشارد مورفي، هيرمان إيلتس، روبرت بلليترو، دافيد نيوتن (السفير ما قبل الأخير للولايات المتحدة في عراق صدّام حسين)، والسفيرة الشهيرة أبريل غلاسبي، صاحبة الرسالة الشفهية الشهيرة بأنّ الولايات المتحدة ليس لها رأي في نزاع العراق الحدودي مع الكويت.
والحال أنّ هذه الفئة انقرضت، أو تكاد، بعد أن تكفلت عوامل عديدة بإسباغ شخصية مرذولة على حامل الصفة، خاصة بعد إقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي، والانحياز المطلق الذي طبع السياسات الخارجية للولايات المتحدة والغرب إجمالاً لصالح أمن الكيان الصهيوني. وهكذا اتُّهم المستعرب بالانحياز إلى العرب (!)؛ أو الخلط بين عشق اللغة العربية، وبين الحماس للقضايا العربية؛ أو السعي إلى تفهّم السخط العربي تجاه الغرب عموماً، وأمريكا خاصة. وهذه حال أجاد مورفي تلخيصها ذات يوم، حين هتف بمرارة: "أصبحت كلمة مستعرب ترادف مواقعة العرب فكرياً ودبلوماسياً"!
والإنصاف يقتضي القول إنّ الاستعراب لم يكن حميداً دائماً في المعسكر الآخر، الاشتراكي، وخاصة الاتحاد السوفييتي؛ لسبب مبدئي أوّل هو أنّ الدراسات التاريخية خضعت لاشتراطات إيديولوجية مسبقة ذات صلة بالجمود العقائدي (موقف إرينا ميخايلوفنا سميليانسكايا من الطبقة العاملة المصرية مثلاً، أو آراء استاذها فلاديمير بوريسوفتش لوتسكي حول سوريا ولبنان)؛ وكذلك لأنّ مؤسسة الاستعراب الاهمّ، معهد الاستشراق، كان اسماً على مسمى. وفي سنة 1989، بتأثير مناخات الشفافية التي أشاعها ميخائيل غورباتشيف، علّق أساتذة معهد لينينغراد للدراسات الشرقية، صور 300 من كوادر المعهد الذين تعرضوا للتنكيل بين 1918 و1972.
من جانبه يميل وليام كواندت، الباحث والمؤرّخ المعروف المختصّ بالدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى إنصاف المستعربين عن طريق وضع تصنيفاتهم التنميطية في سياق سياسي ملموس: "المستعربون لا يشبهون أمثالهم من أخصائيي المناطق، في المخيّلة الشعبية على الأقلّ. فإذا أشار المرء إلى أفريقاني، مثلاً، فإنّ الصورة الناجمة سوف تصف شخصاً مختصاً بتاريخ ولغات وثقافات أفريقيا، ممّن قضى في القارة ردحاً من الزمن، ولن تتبادر إلى الذهن تداعيات تدعو إلى ذمّ الرجل. لكنّ صفة المستعرب تستدعي، على الفور، دلالة سيئة: هو ذاك الذي صرف الوقت في تعلّم اللغة العربية، أو عاش زمناً طويلاً في العالم العربي، وهو معادٍ لإسرائيل بالضرورة"!
يبقى أن أعيد التشديد على قناعة شخصية بأنّ انطواء صفحة الاستعراب لا يستدعي الأسف، أياً كانت الإيجابيات التي اقترنت بتراثه؛ بل لعل الواجب يقتضي اليوم، في ضوء كشوفات إدوارد سعيد حول مؤسسة الاستشراق تحديداً، وضع المستعرب المرتبط على المحكّ ذاته الذي استحقه المستشرق، من حيث الصلة مع عقائد مثل الفاشية والنازية والستالينية، أو توفير خدمات مباشرة للمشاريع الاستعمارية الأوربية. وقد تحتاج المعادلة إلى ميزان ذهب بين تحقيق فصل حول الإباضية في عُمان، وترجمة "كفاحي" إلى اللغة العربية برعاية نازية!
20/5/2018