وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 22 يونيو 2018

هل أنقذناهم من الحبّ القاسي؟

في كتابها الجديد "أخوة على حدة: مواطنو إسرائيل الفلسطينيون والعالم العربي"، الذي صدر بالإنكليزية السنة الماضية، عن منشورات جامعة ستانفورد؛ تناقش مها نصار السُبُل التي اعتمدها المنتجون الثقافيون الفلسطينيون خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي في تحديد موقعهم ضمن الميادين الاجتماعية والثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي، والعالم الثالث إجمالاً؛ أي خارج النطاق الإسرائيلي. وفي قلب هذه المقاربة العريضة، تتوقف نصار عند قضايا حساسة اكتنفت التاريخ الثقافي الفلسطيني خلال تلك الفترة، وتتلمس طبائع استقبال النقد العربي لكتابات محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي وراشد حسين. كذلك تثمّن، على نحو ملموس وتفصيلي، الدور الحيوي الذي لعبته الدوريات الأدبية والصحف العربية التي كانت تصدر داخل إسرائيل، في تخطي الحواجز وخلق مناخات تضامن عابرة للحدود الجغرافية والقومية.
والمؤلفة أستاذة مساعدة في "مدرسة دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في جامعة أريزونا، وفصول كتابها هذا، الهامّ والطليعي في ميدانه، تتناول ستراتيجيات المقاومة، وصراع السرديات، والنقاش حول الاستعمار والتحرر، والنطق باسم القضية الفلسطينة. وفي فصل يحمل عنوان "أبطال معقدون"، تناقش نصار صيغة البطولة المركبة التي وُجد فيها كتّاب فلسطين خلال تلك الحقبة؛ وما أثاره مفهوم "أدب المقاومة"، بصفة خاصة، من سجالات في عالم عربي كان يعيش عصر تحوّلات وهزائم، في ذروة تعطشه إلى الحداثة والمعاصرة. وهذا ملفّ يحيل، تلقائياً، إلى مقالة محمود درويش الشهيرة "أنقذونا من هذا الحبّ القاسي"، التي نشرها في "الجديد"، 16 حزيران (يونيو) 1969؛ وأعادت نشرها مجلة "الطليعة" البيروتية، في أيلول (سبتمبر) من العام ذاته.
والحال أنّ درويش كان يشارك في سجال عربي، شهدته مدينة بيروت عبر مجلة "الطريق" أساساً، حول ما إذا كان شعر الأرض المحتلة يستحق صفة "المقاومة"؛ فأعلن أدونيس، مثلاً، أنه غير مقتنع بالمفهوم لأنّ شعر المقاومة هو ذاك الذي يحمله المواطن على شفتيه وفي قلبه كما يحمل المقاتل بندقيته. وحين نقل غسان كنفاني السجال إلى صفحات مجلة "الهدف"، شارك أدونيس أيضاً، فاعتبر أنّ صفة "الإصلاح" وليس "المقاومة" هي الجديرة بذلك الشعر الذي يكتبه درويش والقاسم وزياد. من جانبها، في التعليق على السجال، اعتبرت نصار أنّ هذا الرأي يتبنى تعريفاً للمقاومة ضيقاً بعض الشيء، يُغفل الطرائق المعقدة التي لجأ إليها المجتمع والثقافة في إسرائيل للتأثير على هؤلاء الشعراء من جهة، وكيف جابهوا تحدي التأطير والقهر.
قبل مقالته الشهيرة، كان درويش قد كتب مقالة أخرى بعنوان "هذا الاهتمام... يهمنا"، جاء فيها: "إن أهمية شعرنا الموضوعية تكمن في التحام هذا الشعر بكل ذرّة من تراب أرضنا الغالية... بصخورها ووديانها وجبالها وأطلالها... وإنسانها الذي يظل مرفوع الراس رغم ما تنوء به كتفاه من أعباء، وما يشدّ يديه وإرادته من قيود... إنسانها الذي قاوم ولا يزال يقاوم الظلم والاضطهاد ومحاولات طمس الكيان والكرامة القومية والإنسانية، وكأني به يقول: اللهم لا أسألك حملاً خفيفاً بل أسألك ظهراً قوياً... ثقيلة هي الأحمال، وقوية هي الظهور". ولا تخفى في هذه الفقرة نبرة التشديد على فكرة المقاومة، بالمعنى الإنساني والسياسي والثقافي الأعرض، وليس على مستوى التعبير الشعري وحده.
أمّا في "أنقذونا من هذا الحبّ القاسي"، فإنّ درويش بدأ من تسجيل امتنان أدباء الأرض المحتلة للاهتمام العربي بنتاجهم الإبداعي، الامر الذي يشرّف، ويحفّز على "تحقيق إنجازات أدبية أكبر"؛ مع تشديد على تفصيل نوعي: "لم يكن أدبنا خارق الموهبة حين عرف كيف يختار مكانه في حركة الصراع. إن المواجهة الحادة واليومية كانت أعنف من أن تتيح لنا فرصة الوقوف طويلاً أمام المدارس الفكرية المختلفة. ولعل هذه الخاصية، بما تفرع عنها من جوانب، هي اللافتة التي استوقفت المراقبين في العالم العربي". ومن هنا ينتقل درويش إلى اهتمام عربي "أضفى على الكثيرين من النقاد والكتّاب ميزات العاشق القديم الذي لا يرى في الحبيبة إلا ما يبرر العبادة". لهذا، تابع درويش، لا يجوز الاستمرار في استقبال مظاهر هذا الحبّ "دون أن نقول: هذا شعر غير منقطع أبداً عن حركة الشعر في البلاد العربية، وإن كان غير مواكب لها مواكبة يومية". وأيضاً: "لقد تربينا على أيدي الشعراء العرب القدامي والمعاصرين، وحاولنا اللحاق بأسلوب الشعر الحديث بعدما تعرفنا على رواد هذا الشعر في العراق ومصر ولبنان وسوريا". وأمّا "ملخّص القول" فهو ضرورة وضع تلك الحركة الشعرية "في مكانها الصحيح، بصفتها جزءاً من حركة الشعر العربي المعاصر عامة".
فهل أنقذناهم، حقاً، من حبّ قاسٍ رأى في نتاجهم إحالة خلاصية تنأى بالوجدان العربي الجريح بعيداً عن حسّ الاندحار الحضاري، الذي كان يفرز في حقول الإبداع مزيجاً من التيه والاغتراب والركود والتجريب المجاني والحداثة الجوفاء؟ لقد احتاج درويش إلى عقود أعقبت صدور مجموعته التاسعة "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، لإقناع محبّيه بأنّه كي يكتب شعراً جديراً بالمعنى الأنبل للمقاومة، يتوجب عليه أن يكتب شعراً رفيعاً يخاطب الإنساني والكوني. وليست خافية حكايات صراعه مع قارئه، حول هذا التعاقد الشاقّ تحديداً.
 10/6/2018