وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 22 يونيو 2018

أبو خليل القباني في شيكاغو

 أنجز الروائي والمؤرخ الفلسطيني تيسير خلف بحثاً فريداً حول المسرحي والموسيقي السوري الرائد أحمد أبي خليل القباني (1833 ـ 1903)؛ يخصّ رحلته المأثورة إلى أمريكا، وشيكاغو تحديداً، ربيع 1893، للمشاركة في فعاليات "المعرض الكولومبي الدولي"، الذي كان الأضخم في زمانه. وقد وفد القباني على رأس فرقة "مرسح العادات الشرقية"، كما كان المسرح يُسمى يومذاك، والتي أسسها من 50 ممثلاً وعازفاً وراقصاً، غالبيتهم الساحقة من شابات وشباب بيروت وجبل لبنان ودمشق وبيت لحم كما يشير خلف، استجابة لقبول السلطان العثماني عبد الحميد دعوة من الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون للمشاركة في المعرض.
 ولا يفوت خلف التشديد، منذ مدخل تحقيقه الممتاز في رحلة القباني هذه، إلى أنّ المعرض كان "فرصة رائعة لدراسة وفهم واحدة من أندر تجارب التفاعل الثقافي المباشر بين منطقتي شرقي المتوسط، بما تحمله من أبعاد تاريخية ودينية لها تأثيرات عميقة في الوجدان الغربي المسيحي، وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تنظر إلى نفسها، منذ ذلك الوقت، بوصفها قمة هرم الحضارة الغربية". وأضيف، شخصياً، أنه إلى جانب احتضان أنشطة ثقافية وفنية تنتمي إلى عوالم غربية وشرقية مختلفة، ومتباينة؛ كان المعرض مناسبة أولى حاشدة، وكونية كما يتوجب القول، لاحتكاك الحضارات والثقافات، ثمّ الأديان على نحو خاصّ؛ ثمّ الحوار التفاعلي فيما بينها أوّلاً، وكذلك إزاء تيارات علمانية أو لادينية احتدمت حولها نقاشات ساخنة، ومثمرة، في "برلمان الأديان" الذي ضمّ 46 قسماً!
تحقيق خلف، الذي نال جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات، وصدر مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات ضمن سلسلة "ارتياد الآفاق"؛ يتوزع على ثلاثة أقسام، ثالثها ملحق يتضمن عشرات الصور الفوتوغرافية التي تغطي الرحلة، ومشاهد من العروض المسرحية والفنية، وملصقاتها، وبعض النساء والرجال المشاركين في الأنشطة، فضلاً عن تفاصيل داخلية في السفينة "إس إس ويرا" التي حملت الفرقة إلى أمريكا. وبين أطرف هذه الصور نسخة من "إخبارية" حسني البيروتي، أحد عملاء جهاز "الخفية"، الذي كتب تقريراً كيدياً ضدّ أبي خليل، لأنه "وصف المسلمين بالاستبداد والنصارى بالمظلومين"، وأنه "بصدد أخذ بعض مشايخ العرب وجبل الدروز والنصيريين إلى شيكاغو"، وأنّ "ما يخطط له هذا الخائن جعل الخطب والكلمات باللغة الإنجليزية كي لا يفهم المسلمون ما يقال عنهم"!
القسم الثاني في الكتاب يقترح عدداً وافراً من الوثائق، العثمانية التي تتصل بالمراسلات والتحضيرات للمشاركة في المعرض، ومشروع القرية التركية؛ وتلك الخاصة بالمعرض والعروض والفرق وأسماء المشاركين، إلى جانب الرحلة البحرية وتفاصيل الدخول إلى أمريكا؛ ثمّ أخبار ومقالات الصحف، العربية والأمريكية، في تغطية المعرض إجمالاً والعروض "التركية" بصفة محددة. ويعمد خلف إلى ترجمة معظم هذه الوثائق عن لغات أخرى، كما يُدرج بعض التقارير التي نشرتها جريدة "كوكب أميركا" التي كانت تصدر باللغتين العربية والإنكليزية، في نيويورك.
القسم الأوّل، والأغنى في يقيني، هو الذي يستعرض تاريخ المشاركة وملابساتها، من الفكرة الأولى حين وصلت الدعوة الأمريكية إلى الباب العالي؛ مروراً بالتعقيدات الكثيرة التي اكتنفت اختيار الفرقة والبرنامج (خاصة في ضوء التباينات الإثنية والأنثروبولوجية والدينية، بين عرب وترك من جهة، وعرب/ ترك مسلمين أو مسيحيين شرقيين في مواجهة أمريكا التوراتية حيث ينتمي المشرق كله إلى "الأراضي المقدسة" من جهة ثانية)؛ وليس انتهاءً بالرقابات العديدة التي خضعت لها عروض القباني (مشكلات لباس النساء، الرقص الشرقي، التأويلات الدينية، الضغوط السياسية...). هذا كله في سياق التنوّع الواسع، والمفاجئ حقاً إذْ يُنظر إليه ضمن معطيات تلك الحقبة من تاريخ سوريا، والسلطنة العثمانية إجمالاً.
في إطار "مسرح العادات الشرقية"، قدّم القباني ثمانية عروض: "الدراما الكردية"، "الدراما القلمونية"، "المروءة والوفاء"، "عرس دمشقي"، "عنتر بن شداد"، "هارون الرشيد"، "العروس التركية"، و"الابن الضال". ويشير خلف إلى حُسن استقبال هذه العروض، سواء في الصحافة الأمريكية أو الجمهور العريض وأعضاء الكونغرس؛ وكذلك التمييز لأول مرة بين وظيفة "مدير الفرقة" التي تولاها بطرس أنطونيوس واختص بالشؤون الإدارية والمالية"، مقابل وظيفة "مدير التمثيل" التي تولاها القباني في تبشير بولادة مفهوم المخرج لأوّل مرّة في التراث المسرحي العربي. ويكتب خلف: "تؤكد جميع المقالات التي كتبت حول أعمال الفرقة على فكرة الإبهار البصري متعدد المستويات، فالخشبة لا تكاد تهدأ حتى تعود للامتلاء مرّة أخرى بممثلين يشعون حيوية".
وهذا، في رأي خلف، "يردّ على نقاد الأدب العربي المدرسي من أمثال محمد يوسف نجم وعلي الراعي وشاكر مصطفى وغيرهم، والذين أقاموا أحكامهم القطعية الظالمة حول مسرح القباني بالاعتماد على نصوص المسرحيات المنشورة له. فتجربة شيكاغو والتغطية الصحفية المواكبة لها تؤكد أنّ النصّ كان مجرد عنصر ثانوي في الفرجة المسرحية المبهرة". وليس غريباً، إذن، أن يجمع "كلّ من كتبوا عن هذه التجربة على احترافيتها العالية، وامتلاك القائمين عليها لأدواتهم الفنية"؛ إلى جانب "تقنيات التمثيل والأداء، وعلاقة الخشبة بالصالة، وتوظيف الموسيقى درامياً".
عمل تيسير خلف نموذج رفيع على الجهد البحثي المتمق الذي يستحقه القباني، رائداً مسرحياً وحامل رسائل ثقافية إنسانية وكونية أيضاً.
27/5/2018